المحتوى الرئيسى

هل يمكن اختزال الأخلاق في عمليات عصبية بالمخ؟

08/07 20:08

تمثل محاوله اختزال الاخلاق في العمليات العصبيه احدي الصيحات الرائجه في العقود الاخيره علميا وفلسفيا، وبخاصه، بعد الطفره التي شهدتها الدراسات العصبيه المعرفيه Cognitive Neuroscience منذ الربع الثالث من القرن العشرين. يعني هذا الاختزال غالبا نفي الابعاد الدينيه او الانسانيه في تكوين الاخلاق بحيث يتحول الشعور الاخلاقي لدي الانسان الي ما هو اقرب بالعمليات الرياضيه او الاستجابات العصبيه المبرمجه التي تتم في المخ. كما انه يلقي بظلاله علي مسائل عمليه تتعلق بعلاج الاضطرابات النفسيه والعصبيه، بل وعلي وضع القوانين في المجال العام.

وتسبب ندره المصادر الاصليه المتوفره عن ذلك الاتجاه بالعربيه غياب القدره علي اتخاذ موقف موضوعي او دراسه ذلك الاتجاه بمعزل عن الحساسيات الفكريه القبليه، بما يسمح ببروز مواقف ايديولوجيه او انفعاليه قليله الحظ من الرصانه العلميه او الفلسفيه: اما بالقبول والاحتفاء الساذج، النابع من الرهبه التي يلقيها التذرع بالعلم علي تلك الاتجاهات، او بالرفض المتعصب والتشهير دون التفات الي الانجازات والتساؤلات الحقيقيه التي يضعها برنامج العلوم العصبية علي الطاوله.

هذه ترجمه لمقاله "الاخلاق في المخ" نشرها استاذ الفلسفه المتفرغ بجامعه سادبري بكندا، فنسنت دي نورشيا، في مجله الفلسفه الان، العدد 87. وفنسنت دي نورشيا مختص بفلسفه الاخلاق، وهو فيلسوف طبيعاني (الطبيعانيه تيار فلسفي يؤكد ان القوانين الطبيعيه تحكم العالم كله بعيدا عن ايه عوامل روحيه) اهتم مبكرا ببرنامج العلوم العصبيه المعرفيه. اي ان تلك الورقه ليست تستهدف نقد ذلك الاتجاه بل هي في الحقيقه احدي منتجاته.

هذه النسخه من المقاله مختصره لما هو اقل من نصف حجم المقاله الاصليه، لانني اثرت الا ازعج القارئ بمسائل قد لا تهمه، واضيعه بين تفاصيل تلهيه عن الافكار المحوريه بالمقاله. كما حاولت ان انقل مرامي الكاتب بلغه يسيره وان لم تطابق حرفيا النص الاصلي. علي ان تنشر النسخه الاصليه كامله في وقت لاحق ان شاء الله.

"لقد ان الاوان لتنتقل الاخلاق من ايدي الفلاسفه الي البيولوجيا"

ادوارد ويلسون: السوسيوبيولوجي.. اطروحه جديده

لماذا كانت للحيوانات امخاخا؟ اليس لكي تحيا في بيئات مريبه محفوفه غالبا بالمخاطر. فالحس الواعي هو ما يساعدهم علي التعاطي مع المواقف التي تتطلب استجابه بديعه غير تقليديه في التخطيط والخيار من بين مسارات متعدده للفعل. فلا شك مطلقا في ان تطور قوي المخ، الذكاء، كان العامل الحاسم في مسيره التطور، لان قوي المخ تضفي ميزات تكيفيه هائله.

يتفق عالم الاخلاق العصبيه Neuroethicist انطونيو داماسيو مع ذلك. ففي كتابه التاسيسي في الاخلاق العصبيه "خطا ديكارت" (2006) يبني داماسيو علي زعم سبينوزا[1] الشهير بان مبدا الاخلاق عند الانسان هو "مسعاه للحفاظ علي وجوده"، ان ثمه بالاضافه الي الدافع البيولوجي للبقاء: الرغبه في الرفاه، والتكاثر (سوف اطلق علي ثلاثتهم: الرفاه wellbeing). لكن الامر لا ينتهي هنا. لا يوضح داماسيو ما الذي يفعله المخ بالضبط ليجعل البدائيات والادميين اكثر قدره علي التكيف مع البيئه المتغيره. ثمه اقتراح واحد ابقت عليه ساره سولّا (PLoS Biology, April 2006)، وهو ان "وظيفه امخاخنا المحوريه هي ان تكون وسيطا بيننا وبين العالم الخارجي. ولهذا الوسيط وجهان اساسيان: معالجه مدخلاتنا الحسيه، والتحكم بحركتنا".

يحمل المخ حقيقه مركبا من الروابط الحس-حركيه، تربط احساساتنا بحركتنا. لكننا ينبغي ان ننظر في ما تتضمنه عمليه "معالجه المدخلات الحسيه". ما يدعي عاده "معالجه المعلومات" هو بالنسبه للمخ مساله خلايا عصبية تستلم وتسلم رسائل. تنشا الخبره الواعيه وتنمو عبر ائتلافات متبادله بين الشبكات العصبية (اعني: خلايا عصبيه متصله فيما بينها)، مع ما يقوم به نظام التفعيل الشبكي من تحفيز للانتباه المتيقظ. كيفيه معالجه المخ لذلك الكم الهائل من الرسائل المتسلمه من، والمرسله الي، الجسد، هو، في رايي، مفتاح فهم الكيفيه التي يمكن بها المخ الانسان من تكوين حس اخلاقي.

يمكن الكم الهائل من المشابك[2] الكهروكيميائيه فائقه السرعه، المخ من معالجه وفرز كم الرسائل الذي ينساب من مستقبلات الجسد الحسيه، ثم يطلق سريعا الاستجابات الحركيه المطلوبه التي تحافظ علي رفاهيه الكائن. لم تكن تلك الاتصالات العصبيه الهائله لتكون ممكنه لولا الروابط عاليه السرعه نسبيا بين الخلايا العصبية.

نقل المعلومات اذن هو ما يفعله المخ do، لا ما يعمله work، بينما الجسد هو ما يقوم بالعمل. لذلك، فانه لمن الخطا والتضليل الخطير، الحديث عن المخ كاله كما يفعل البعض. المخ هو وسط اتصال كهروكيميائي[3] لا اله او جهاز ميكانيكي. ما هو اكثر من ذلك، هو ان النظام المنطقي والرياضي اكثر تحديدا وصلابه وميكانيكيه من ان يناسب تكيف الجسد مع البيئه. لذا لم يكن من الممكن القول انه يعمل، ولا ان المخ الموصل هو كومبيوتر رقمي يعتمد المنطق الثنائي. بدلا من ذلك، فان منطقا اكثر غموضا قائم علي الاحتماليه، هو ما سيكون انعكاسا اصدق للقوي والاستغراقات والمواقع والاحجام المتنوعه للروابط المشبكيه.علاوه علي ذلك، يعاد توصيل المسارات والعمليات العصبيه وتركيبها باستمرار. تلك هي المرونه العصبيه الملحوظه للمخ الموصل.

يلعب التفكير الواعي والقرارات الاراديه دورا في السلوك اللااخلاقي او الذي لا يتعلق به حكم اخلاقي كدوره في السلوك الاخلاقي. وليس التوجيه العقلاني للسلوك اخلاقي بطبيعته. فعندما اعتبر افلاطون العقل "فاضلا" فقد كان ذلك لانه جعله مخولا بكبح شهوات الجسد وعواطفه ورغباته المريبه. علي النقيض، منذ ثلاث مائه عام مضوا، اكد باروخ سبينوزا ان المشاعر العاطفيه emotions انما هي مشاعر جسديه ذكيه قيّمه تسهم في ان رفاه الفاعل، ومثل ذلك اخلاقي في اساسه. لقد دعمت الاخلاق العصبيه حديثا رؤيه سبينوزا.

تزود المشاعر السلبيه المخ بنظامه الدفاعي، اذ تستدعي حاله "الكرار او الفرار Fight or Flight"[4] في مواجهه الاخطار المحتمله. يمكن ان يقرا الشعور بالواجب الاخلاقي، كما اعتقد، علي نحو شبيه بذلك، باعتباره صوره من التحفيز نابعه من الخوف من عقاب او ضرر او ضياع مستقبلي. لكن علي الرغم من ان القوي السيكولوجيه كالاحساس الواعي وصناعه القرار والمشاعر، تضع الاساس للذكاء الاجتماعي، الا انها تبقي شخصيه. انها تعجز لذلك عن تاسيس ذكاء اجتماعي بين-شخصي او امكانات اخلاقيه ذات صله بذلك.

هنا، سوف استكشف الروابط بين المخ الاجتماعي والاخلاقي. ما اقوله يمثل فيما يبدو نظريه تجريبيه عقلانيه للذكاء الاخلاقي.

قولنا الذكاء الاخلاقي ليس مساله تحكم منطقي في الاستعمال اللغوي. بل هو، بحسب نظريه هوارد جاردنر عن الذكاءات العديده، صوره من الذكاء الاجتماعي ذي الاساس الحيوي العصبي، يتعلق بالاهتمام برفاه الاخرين ويتعلق كذلك بكيفيه تعاملنا مع الاخرين. فالذكاء الاجتماعي ربما يكون هو العامل العقلي الاهم في تاسيس الذكاء الاخلاقي. (قبل المتابعه، اود ان انبه علي بعض انواع الاصابات الدماغيه تدهم فرضيه كون المخ هو مستقر الذكاء الاجتماعي: فعلي سبيل المثال، تلف القشره الجبهيه الاماميه prefrontal cortex من الجهه البطنيه الانسيه ventromedial والقشره الجبهيه الحجاجيه orbitofrontal cortex كان وراء سلوك فينياز جاج المنفلت المعادي للمجتمع واللااخلاقي).

(فينياز جاج هو عامل سكك حديديه تعرض لضربه علي راسه بتلك العصا التي يمسكها في الصوره، اصابت الفص الجبهوي الايسر من المخ، مما ادي الي تغير جذري في سلوكه الاخلاقي، وقد كانت حالته تلك من الحالات المبكره التي وجهت العلماء والفلاسفه الي فكره تموقع كل وظيفه من وظائف المخ في احدي مناطقه)

يتمتع المخ بمجموعه من امكانات التواصل الاجتماعي: اللغه الشفهيه، لغه الجسد، التطابق العصبي Neural mirroring، المشاعر الاجتماعيه. فقد اظهر البحث البديع لـ جاليز وجولدمان واخرين في جريده "اتجاهات في العلوم المعرفيه" (1998) انه في حاله التطابق العصبي: عندما يري الانسان او القرد فعلا حركيا يؤديه نظير له، تُفعل نفس الخلايا العصبيه التي تفعل عند ممارسه الكائن نفسه لنفس الفعل؛ اي ان ملاحظه فعل هو في الحقيقه ان تحفزه لديك عصبيا باستخدام نفس البنيه العصبيه كانك تفعله. لذا ففي النمط التطوري الكلاسيكي، يبني التطابق العصبي الذكاء الاجتماعي علي منصه الذكاء الحس-حركي للمخ المطوره مسبقا.

علي اثر ذلك الارتباط الوثيق بين الذكاءين الاجتماعي والاخلاقي، اقترح اننا نتصور الذكاء الاخلاقي كصوره تفاعليه اجتماعيه من الذكاء؛ تحديدا، الذكاء الاخلاقي هو ذكاء يتيح السلوكيات الاجتماعيه التفاعليه التي تفيد المرء نفسه والاخرين. وتتضمن صور المنفعه المشتركه: رد الفعل الايجابي، والميل لزياده وتنميه الفوائد التي يستمتع بها المتضمنون؛ الامر الذي يشجع بالتالي الفواعل الاخلاقيه علي تكرار سلوكياتهم الاجتماعيه الجيده. وكنتيجه لذلك الانتفاع المشترك المتولد، تنتشر القيم والتقاليد والفضائل الاخلاقيه علي نطاق واسع وبسرعه بين المجموعات الاجتماعيه. علاوه علي ذلك، يمكن الذكاء الاخلاقي الفواعل، ليس فقط من الالتزام بالعيش بسلام وتعاون مع الاخرين، بل ايضا، من التمييز بين النافع والضار من التفاعلات الاجتماعيه.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل