المحتوى الرئيسى

وليد فكري يكتب: في حضرة التاريخ (12)

08/06 10:25

تقول الحكمة “اجعل أصدقاءك قريبين، واجعل أعداءك أقرب”

ولو أن ثمة بديل للاقتراب المادي، فهو في عصرنا هذا الاقتراب المعنوي، بالاطلاع على ما يخص العدو والاستزادة من المعلومات والمعارف عنه حتى لكأنك تعيش معه..  بلى، فمعرفة ما يخص العدو وتفاصيل أوجه حياته المختلفة هو من أهم مكونات حروب وصراعات ومنافسات هذا العصر، بل والعصور السابقة كذلك.

وإن كانت منافسات الدول والأنظمة تقوم على المعلومات الاستخباراتية وعمليات الاستطلاع والتجسس والتحليل، فإن ثمة وسيط معلوماتي أساسي لهذه المنافسات والصراعات على مستوى الشعوب هو: القراءة.

وللأسف، فإن مجتمعنا -المصري والعربي- ليس على المستوى المطلوب فيما يخص التعامل مع ذلك الوسيط،  فبينما تقاس مبيعات الكتب في أوروبا وأمريكا بالملايين فإنها عندنا تقاس بالآلاف.

ويزيد الأمر سوء معاناتنا من آفة، هي الحساسية من الاطلاع على تاريخ العدو/الخصم، سواء كان تاريخه الخاص، أو التاريخ المكتوب بأيديه.

انظر حولك، كم من معارفك المتحمسين للقضية الفلسطينية بشكل خاص والعربية بشكل عام لديه اطلاع على الكتابات الإسرائيلية عن تلك القضية أو عن تاريخ أرض فلسطين؟ كم منهم يسمع عن دكتور إسرائيل شاحاك -وهو لا صهيوني بالمناسبة- وكتاباته عن التاريخ اليهودي أو عن يوشع براور وكتاباته في موضوع الحروب الصليبية في فلسطين والشام؟ من منهم سمع عن برنارد لويس وكتاباته عن السياسة الإسلامية أو كتابه عن فرقة الحشاشين الشهيرة في العصور الوسطى؟

في ضوء إجابتك يمكنك أن تعرف أي نقص يعتري فهمنا للآخر.

في العصور الوسطى -وتحديدا عصر الحروب الفرنجية في الشرق والمعروفة بـ “الصليبية”- عاش رجل اسمه الأمير أسامة بن منقذ، هذا الرجل كان من أبرز أبناء مدينة شيزر الشامية، وكان أديبا ومحاربا وسياسيا ودبلوماسيا ومؤرخا، وضع كتابا يصنفه الكثيرون كأول سيرة ذاتية معروفة في التاريخ هو “كتاب الاعتبار”.

في هذا الكتاب دون ابن منقذ تجاربه وأسفاره ومشاهداته وما جمع من معلومات خلال سنوات عمره الذي تجاوز التسعين، وقضى جزء كبيرا منه يتنقل بين المدن المحتلة من قبل الفرنجة في المشرق، ويتعرف قادتهم وأمراءهم وفرسانهم، ويدخل بيوتهم وحصونهم خلال فترات الهدن ومعاهدات السلام، ليخرج لنا عمله الرائع الذي يقدم لنا أقرب وأدق وأعمق صورة عن حياة الغزاة الصليبيين في الشام.

والسؤال الآن: لماذا لم يتحسس معاصرو أسامة بن منقذ من رحلاته هذه ولماذا لم يتعرض للاتهام بالخيانة والتطبيع مع العدو؟ بل بالعكس لقد احترموه واستعانوا به وعلى رأسهم صلاح الدين الأيوبي نفسه.

الإجابة هي أن الرجل قد عاش في عصر كان العرب فيه يقدرون المعرفة ويثمنون الجهد المبذول لجمعها، ويتعاملون معها باعتبارها أهم مواطن القوة للتغلب على العدو.

وعلى غرار ابن منقذ  كان الرحالة ذو الأصل الغرناطي الحسن بن محمد الوزان المعروف بـ “ليون الأفريقي”، فهذا الرجل الذي انتقل صبيا للمغرب إثر سقوط غرناطة في يد الإسبان، تنقل بين بلدان شمال أفريقيا وصولا إلى مصر، وتعرض للاختطاف في البحر من قبل قراصنة أوروبيين قدموه هدية للبابا في روما، والذي تبناه وجعله يعتنق الكاثوليكية،  فبقي في روما فترة لا بأس بها معاصرا حروب العثمانيين ضد أوروبا، ثم هرب لتونس وعاد لدينه -الذي لم يغيره إلا ظاهريا خلال فترة أسره- ودوّن تجاربه ومشاهداته، فلماذا لم يتهم بالخيانة وموالاة العدو؟ لنفس الأسباب السابقة.

والآن، نرى أناسا يعتبرون مجرد قراءة كتابات الجانب الآخر -العدو/الخصم- في التاريخ محض هرطقة وتطبيع، وغيرهم يخشى قراءتها بحجة أنها قد تؤثر سلبا في نظرتنا للعدو وقد تخلق حالة من التعاطف والتطبيع معه، وآخرون يعتبرونها مجرد مضيعة للوقت لا طائل منها، فهم يرفعون الهتافات والشعارات المناهضة لهذا العدو دون أن يتسلحوا بالضروري من المعرفة حوله.. ولا أعرف بحق الله كيف للمرء أن يطمح إلى هزيمة عدو يجهل أغلب ما يتعلق به وتتلخص فكرته عنه في صور نمطية جاهزة ومتواترة، بل ويمتد تحسسهم هذا إلى أي كتابات لأي “آخر” رغم أن هذا الآخر يضم أسماء معروفة بالموضوعية والأمانة مثل جوستاف لوبون وزيجريد هونكه وجون لويس اسبوزيتو وغيرهم، وكذلك رغم أن من قاموا بترجمة وتحقيق كتابات الآخر – عدوا أو صديقا أو محايدا- هم أناس ثقات متمكنون من التاريخ مثل دكتور قاسم عبده قاسم ودكتور سهيل زكار وغيرهما، وهم حريصون على تصحيح وكشف أية مغالطات أو أخطاء ترد في النصوص الأصلية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل