المحتوى الرئيسى

قهوة تركية في أثينا

08/04 23:38

اثينا تموج ببحر من المشاعر والشعارات، في اجواء لم تشهدها عاصمه اوروبيه منذ ان اعلن عن تاسيس الاتحاد الاوروبي بعد اتفاقية ماسترخت عام 1992

لا يحتاج الزائر الي كثير تدقيق حتي يتبين له انه في عاصمه حائره قلقه، تحاول ان تتعايش مع واقع من الوحشيه الراسماليه فُرضت علي البلاد من دون رحمه، فشروط الاتحاد الاوروبي حولت هذا البلد العريق والصغير نسبيا الي مجتمع من الغاضبين، فمن وجهة نظر الكثيرين هنا فان الصفقه المهينه التي فرضها الاتحاد الاوروبي، واضطرت الحكومه اليونانيه الي توقيعها، تعني ان يخضع الشعب اليوناني سنوات طويله لقيود من العبوديه الاقتصاديه لكي يتمكن من سداد الديون الضخمه التي بلغت 323 مليار دولار.

منظر اثينا من تله الاكروبوليس التاريخيه الشامخه يبدو كئيبا، بنايات قديمه منهكه، الوانها باهته، تتشح بسواد ترسب علي جدرانها بسبب عوادم السيارات، ولم يحفل اصحابها باعاده طلائها، فاولويات الحياه في اليونان بعد سبع سنوات من الازمه الاقتصاديه لا تفي بالضرورات فضلا عن الكماليات.

اجتهد المرشد السياحي ذو الثلاثين ربيعا في ان يشرح بحماس تاريخ التله: مجمع بنايات حكوميه قديمه يعود تاريخها الي القرن الخامس قبل الميلاد، عبرت مراحل متعدده، تعاقبت علي ادارتها قوي متعدده: الرومان ثم البيزنطيون مرورا بالعثمانيين، وفي وسطها يقع مبني البارثنون معبد الهه الحكمه المسماه (اثينا) عند اليونانيين القدماء، والذي اخذت مدينه اثينا اسمها عنها.

وبينما كان اليكس منهمكا في شرح الذكاء المعماري للبارثنون، لاحظت لافته صدئه بجوار البارثنون تتحدث عن ترميم المبني، بدا المشروع عام 1975 بتمويل مشترك من الحكومه اليونانيه والاتحاد الاوروبي. اعرف ان المشروع متعثر حاليا بسبب نقص التمويل، وقد يحتاج ثلاثين عاما لكي يكتمل ان بقي مستوي الترميم بشكله الحالي البطيء.

عندما انتهي اليكس من شرحه حول البارثنون تعمدت الاشاره الي الشراكه المتعثره بين اليونان والاتحاد الاوروبي لاعاده تجديد المبني الاهم في تاريخ اوروبا القديم، وفيما اذا كان سبب تعثرها هو الازمه الاقتصاديه الحاليه، فرد اليكس بان استكمال الترميم سيكون مهمه وطنيه مقدسه، يجب ان يستمر الترميم، وسيقوم به اليونانيون انفسهم ان تلكا الاوروبيون، لكنني تابعت مشككا فيما ان كانت اليونان قادره علي القيام بذلك وسط الاضطراب الاقتصادي الحالي، وحاله الحيره التي تهيمن علي المجتمع اليوناني، وتساءلت اذا ما كانت اليونان قادره بالفعل ان تعيش خارج منطقه اليورو في هذه المرحله، لم يحتمل اليكس ما بدا له جهلا بعظمه اليونان مخيبا للامال من جانبي، وانطلق يتحدث بحماس عن ان اليونان بتاريخها وفلاسفتها وديمقراطيتها العتيقه هي التي صنعت اوروبا، وانها تجاوزت ازمات اشد وانكي، امسك اليكس بيدي وجذبني الي طرف الساحه واشار بيده الي البحر وقال: هناك وفي عام 480 قبل الميلاد رست سفن الفرس، احتلوا اثينا وحرقوها، ولكن اثينا بقيت ورحل الفرس، ثم احتلها الرومان ومكثوا قرونا ورحلوا، وفي عام 1458 احتلها العثمانيون، رحلوا وبقيت اثينا!

اعرف ان الناس عندما يواجهون ازمات عصيه يعودون الي سرد امجاد الماضي، وهذا ما لمسته في حديث الكثير من اليونانيين هذه الايام.

لا شك ان اليونان ذات تاريخ هو الاعرق في الحضاره الاوروبيه، لكن ذلك لم يشفع لها امام المؤسسات الدائنه الثلاث: مجموعه الدول الأوروبية وفي مقدمتها المانيا والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، لقد اسرفت اليونان في الاستدانه منذ منتصف التسعينيات من اجل سداد العجز في موازنتها، كما ان نسبه الفساد المالي الرسمي تجاوزت عشره بالمئه من مجموع الدخل القومي، وعندما بدات ديون اليونان تتراكم، وبدا واضحا للدائنين ان اليونان سوف تتاخر عن السداد، فرضت المؤسسات الدائنه شروطا قاسيه لخفض الانفاق الحكومي حتي تستمر في تقديم ديون جديده، لكن اجراءات التقشف هذه اضرت هي الاخري في قدره الاقتصاد اليوناني علي النمو، وهكذا وقعت البلاد في حلقه مفرغه، الي ان عجزت رسميا عن سداد ديون مستحقه عليها لصندوق النقد الدولي اخر الشهر الماضي، ودخلت في عداد الدول المتخلفه عن السداد، وهو ما شُل الحياه الاقتصاديه وادي الي تعطيل البنوك وحصر النقود التي يمكن للفرد سحبها من البنك بمبلغ لا يزيد علي ستين يورو في اليوم الواحد.

توقفت عن المضي في الحوار الذي بدا يوتر اليكس، واثرت ان اهز راسي موافقا، وبدلا من الحديث عن الازمه الاقتصاديه بدات استفسر عن معبد اجورا الذي يظهر في الوادي اسفل التله، محاولا الانسحاب مثل اليكس الي الماضي الجميل.

اكتملت زياره تله الاكروبوليس، وهبطنا باتجاه حي بلاكا، حيث كانت المدينه القديمه تقع قبل ان تتحول الي مجمع للمطاعم والمحلات السياحيه، وفي الطريق الي بلاكا اصر اليكس ان نصعد صخره بانيكس التي كان يجتمع اليونانيون عليها للتداول في شؤونهم السياسيه، لقد كانت البرلمان الديمقراطي الاول في التاريخ كما وصفها الدليل السياحي بفخر، ومن هنا انطلقت فلسفه افلاطون عابره للحدود حتي صارت الديمقراطيه نظاما عالميا مقدرا، المشكله هي ان ديمقراطيه اثينا الحديثه ليست مثاليه كتلك التي نظّر لها افلاطون قبل 2500 عام في جمهوريته الفاضله.

العنوان الرئيس في احد الصحف المحليه يقول :( ليس لدينا ديمقراطيه بل ديكتاتوريه اليورو)، وهذا صحيح، فالازمه الاقتصاديه المستمره صنعت ازمه سياسيه عاتيه، لقد رفضت الديمقراطيه اليونانيه شروط المؤسسات الدائنه، وصوت 61 بالمئه في استفتاء شعبي ضدها، ولكن ديكتاتوريه اليورو اجبرت رئيس الوزراء اليكسس تسيبراس علي قبول حزمه شروط شبيهه بالحزمه التي رفضها الشعب. كان اليكسس اليساري الشاب امل قطاعات شعبيه واسعه في الخلاص من كابوس التقشف المفروض علي البلاد، لقد خاض حزبه حملته الانتخابيه تحت شعار رفض ديكتاتوريه اليورو، الا انه اكتشف بعد شهور من المفاوضات الشرسه ان لا صوت يعلو فوق صوت المال. يقف اليوم اليكسس امام حزبه وناخبين موقفا حرجا، لقد برر موافقته علي الشروط الاوروبيه علي انها تراجع تكتيكي، اضطر اليه كي يمنع انهيارا مدويا للاقتصاد اليوناني، وخروجا محتملا من مجموعه اليورو الاوروبيه. لقد اخطا اليكس في توقعاته الديمقراطيه واصاب في تقديره لعواقب رفض الشروط فاتخذ قرارا شجاعا هو اهون الشرين، وكان صريحا مع شعبه، ولكن فالثمن السياسي الذي سيدفعه في المقابل لن يكون قليلا، وعليه الان ان يدافع عن وحده حزبه الذي بدا بالتفكك.

كان الاستفتاء اليوناني مهرجانا وطنيا ركز علي معاني الكرامه الوطنيه في مواجهه الاهانه التي راها اليونانيون في التشدد الاوروبي، حاولت الحكومه ان تستخدم نتيجه الاستفتاء لتحسين الشروط الاوروبيه، لكن الالمان والبنك الاوروبي لم يتراجعا بعد الاستفتاء، ووجدت الحكومه نفسها امام خيارين: اما الموافقه علي شروط التقشف التي ستزيد الفقراء فقرا، وترفع نسبه الضريبه، وتقلص موازنه الخدمات والتقاعد، واما ان يتوقف الدائنون عن الاقراض، وتنهار البنوك وتفلس الخزينه. كان علي اليونان ان تخضع حتي لا تنهار اقتصاديا، عندها اضطرت حكومه سيريزا اليساريه ان تتجرع السم الاوروبي، وارتفعت اصوات يساريه متحمسه رافضه للصفقه، متهمه رئيس الوزراء بالتفريط، واندلعت مظاهرات شبابيه مندده بالحكومه.

الراي السائد في اوساط حزب سيريزا واحزاب اليسار الاخري في اوروبا ان التشدد الاوروبي ولا سيما الالماني كان بمثابه درس لشعوب جنوب اوروبا بان التوجه نحو اليسار لن يجدي نفعا في انقاذ اقتصاديات دول المتوسط المتعثره، ثم لو ان المانيا الدائن الاكبر لليونان وافقت علي اعاده جدوله الديون وتخفيف التقشف، لشجع ذلك دولا اخري علي التلكؤ في تطبيق التقشف المطلوب منها، لا سيما ايطاليا واسبانيا والبرتغال وايرلندا، ومع ان اقتصاد اليونان صغير نسبيا، الا ان اقتصاديات بَعْض هذه الدول ضخم، ولو تسامحت المانيا مع مطالب اليونان، فسوف تطمع هذه الدول في نفس المعامله، وهو ما تراه المانيا خطرا كبيرا علي اقتصادها.

الطريق عبر دروب حي بلاكا تحفل بمحلات تجاريه تبيع الهدايا التذكاريه، جدران الحي لوحه ضخمه متواصله من الجرافيتي، تعكس رسوماتها حاله رفض شبابي واسع للواقع السياسي والاقتصادي، الارقام الرسميه تشير الي ان نسبه البطاله بلغت ٢٥ بالمئه، ولكنها في اوساط الشباب تجاوزت خمسين بالمئه، لقد اجبرت الازمه الاقتصاديه كثيرا من الشباب علي العوده الي قراهم والعيش مع ابائهم وامهاتهم لتخفيف وطاه الحياه المستقله في المدن، قال لي اليكس انه محظوظ لانه وجد عملا، فالسياحه هي القطاع الوحيد الذي لا يزال يعمل بنشاط، وتقول الاحصاءات الرسميه ان اعداد السائحين ازدادت بنسبه ٢٠ بالمئه عن صيف العام الماضي، لكن التفاؤل النسبي الذي ابداه اليكس لم يكن ما وجدناه لدي بائع سُبٓح الكهرمان الذي توقفنا في محله، وبصوت محبط ذكر البائع ان تجارته قد كسدت، لم يعد احد يشتري شيئا، وتوقف اهل البلد عن اقتناء السُبٓح التي يسمونها كابولاي، وهي من المقتنيات التي يحب الرجال اقتناءها، وتعد من لوازم الزينه والتانق.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل