المحتوى الرئيسى

الحكمة من اشتراط النماء في مال الزكاة

08/04 15:56

يشترط الفقهاء ان يكون المال الذي تؤخذ منه الزكاه ناميًا بالفعل، او قابلاً للنماء، ومعني النماء بلغه العصر: ان يكون من شانه ان يدر علي صاحبه ربحًا وفائده، اي دخلاً او غله او ايرادًا – حسب تعبير علماء الضريبه – او يكون هو نفسه نماء، اي فضلاً وزياده، وايرادًا جديدًا، وهذا ما قرره فقهاء الاسلام، وبيَّنوا حكمته بوضوح ودقه.

قالوا: النماء في اللغه الزياده، وفي الشرع نوعان: حقيقي وتقديري فالحقيقي: الزياده بالتوالد والتناسل والتجارات ونحوها، والتقديري: تمكنه من الزياده بان يكون المال القابل لذلك في يده او يد نائبه (حاشيه ابن عابدين: 2/7 نقلاً عن البحر).

قال ابن الهمام: ان المقصود من شرعيه الزكاه -مع المقصود الاصلي من الابتلاء- هو مواساه الفقراء، علي وجه لا يصير هو فقيرًا، بان يعطي من فضل ماله قليلاً من كثير. والايجاب في المال الذي لا نماء له اصلاً يؤدي الي خلاف ذلك عند تكرر السنين، خصوصًا مع الحاجه الي الانفاق (فتح القدير: 1/482).

بهذا يتحقق - ماديًا - قول رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: “ما نقص مال من صدقه” (رواه الترمذي من حديث ابي كبشه الانماري، وقال: حسن صحيح). فان ذلك الجزء القليل الواجب من مال كثير نام مغل لا ينقصه ابدًا، وفقًا لسنه الله تعالي.

والمعتبر -كما قلنا- ان يكون المال من شانه ان ينمي ويغل، بتحقق قابليته للنماء، لا ان ينمي بالفعل، فان الشرع لم يعتبر حقيقه النماء بالفعل، لكثره اختلافه وعدم ضبطه، كما قال صاحب المغني.

وقال في البدائع: “ان معني الزكاه -وهو النماء- لا يحصل الا من المال النامي”.

“ولسنا نعني به حقيقه النماء، لان ذلك غير معتبر، وانما نعني به كون المال معدًا للاستنماء بالتجاره او بالاسامه (رعي الحيوان في الكلا المباح)، لان الاسامه سبب الحصول الدر (اللبن) والنسل والسمن، والتجاره سبب لحصول الربح، فيقام السبب مقام المسبب، وتعلق الحكم به، كالسفر مع المشقه ونحو ذلك (بدائع الصنائع: 2/11).

وهذا اذا لم يكن المال نفسه نماء، اي غله وثروه جديده، فهذا لا تجب الزكاه الا بحصوله بالفعل، كالحبوب والثمار ونحوها، اذ هي نفسها نماء وفضل مكتسب وايراد جديد.

وانما اخذوا هذا الشرط من سنه الرسول -صلي الله عليه وسلم- القوليه والعمليه، التي ايَّدها عمل خلفائه واصحابه، فلم يوجب النبي -صلي الله عليه وسلم- الزكاه في الاموال المقتناه للاستعمال الشخصي، كما في الحديث الصحيح: “ليس علي المسلم في فرسه ولا عبده صدقه” قال النووي: “هذا الحديث اصل في اموال القنيه لا زكاه فيها” ا هـ (صحيح مسلم بشرح النووي: 7/55). ولم يفرض النبي -صلي الله عليه وسلم- الزكاه الا في الاموال الناميه المغله، وكان الموجود منها في بلاد العرب عده انواع:

منها: الانعام السائمه وهي الابل والبقر والغنم.

ومنها: النقود من الذهب والفضه التي يتاجر فيها بعض الناس ويدخرها البعض الاخر.

ومنها: الزروع والثمار، وبخاصه الاقوات منها كالحنطه والشعير، والتمر والزبيب، ومثلها العسل عند من قال به.

ومنها: الكنوز التي دفنها القدماء في باطن الارض اذا عُثِرَ عليها، ومثلها المعادن، وان اختلفوا في مصرف هذين. ايصرف مصرف الزكاه ام مصرف الفيء؟

ولقد اتفق الفقهاء القائلون بتعليل الاحكام الشرعيه -وهم جمهور الامه- علي ان العله في ايجاب الزكاه في الاموال المذكوره، هي نماؤها بالفعل او بالقوه (اي الامكان).

فالانعام ناميه بالفعل، لانها تسمن وتلد وتدر لبنًا، ونماؤها نماء طبيعي، لما فيه من زياده الثروه الحيوانيه، وما يتبعها من اللحوم والالبان…الخ.

وعروض التجاره مال نام بالفعل، لان الشان فيها ان تدر ربحًا وتجلب كسبًا، وان كان النماء فيها غير طبيعي، كنماء الثروه الحيوانيه والزراعيه، فهو نماء صناعي يشبه الطبيعي. واعتبره الاسلام نماءً شرعيًا حلالاً، كما اعتبرته كذلك كل الديانات والقوانين والعقول البشريه الي اليوم، والي ما شاء الله.

والنقود اموال ناميه، لانها بديل السلع، وواسطه التبادل، ومقياس قيم الاشياء، فاذا استخدمت في الصناعه والتجاره ونحوها، انتجت دخلاً، وحققت ربحًا، وهذا هو معني النماء المقصود هنا، فاذا كُنِزَت هذه النقود، وحُبِست عن اداء وظيفتها في التداول والتثمير والانتاج، فان كانزها هو المسئول عن هذا التعطيل، وكان شانه شان من عطل اله سليمه نافعه عن عملها، ونبهه الشارع علي هذا التعطيل بايجاب الزكاه عليه، ليخرجها الي النماء بالفعل، فينفع نفسه، وينفع المجتمع واقتصاده من حوله.

واما الزروع والثمار فهي نفسها نماء وايراد جديد، ومثلها العسل، وكذلك الكنوز والمعادن.

وهذا الشرط الذي اثبته الفقهاء اخذًا من هدي الرسول – صلي الله عليه وسلم – وعمل الخلفاء الراشدين، موافق لمدلول كلمه “الزكاه” نفسها، فان ابرز معانيها في اللغه: النماء، وانما سمي هذا القدر الواجب في المال زكاه، لانه يؤول في النهايه الي البركه والنماء، حسب وعد الله تعالي: {وما انفقتم من شيء فهو يخلفه}.. (سبا : 39)، {وما اتيتم من زكاه تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون}.. (الروم : 39) ويحتمل وجهًا اخر – نص عليه العلماء – وهو ان اخراج هذا الحق، انما يجب في الاموال المعرَّضه للنماء، ولذلك لا يجب في “المقتني” لما لم يكن معرَّضًا للتنميه. ولذلك سقطت الزكاه في المال الذي يتعذر علي صاحبه تنميته بالغصب او الضياع او نحو ذلك. فلما كان مختصًا بالاموال التي تنمي قيل له: واس من نمائه، واخرج زكاه مالك، بمعني انه يخرج من نمائه (المنتقي في شرح الموطا لابي الوليد الباجي: 2/9).

وتطبيقًا لهذا الشرط، اعفي المسلمون منذ العصور الاولي، دواب الركوب، ودور السكني، والات المحترفين، واثاث المنازل، وغيرها من وجوب الزكاه، لانها لا تعد مالاً ناميًا بالفعل، ولا بالقابليه.

وتطبيقًا له ايضًا – قالوا: لا زكاه علي مَن لم يتمكن من نماء ماله بنفسه ولا نائبه، كمال الضمار، وهو في اللغه: الغائب الذي لا يُرجَي، فاذا رُجِيَ فليس بضمار، واصله الاضمار، وهو التغيب والاختفاء (البحر الرائق: 2/222)، وفي الشرع: كل مال غير مقدور الانتفاع به مع قيام اصل المِلْك، كما تقدَّم، فخرج مال الضمار بالنماء، كما خرج بشرط تمام المِلْك.

ولاشتراط النماء في مال الزكاه، قرر العلماء، ان زكاة الزروع والثمار، لا تتكرر بتكرر الحَوْل، فاذا وجب العُشر في الزروع والثمار، لم يجب فيهما بعد ذلك شيء - وان بقيت في يد مالكها سنين. لان الزكاه انما تتكرر في الاموال الناميه، وما ادخر من زرع وثمر فهو منقطع النماء، متعرض للفناء، فلم تجب فيه زكاه كالاثاث، اما الماشيه فانها مرصده للنماء (انظر: المجموع للنووي: 5/569).

ولعل اوسع المذاهب في تطبيق شرط النماء هو مذهب مالك، فانه لا يوجب في الدَيْن -الذي للانسان علي غيره- زكاه لما مر من الاعوام وان كان مرجوًا حتي يقبضه، فاذا قبضه زكَّاه لعام واحد، كالمال المغصوب والمدفون بصحراء او عمران ضلَّ صاحبه عنه، والمال الذي ضاع او سقط من صاحبه، فكله لا يزكَّي الا اذا عاد لربه فيزكِّيه لسنه واحده.

نرشح لك

أهم أخبار رمضان

Comments

عاجل