المحتوى الرئيسى

المرزوقي يكافح أعزل

08/04 13:03

لم يمر الا يوم او بعض يوم علي اغلاق صناديق الاقتراع في انتخابات الرئاسه بتونس حتي رشحت بعض النتائج الاوليه لتؤكد قوه الاستقطاب بين المرشحيْن الابرز: محمد منصف المرزوقي المرشح المستقل واحد عناوين الجديد الصامد، والباجي قايد السبسي مرشح نداء تونس وريث حزب التجمع المنحل واحد عناوين القديم العائد.

وبقدر ما مثلت الانتخابات التشريعيه صدمه كبري بعوده طريد الثوره من باب التفويض الشعبي الحر، فان الانتخابات الرئاسية تتجه الي ان تمثل صدمه مضاده تكثف قدره قوي الثوره علي تجميع شتاتها واعاده ترتيب صفوفها في مواجهه قوي النظام القديم التي غرها انتصارها في التشريعيه ولم تستطع ان تخفي ثقافتها المعاديه للديمقراطيه ونزوعَها الي التغول. وهي ثقافه موروثه عن عقود من انظمه الفساد والاستبداد عرفتها تونس.

ما زال سبر الاراء تقليدا غير راسخ في ديمقراطيه تونس الناشئه، وما زال جانب مما اقيم من مؤسسات في هذا الباب لم يتحصن بتقنيات البحث الدقيق والحياد العلمي الرصين. وهذا ما جعل كثيرا مما قدم من نتائج لسبر الاراء لم يسلم من اثار التجاذب السياسي في مثل هذه الاستحقاقات الانتخابيه المصيريه.

لذلك جاءت النتائج الاولي متضاربه شيئا ما، اذ كان الغالب علي اول التوقعات المستنده الي سبر اراء بعض الناخبين عند خروجهم من عمليه الاقتراع يشير الي تقدم المرشح الباجي قايد السبسي بنسبه 47% علي المرشح منصف المرزوقي بنسبه 26%، وبثت هذه النتائج بالقناه الوطنيه الاولي، ولكنها لم تصمد لتترك المكان لما اوردته قناه نسمه الخاصه المسانده للباجي قايد السبسي ومرشح الجبهه الشعبيه حمه الهمامي.

وهذه القناه لا تخفي عداءها الصريح للمرشح المستقل محمد منصف المرزوقي الرئيس الحالي، حيث ثبتت في شاشتها الخلفيه طوال الجلسات التي عقدتها حول موضوع الانتخابات نسبه 47.2% للسيد السبسي ونسبه 31.5% للسيد المرزوقي. غير ان تتالي النتائج بدا يرسم صوره اخري تشير الي تكافؤ المترشحيْن بنسبه 38% مع امكانيه تقدم طفيف للسيد منصف المرزوقي. وكان من تعبيرات هذه النتائج خروج انصار المرزوقي امام مقر الحمله الانتخابيه باعداد غفيره، في حين اغلقت ابواب مقرات حملات المرشحين الاخرين باكرا.

ولعل اهم ما يمكن الخروج به من النتائج الاوليه هو انخفاض نسبه المشاركه مقارنه بالانتخابات التشريعيه رغم جديه المنافسه. وتبقي نسبه الغياب في صفوف الشباب هي الاعلي. ومن ناحيه اخري فان ابرز ما ميز هذه الانتخابات ما احدثه المرزوقي من اختراق كبير في المجالات الانتخابيه التي كانت اميل للسبسي. وكان الاختراق الابرز في مدينه صفاقس. فهذه المدينه المتربعه في وسط البلاد رغم نعتها بعاصمه الجنوب كانت دائما بوصله البلاد في المنعرجات الحاسمه من تاريخ الحركه الوطنيه، وكان موقفها مرجحا لكفه الثوره قبل فرار بن علي بيومين. وسيكون لميل هذه المدينه الي المرزوقي مثلما تثبته النتائج الاولي اثر حاسم علي مال الرئاسيات.

كما كان للسيد المرزوقي اختراقات مهمه في وسط البلاد حيث كانت مدينه القصرين الي جانبه، وكانت له اختراقات جزئيه في مدن الساحل ومدن الوطن القبلي في الشمال الشرقي من البلاد. وكان تقدمه في ست ولايات (محافظات) جنوبيه منتظرا، وهي ولايات توزر وقفصه وقبلي وقابس ومدنين وتطاوين.

تشير النتائج الاوليه الي ان المرتبه الثالثه كانت لمرشح الجبهه الشعبيه السيد حمه الهمامي. وتضم الجبهه ثلاثه مكونات اساسيه هي حزب العمال الشيوعي التونسي بقياده حمه الهمامي، والخط الوطني الديمقراطي ذي الميول الماركسيه بقياده زياد لخضر، والتيار الشعبي ذي الميول الناصريه بقياده زهير المحمدي. وكانت الجبهه دخلت في تحالف مع نداء تونس في جبهه الانقاذ التي مكنت نداء تونس من ان "يطبع" علاقته في وقت قياسي بالساحه السياسيه ويصبح مشمولا بالتوافق الذي كان مقصورا علي القوي المحسوبه علي الثوره.

ويَرْشَح من الجبهه موقفان من الدور الثاني في الانتخابات الرئاسيه: موقف يميل الي مسانده المرزوقي يمثله انصار حمه الهمامي، وموقف يميل الي مسانده السبسي يمثله انصار التيار الوطني الديمقراطي، في حين يبقي التيار القومي بمكونيه الناصري والبعثي علي هامش الموقفين المذكورين. واذا ساندت الجبهه الشعبيه مرشح نداء تونس فانه ستقدم اقوي الاسباب للقول ان التيار الماركسي في تونس قد يغادر "يسار الفكر" بعد ان غادر "يسار الحركه الاجتماعيه" حينما تحالفت رموز كبيره منه مع نظام بن علي علي مدي عقدين من الزمن.

الرئيس الحالي والمرشح المستقل السيد منصف المرزوقي يقدم نفسه علي انه مرشح الشعب التونسي بكل طبقاته وجهاته. وقد سجل في هذا الامر نقاطا قويه علي حساب منافسه الرئيسي.

فاذا كان نداء تونس لم يجد له حظا في الجنوب التونسي كله من خلال نتائجه الضعيفه جدا في الانتخابات التشريعيه والانتخابات الرئاسيه، فان منصف المرزوقي بما احدثه من اختراقات مهمه في صفاقس والقصرين وقفصه وكثير من مدن الساحل والشمال الشرقي واقصي الشمال يتقدم ميدانيا مرشحا للشعب التونسي برمته بخلاف منافسه الذي يبقي مرشحا لفئات بعينها وجهات دون اخري.

هذه الحقيقه لا يمكن ان تخفي ان منصف المرزوقي اصبح مرشح القوي الجديده، في حين تم تثبيت الباجي قايد السبسي رمز القديم العائد. وان مقارنه بين الانتخابات التشريعيه والانتخابات الرئاسيه تجلو جانبا مهما مما حدث من تغير في قاعده الفرز.

قاعده الفرز الاساسيه في الانتخابات التشريعيه كانت "هوويه" بين نداء تونس وحركه النهضه. وقد عملت المنظومه القديمه علي تابيد هذا الاستقطاب لانها تحتاجه في التخويف من حركه النهضه وتصويرها علي انها مهدده للنموذج المجتمعي التونسي.

وكانت لهذا نتائج عكسيه في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، غير ان تجربه الترويكا بقياده النهضه وما لاقته من صعوبات وعراقيل جعل من استعاده الاستقطاب الايديولوجي مضافا الي الالحاح علي فشل مرحله التاسيس التي لولاها لما كانت انتخابات رئاسية وتشريعيه، كانا سببين كافيين للتخويف من النهضه ودفع الناس الي "التصويت المفيد" وما افضي اليه من نزول النهضه الي المرتبه الثانيه وشبه اندثار للاحزاب الديمقراطيه الاجتماعيه الناشئه.

هذا الاستقطاب يشير الي انقسام في مستوي النخبه والطبقه السياسيه. وقد كانت حركه 18 اكتوبر/تشرين الاول 2005 محاوله فذه لتجاوزه، غير ان مناخات الحريه بعد الثوره وبروز الاسلام السياسي قوة أساسية في المشهد احيت هذا الانقسام وغذته.

وفي الانتخابات الرئاسيه، لم يكن للنهضه مرشحها، وكان هذا كافيا لضمور هذا الاستقطاب وظهور المستوي من الانقسام الذي تعيشه تونس. وهو الانقسام الاخطر لانه الانقسام الذي فجّر الثوره. ومنه انطلق الصراع الحقيقي بين الجموع المفقره والنظام البورقيبي النوفمبري الذي سماه الشباب المنتفض عصابه السراق، وهي من التسميات القاتله التي اجهزت علي نظام بن علي في اللغه قبل ان تجبر رموزه علي الهروب المذل.

هذا الانقسام بين الهامش المفقر والمركز المديني، بين الساحل والداخل، بين مدن الفساد البرجوازي واحياء الصفيح التي تحيط بها، كان سببَ الثوره الرئيسي، وكان راْبه وتوحيد البلاد اجتماعيا هو الهدف الاساسي لثوره الحريه والكرامه، ولكن صراعات الطبقه السياسيه وتجاذباتها الحاده جعلت هذا الهدف في مرتبه ثانيه.

وتاتي الانتخابات الرئاسيه وما حملته معها من الانتخابات التشريعيه من خوف حقيقي من تغول التجمع العائد وسيطرته علي مؤسسات الدوله التشريعيه والتنفيذيه والقضائيه لتؤكد علي حقيقه الانقسام العميق. وتؤكد ان توحيد البلاد اجتماعيا هو شرط نجاح الديمقراطيه في تونس.

ولذلك انضمت الي حمله المرزوقي فئات من المثقفين والاكاديميين المتوجسين من عوده التجمع بتقاليده في لجم الحريات الفكريه والاكاديميه. وانضمت اليه فئات وجهات عانت من الحرمان وهي تعرف ان المرحله الانتقاليه لم تكن قادره علي الاستجابه لانتظاراتها في الشغل وتحسين وضعها الاجتماعي. مثلما تدرك هذه الفئات من المثقفين والاكاديميين والشرائح الاجتماعيه المختلفه وجموع الشباب المعطل والهامش المفقر ان منصف المرزوقي يكافح اعزل ويواجه اله المنظومه القديمه المدعومه بمال سياسي فاسد وبمال خليجي لا يخفيه مانحوه وكان له اثره البالغ علي الحياه السياسيه في المرحله التاسيسيه وفي الانتخابات التشريعيه.

غلب علي حمله المرزوقي الانتخابيه التطوع والمبادره العفويه، وابانت جولاته عن حضور لافت لحشود كبيره كانت مفاجئه لمنظميها، قبل سواهم. واصبح يمثل نجاحه شرطا لانقاذ الديمقراطيه ومنسوبَ الحريه العالي المعمد بدماء الشهداء. وصار انتخاب المرزوقي منعا لغزو المنظومه القديمه مؤسسهَ الرئاسه. وكان من بين الاستعارات القويه، عند تفويض المرزوقي رئيسا مؤقتا للجمهوريه، ان هذه المؤسسه صارت مجالا محررا من الدوله التونسيه. وتاكد هذا المعني بعد تشكيل حكومه التكنوقراط لاستكمال المسار الانتقالي.

رسخت نتائج الانتخابات التشريعيه ان الطريق مفتوح امام نداء تونس لكي يصل الي مؤسسه الرئاسه، غير ان ما بدا يظهر من نتائج تشير الي تكافؤ بين المتنافسيْن يبعث برسائل في غايه الاهميه.

وتتمثل الرساله الاولي في ان التغول كان السبب الاساسي في انبعاث اتجاه انتخابي قوي يعدّل الكفه ويمنع سيطره حزب واحد علي كل مؤسسات الدوله السياديه، وهو حزب سليل ثقافه مناهضه للديمقراطيه ولم يعقد مؤتمره التاسيسي بعد، حتي اعتبره البعض حاله انتخابيه صنعها المال السياسي ومصالح الدوله العميقه اكثر مما هو ظاهره حزبيه حقيقيه. وهو اليوم واقع تحت "اختبار في الديمقراطيه" نجاحه فيه ضعيف. وهو كغيره من الاحزاب المنحدره من تجارب الاستبداد يشعر انه دوما مهدد بالديمقراطيه وبمنسوب الحريه العالي. ويبدو ان اثر مفهوم التغول سيتواصل في الدور الثاني ايضا.

اما الرساله الثانيه فتتمثل في ان ما سكن انصار حزب النداء من صلف وغرور وتطاول علي بقيه ثوابت الحياه السياسيه والمؤسسات الدستوريه المنجزه في المرحله التاسيسيه، تحت نشوه انتصارهم في الانتخابات التشريعيه، سيصطدم بما تشير اليه الانتخابات الرئاسيه من وجود قوه "توازن رادع" حقيقيه مرجعيتها ثوره 17 ديسمبر "المواطنيه" الاجتماعيه. وان الثوره لم تخْب، وان جمرها قد يتحول الي لهب يحرق ما بقي من ارث الاستبداد ونوايا الانقلاب. وان توحيد البلد اجتماعيا بعد ان كان حركه عفويه من الهامش المفقر يبحث اليوم له عن قياده سياسيه. فهل تكون ثوره الحريه والكرامه التي قيل انها ولِدت بلا راس تبحث لها اليوم عن راس؟

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل