المحتوى الرئيسى

اليأس العربي: لحظة مناسبة لاستعادة السريالية المصرية

08/04 12:53

مارس 1941، وبينمت كانت القوات النازيه الالمانيه تبسط سيطرتها علي باريس، وتحرق لوحات الفن الحديث، اقيم في القاهره، تحديداً في بنايه الايموبيليا في شارع شريف (المدابغ سابقاً)، المعرض الثالث للجماعه السرياليه المصريه المعروف باسم الفن الحريه. وفي وقت يخيم شبح الياس علي العالم كله، يقدم المعرض 23 فناناً مصرياً واجنبياً، منهم رمسيس يونان، كامل التلمساني، ايمي نمر، عايده شحاته، ايزاك ليفي، صادق محمد، وفؤاد كامل. وفي المنشور الدعائي يكتب جورج حنين، بارون الحركه السرياليه عالمياً ومؤسس جناحها الشرقي في مصر: "رغماً عن الكوارث الظاهره التي تتبدي في كل مكان اليوم، نثابر علي التفكير في قوي التحريض والدفع التي تجذب الانسانيه نحو عرض البحر اي نحو المستقبل". يختم جورج حنين تقديمه للمعرض بفقره تظل صالحه للحظتنا اليائسه الراهنه، وتعبر عن جوهر الحركه السرياليه ومشروعها: "الياس لا ينتظر ابداً. الياس متدفق. الياس يدفع الابواب. الياس يهز المدن. الياس اعصار تنمو تحته العوالم الخارقه للخلاص".

الطاقه والاراده اللتان امتلكهما جورج حنين وجماعته التي نشات في بلد كان يصفها بانها "قادره علي تبديد كل امل وكل ياس"، هي جوهر المشروع السريالي. وربما لهذا في لحظه خراب مماثله لما عاشه حنين، تغزوها المؤامرات العظمي الكونيه، وداعش التي تهدم وتحرق المتاحف، وتصالح القوي الديمقراطيه العظمي مع انظمه فاشيه بستائر دينيه كايران او السعوديه، تبرز الحاجه لاستعاده حنين وجماعته. اذ تعتزم  مؤسسه الشارقه للفنون، بالتعاون مع معهد دراسات الحداثه المقارنه في جامعه كورنيل، وبرنامج الثقافات البصريه في الجامعه الامريكيه في القاهره، تنظيم مؤتمر دولي بعنوان "السرياليون المصريون من منظور عالمي"، يعقد في 26  نوفمبر المقبل. كذلك يستضيف مركز بامبيدو الثقافي العام المقبل في باريس معرضاً ضخماً عن تاريخ الحركه السرياليه المصريه من اعداد سام بردويلي.

ولد جورج حنين في 20 سبتمبر 1914، لام ايطاليه واب دبلوماسي مصري هو صادق حنين. تلقي الجزء الاكبر من تعليمه في المنزل، اذ كانت العائله دائمه التنقل بين العواصم الغربيه. وفي سن الخامسه والعشرين تخرّج من جامعه السوربون بثلاث شهادات: ليسانس في الحقوق، وفي الاداب، وفي التاريخ. في هذه الفتره كان جورج يجيد الكتابه بالفرنسيه، والعربيه، والانغليزيه، والاسبانيه، والايطاليه احياناً. لكنه سيختار الفرنسيه في بدايه حياته لغه تواصل مع الحركه الثقافيه في باريس، والنخبه الفرانكفونيه في مصر. سيعود حنين الي مصر مرتدياً نظارته السوداء التي تحجب عينيه دائماً، سينجذب الي الحركه السرياليه، التي كانت توجهاً جديداً ضد محاكاه الواقع، فقد اتجه الفنانون الي السيكولوجيا وعالم الاحلام، لانتاج صور هزليه او خياليه، بتعبير اندريه بريتون Andre Breton، احد مؤسسي الحركه السرياليه: "ليست السرياليه وسيله جديده او اسهل للتعبير، وليست بمثابه ميتافيزيقيا للشعر، بل هي وسيله شامله للتحرير الكامل للعقل ولكل ما يماثله".

سيراسل جورج حنين اندريه بريتون في يناير 1936، وسيتلقي رداً زاخراً بالحماسه منه في ابريل من العام نفسه. حماسه تجعل بريتون يقترح علي جورج حنين ان يكون جناحاً للحركه السرياليه في القاهره. ستلتف حول حنين مجموعات متنوعه من الفنانين والفنانات والشعراء والكتاب، معظمهم من الطبقه الوسطي المتعلمه، ومن خلفيات سياسيه متباينه، احدهم احمد راسم الشاعر وكاتب القصه القصيره ونائب حاكم القاهره انذاك ومحافظ بور سعيد بعد ذلك، الي جانب فنانين بوهيميين باحلام كبيره، ككامل التلمساني وفؤاد كامل.

ستتشكل هويه المجموعه في عدد من البيانات، كبيان "يحيا الفن المنحط" الذي سيصدرونه رداً علي دعوات الفاشيه التي اتت من اوروبا لتحاصرهم في القاهره. وهي تتمثل في حركتين اساسيتين: مصر الفتاة، والاخوان المسلمين. وكمحاوله للمقاومه ستؤسس المجموعه في الاربعينيات من القرن الماضي مقراً لها في شارع شريف في وسط البلد، وستبدا بعقد الندوات، واقامه المعارض والانفتاح علي العالم.

وجهت الكثير من الاتهامات للحركه السرياليه المصريه، في محاوله لطمس اسهاماتها، منها الاتهام"الانفصال عن الواقع"، او كونها "حركه مستلبه ثقافياً". الا ان المراجع لتراث المجموعه، يري كيف كانوا فاعلين في المشهد المحلي، الذي لم يكن انذاك يقتصر علي اللغه العربيه، اذ كانت الفرنسيه والانغليزيه من لغات الطبقه الوسطي. كذلك اقامت الجماعه عدداً من الندوات باللغه العربيه، واصدرت مجله التطور التي كتب فيها حنين باللغه العربيه، ودافعت عن المذاهب العقلانيه ضد الخرافات، وحملت شعار "نحن نؤمن بالتطور الدائم والتغيير المستمر".

سارت حياه جورج حنين الخاصه في مسار لا يقل تعقيداً عن حياته العامه، فقد وقع في حب اقبال العلايلي او "بولا" كما يناديها اصدقاؤها، وهي حفيده احمد شوقي. ولكون حنين مسيحي، استلزم ارتباطهما معركه صغيره لتحدي القواعد الاجتماعيه، انتهت بتمرد جورج علي ابيه ومغادرته منزل العائله في روض الفرج، والتوقف عن العمل مع والده في شركه المياه. عمل في وظيفه مدير لشركه جناكليس للسجائر، وهي الوظيفه التي بقي فيها حتي مغادرته مصر.

مع نهايه الحرب العالميه الثانيه تلقت الحركه السرياليه في مصر ضربات عنيفه من الحكومه، التي صنفتها جماعه شيوعيه، وتم القبض علي الكثير من اعضائها، وتعرض بعضهم للفصل من وظائفهم. في الوقت نفسه كانت الحركه عالمياً تواجه الكثير من الانشقاقات والصراعات. سافر جورج الي باريس عام 1947، اذ حاول اندريه بريتون توريطه ليصبح سكرتيراً في الحركه السرياليه عالمياً، في محاوله يائسه من بريتون للقضاء علي الانشقاقات في الحركه. جوهر الخلاف في السرياليه كان محاوله الاحزاب الشيوعيه الاوروبيه ذات الميول الستالينيه، فرض سيطرتها علي الحركه، وهو ما كان يرفضه بريتون وحنين، اللذان رايا في ستالين "وحشاً جديداً لا يقل بشاعه عن وحوش الفاشيه". لكن اختيار بريتون كان توحيد الحركه العالميه بشكل راي حنين انه قد يحولها الي حزب سياسي، لا حركه فنيه.

في 26 يوليو 1948 سيكتب جورج حنين لاندريه بريتون: "اكتب هذه السطور بلا ميل الي الدعايه او الغيظ،  قررت ترك الجماعه التي لا انكر فضلها". سيتبدد بعد ذلك عقد الجماعه في مصر، وتغلق الحكومه مطابع ومكاتب ومقارٰ الجماعه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل