المحتوى الرئيسى

ماهر طلبة يكتب : جرافيتى.. ( قصة قصيرة )

08/01 11:35

حين شعرت ان النهايه علي الابواب، قررت ان اترك  للتاريخ بعض تفاصيل حياتي.. حتي لا تضيع  كما ضاع الكثير من احداث زماننا الهامه. 

ولدت في بيت عادي لم يكن به الا نافذه واحده تطل علي شارع ضيق جدا بالكاد كنت استطيع - حين كبرت- ان اعبره بالنظر لاسقطه علي صدر بنت الجيران - طائرا جارحا-  والتي ابدا لم ترني رغم قرب المسافه وحراره النظرات.

كانت  مدرستي الاولي قريبه من بيتنا، في يومي الدراسي الاول تعرفت علي صديقي الاول،  كنا نشترك في خصال كثيره، المريله التي بالكاد تخفي الجسد، الحذاء الذي تعبره الاصابع بلا خجل، والدموع التي ترفض ترك حضن الام، جاءت جلستي بجانبه كان القدر كان يعدنا لذلك الامر الهام الذي حدث، لكني في حينها لم انتبه، رغم ذكائي المتقد وعبقريتي التي تفجرت منذ اليوم الأسود الذي انفصلت فيه عن حبل امي السري، وجدت علي وجهه نفس الدموع فشاركته بان جعلت  صوتي مصاحبا لدموعه، وانتصرنا معا علي المدرسه - او هكذا اعتقدنا- فذهبنا الي  البيت عند انتهاء اليوم الدراسي.

لا تحمل الذاكره حوادث كثيره في تلك المرحله..  فقط..  صفعه علي الوجه من مدرس كرد فعل علي اجابه خاطئه، عصا او اثنتان وربما ثلاثه من مدرس لتاخري عن بدايه اليوم الدراسي، "تزنيب" من ناظر لاني لم اسدد المصروفات، ولم احصل في الوقت المناسب علي شهاده الفقر، وضحكات مصحوبه بسخريه مُره من الاصدقاء لاني تبولت علي نفسي في حصه الدين،  حين عجزت عن تسميع ايات من الذكر الحكيم، تفنن يومها مدرس الدين في اظهار عذاب رب العالمين.. ولعنات كانت تتخبط في حوائط الفصل لتعود – دائما- تصطدم بوجهي حتي انني حين غادرت المرحله الابتدائيه كانت قد غطت براءه الطفوله المرسومه علي وجهي بعض الغرز والندوب التي لم تفارقه وروحي  حتي متّ.. ويبقي فقط، اني في هذه المرحله لمحتها صوره للبراءه فاحببتها، وحكيت عنها في ليلي، وصرت اغضب من نفسي ولنفسي  كلما وجدتها وهي التي تشاغلني طوال الليل في نومي   تلاعب الاخرين وتهملني طوال النهار في يقظتي،  وفقط.. انسحبت من خيالي فجاه وحل مكانها فراغ كبير..  قد تستغرب حين تعرف اني حتي الان اضحك من نفسي واندم واتمني ان يتحقق المستحيل ونتعارف من جديد.

لبعض الايام رائحه خاصه.. يومي كان من هذه الايام.. لم احبه ولم احب رائحته.. حين فتحت عيني كانت الشمس تغازلني عبر النافذه الضيقه.. انا ارفض هذا النوع من الغزل لذلك اغلقت النافذه في وجهها وحاولت ان استعيد النوم.. لكنه يبدو كمن هرب من نافذتي المفتوحه.. لذلك لم اجد بدا من ان ابدا يومي.. "لبعض الايام رائحه خاصه".. لكني في حينها لم اربط بين هذه الرائحه وما سوف يحدث... فقط بعدها بسنوات وانا اجالس الوحده والخوف والظلام المحيط تذكرت هذا اليوم وهذه الرائحه فاسفت لاني لم اكن املك قدره رؤيه كتاب الغيب وصفحاته، ذلك الكتاب الذي ردد دائما اسمه مدرس الدين حين كان يمارس لعبته المفضله في قراته علينا.. لنعلم اي مصير اسود سيكون لنا في مستقبلنا البعيد.. فقط خرجت من البيت كما اعتدت ان افعل الاف المرات.. سرت في طريقي الذي احفظه ويحفظني.. مررت بكل من كنت امر بهم وبه  من قبل.. الجديد فقط في هذه المره هو ان الشوارع كانت مزدحمه بالسكينه.. هدوء لم اره ولم اعتده في الشوارع.. لكني من كثره ما قابلت في حياتي لم اتعجب وسرت.. فجاه انتبهت علي ضجيج واصوات صاخبه قادمه من بعيد.. "ربما هو ضجيج الشارع المعتاد واشتباكاته المعتاده تعود اليه".. قلت لنفسي وسرت.. حتي وصلت اليهم او وصلوا اليّ.. لم احبهم يوما، ولم يطمئن قلبي لخطواتهم يوما.. لذلك كنت دائما ما اترك لهم منتصف الطريق واكتفي بالاحتماء بالحائط والتسلل هربا عبر شقوقه.. لكني في يومي هذا لم اجد منفذا او حائطا فتوقفت والتفت خلفي.. كانت الشوارع ماتزال فارغه.. هل اعود من حيث جئت؟.. هل اكتفي بهذا القدر من يومي واغادره في انتظار غد اخر ويوم جديد؟.. لم يمهلني القدر .. فقد لمحت الجانب الاخر وهو يمتلئ فجاه.. كانهم هبطوا من السماء.. لم يكونوا ملائكه بثياب بيضاء واجنحه، ولم يكن لهم سلوك وتصرفات الشياطين وعبثهم.. لكنهم تواجهوا.. كنت انا  الاقرب فحاولت الفرار مما توقعت حدوثه.. لكن المنفذ كان مغلقا والقدر يعد للامر عدته.. "لا مهرب لك اليوم".. "لامهرب لكم".. وبدا الاشتباك.

تذكر انه لم يكن له اب ليعرفه.. انه تربي في حضن ام لا تجد طعامهما بسهوله.. تذكر انه حقق معه وهو بعد طفل.. وانها اشارت اليه.. فلم يجد بُدا وهو بعد الرضيع من ان يقول لهم:

-  لم افعل، ولكني احمل الاسف في داخلي شعله ابدا لا تنطفئ..

ضُرب وسُحل وعُلق علي صليب الايام حتي نزف كرامته وكرامتها.. شرفه وشرفها.. لكنه في النهايه اوصلها الي قبرها وصعد الي سمائه حيث كان يظن الامان.

كانت الفوضي.. كانه يوم القيامة والكل يبحث عن النجاه.. "لا منفذ لك".. "لا منفذ لكم".. تصاف الفريقان.. انا المحايد بينهما..  تمنيت فقط ان اغادر هذا الموقف سالما مسالما.. الحجر الاول فقط هو ما لمحته..  قنبله الدخان الاولي فقط هي ما رايتها.. قادتني خطواتي  العمياء الي التخبط والوقوع اكثر من مره.. وال...

"ويكون ان الهارب من صوت الرعب يسقط في الحفره، والصاعد من وسط الحفره يؤخذ بالفخ، لان ميازيب من العلاء انفتحت، واسس الارض تزلزلت، انسحقت الارض انسحاقا، تشققت الارض تشققا، تزعزعت الارض تزعزعا، ترنحت الارض ترنحا كالسكران، وتدلدلت كالعرزال، وثقل عليها ذنبها فسقطت ولا تعود تقوم"*

هناك عاودني الحلم القديم، هي بفستانها الابيض الذي دائما ما حلمت بها داخله، ضحكتها التي تفيض كالنهار فتدهن الدنيا وتبقيها ناصعه، خطواتها التي تدغدغ وجه الارض فتنشر البهجه في ارجائها.. اراها تمد لي اليد، تشدني، تدفعني بعيدا عن الغمام الزاحف، كانت قدرتي علي تحريك الجسد معدومه، رفعتني علي يديها وسارت، كانت رائحتها تملا انفي وتطرد روائح الغازات والدخان.. اسندت راسي علي صدرها وانتشيت.

ارتطم وجهه بشئ ما.. كان هو يبكي.. تذكره وهو يقطع طريق الالام مسحوقا بالوحده.. ليس الالم هو الوصف الصحيح، فليس هذا الما، وليس هذا هو العذاب.. خُلعت ملابسه، مُزقت امامه، ضربات السياط حولت الجلد لقطع من القماش مُزق امامه، اللحم المفروم - كان سياراتهم مرت عليه - سكاكينهم اخذت منه ما يكفي كي يكون طعاما لكلابهم، الصليب علي كتفه اثقل من ذنوبه، السباب يتناثر كذباب حول طبق اصبح خاليا من الطعام، ليس الاسم مواكبا للوصف..  "كنت اتمني ان ينتهي الطريق، لكني اعلم ان في نهايته سيبدا علي الصليب عذابي الحقيقي وموتي الذي لا ياتي ابدا

رغم اني لم استطع ان ارفع الوجه لاعلي الا اني لمحت القادم اليّ – عسكري هزيل مزقته الايام كما مزقتني من قبل- يرفع عصاته ويهبط بها باتجاهي، لا اعرف لماذا استعدت صورته  الان  بهذه  المريله التي بالكاد تخفي الجسد، الحذاء الذي تعبره الاصابع بلا خجل.. استعدت فجاه قدرتي علي الحركه.. فابعدت الراس عن العصا.. لكنها اصطدمت بالذراع فشعرت كان سكينا قد قطعته، فصلته عن الجسد، وترنحت تحت تاثير الضربه، فاصطدمت من جديد بالارض، هذه المره لم ار وجه من ضربني من جديد.. ولم احاول ان ارفع الراس.. فقد غلبني ضعفي واستسلمت للضربات.. فقط شعرت اني اقف من جديد امام مدرس الدين، واني من جديد استعيد سنوات تمنيت ان لا اعيشها وان تنتهي..

بدات المسامير في اختراق الجلد واللحم والعظام، وصلت حتي سُمع دقاتها في الخشب، فقدت يده القدره علي الحركه، لم يعد الصليب سوي جزء لا ينفصل من الجسد المعلق.. الالم لا يمكن ان يكون هو الوصف الصحيح لما يشعر به.. ان جهنم تخرج من كفّتي يديه، من قدميه.. الشوك المرشوق في الراس يصرخ بصوت عالٍ، يرمي طبله الاذن بالاف من الحجاره تنتقل كلها الي عقله كلمات..

حين استعدت وعيي من جديد كنت ملقي فوق القمامه.. وجهي مغطي بالدم، لم اعرف هل هو من اصابه فيّ، ام من الجثث التي تثقل علي بدني واشعر بدفئها عليه، حاولت ان احرك جسدي ونجحت لكني في محاولتي اسقطت العديد من الجثامين الساكنه فوقي... استطعت ان انقلب علي وجهي فلمحت نصف سماء فقط وبعض الوجوه البعيده تختفي خلفها تنظر لي وتشير  ان استعد للصعود..  هززت الراس، فتساقطت الوجوه واستعدت جزءا جديدا من الوعي  مصحوبا بجزء جديد من القدره علي الحركه وجزء محدود من الالم.. حاولت الجلوس لكني فشلت.. هذه المره تفجر الالم من جسدي.. شعرت بالعظام تغوص في لحمي..  فتوقفت عن المحاوله تماما، وعدت من جديد الي غيبوبتي.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل