المحتوى الرئيسى

آدم يس مكيوي يكتب: المبدع والسلطان.. أدونيس نموذجا

08/01 10:33

يهرم الجسد ويشتعل الراس شيبا ويوهن العظم، لكن يبقي العقل متقدا قادرا علي المزاحمه واثاره دوائر جديده من الجدل وتصدر المشهد والوقوف وحيدا في مرمي السهام.. هذا هو ملخص حال الشاعر الكبير ادونيس الذي تماهي مع رمزيته الاثيره الفينق، وبعث من رماده من جديد بحوار اجرته معه جريدة السفير منذ حوالي شهر، وصفه اغلب المتابعين بانه حوار تمجيدي تبجيلي انتصارا لديكتاتور كلاسيكي عتيق هو بشار الأسد، وانهالت السهام بعده من كل حدب وصوب من الاصدقاء القدامي (وليد جنبلاط) احيانا قبل الاعداء، تتهم الرجل تاره بالطائفيه والباطنيه وممارسه التقيه السياسيه لعقود، وتاره اخري بممالاه نظام قمعي يرتكب المذابح، واخيرا بالقدح في الاسلام ذاته رافعا شعار لا امام غير العقل، رغم ان الرجل نفسه في ازمنه سابقه قد عاني من قمع لصالح بعض الانظمه الخليجيه، حينما تم طرده من ما يسمي بالاتحاد العام للكتاب العرب، والمؤكد ان المثقف ليس في مامن تام وهو مرتميا في حضن السلاطين، لكن الظاهر والجلي لاي متابع ان غبار المعركه لن ينقشع بسهوله، فقد نجح الختيار في رمي عده احجار في مياه راكده مخلفا وراءه اللعنات رغم ان ما اتي به الشاعر والمفكر ليس جديدا عليه، فقد قاله في حوارات ماضيه، وذكره في رسالته لبشار في بدايات الاحداث، والتي احبطت جميع انصار الحريات و رافعي لواء التغيير والثورات، وظني انه سيظل يقوله ما ظلت بين صدوره انفاسا، فموقف الرجل واضح وانحيازاته صريحه، شاء من شاء وابي من ابي، لكن تعقد الامر في ميدان المعركه بالشام اورث كل الاطراف ضراوه وشراسه في النقد، وربما ايضا يمكن ان نضيف هذه المره جراه ادونيس في تناول ونقد الدين الاسلامي، جراه غابت عنه طويلا، حين التزم الصمت طويلا ولعقود حيال اي نقد يوجه لديكتاتوريه البعث وتوريث السلطه الفاضح، حتي ظن الناس ان الرجل اختار الا يتعاطي مع الشان السياسي، وان يمارس دور المثقف العاجي المنعزل بامتياز، نائيا بنفسه عن الدخول في اي صراعات مذهبيه وطائفيه، مكتفيا بشعره الحداثي وتنظيره الذي وضعه في مكان الشاعر النخبوي صعب الهضم من جماهير القراء المعتاده علي ان تلوك قصائد مدارس الشعر الكلاسيكيه او الرومانتيكيه بشقيها العاطفي والسياسي، في مشهد ادبي انحسر فيه الشعر بشكل عام وافسح المجال اما للروايه او للقصائد العاميه المرتبطه بالحدث الاني.

ظلت كتابات ادونيس للخاصه، صعب استدعائها في اي سياق طبيعي، وادينت طويلا بالتعالي علي الجماهير والاغراق في الغموض او الاستعراض، وقد شبه البعض كتاباته بكتابات الاديب المصري الكبير ادوارد الخراط والتي ان ولج احد عالمه فكانه ولج قصر التيه Labyrinth.

كان ادونيس ياتي لمصر في ازمنه سابقه يحتفي به ايما احتفاء في الوسط الثقافي، حتي ان احد الكتاب المولعين به -من فرط حماسته- في احد الندوات قال ان شعر الرجل يعرفه ويردده كل طفل متعلم في قري مصر! بينما الواقع مغاير تماما لجمهور القراء الواسع باطيافه، الذين نادرا ما تجد احدا منهم يقبل علي اعمال الرجل.. ليس هذا انتقاصا من قدره، بقدر ما هو تراجع لبضاعته او للجنس الادبيgenre  بشكل عام حتي لو ارتدي ثوب الحداثه وتحرر من القوالب والبحور والاغلال الكلاسيكيه، بل ولوي عنق البلاغه وكسرها كما قال بول فرلين، يظل الشعر غريبا ومحدود التاثير وسط الصخب اللاهث الدائر في مجتمعاتنا.

الثوار والتواقين للتغيير ينتظرون دوما من المثقف او المبدع  ان يصوغ احلامهم ومطالبهم وتطلعاتهم بقلمه او بلسانه، لذلك بقدر الانتظار يكون النقد قاسيا، وهي ازمه المبدع دوما.. عندما قامت ثوره 1848 في فرنسا، وهي الثوره التي شهدت ما يطلق عليه يوفوريا الحريه، وعلق الكثيرون الامال عليها، وقف وقتها العديد من المثقفين مع ممثل قوي الرجعيه نابليون الثالث وعلي راسهم فيكتور هوجو، خوفا من شيوع الفوضي، والمفارقه ان نابليون قد اسس حزبا اسماه “النظام L’ordre ” جمع فيه كل فلول الملكيه والامبراطوريه واليمين الرجعي والبرجوازيه الرافضه للاصلاحات اليساريه للجمهوريه الثانيه، ايد هوجو وحلم بمنصب سياسي، لكن بعد ان استتب الامر لنابليون واعلن نفسه امبراطورا، اطاح بالجميع ونفي هوجو الذي شد رحاله لامريكا، ومن منفاه دبج عشرات القصائد يهاجم ويمطر لوي نابليون دو بونابرت باللعنات، وفي موقف مشابه اميل زولا محامي الاقليات والطبقات المعذبه، عندما قامت الكومونه في 1871 هاجمها بعنف وخاف من غياب الدوله وايد قوات ثيري التي اقتحمت باريس وذبحت الثوار، ربما تعاطف معهم زولا فيما بعد، لكن وقتها خاف وارتعد من رياح التغيير والفوضي، بينما وقف شاعر صغير نزق مثل ارتور رامبو الي جانب الثوار.

احيانا يحار المرء حين يجد فنانا او كاتبا مرهف الحس ينادي بالانسانيه والقيم النبيله، يصطف بجوار ديكتاتور، لكنه الخوف التقليدي من شيوع ثقافه العوام. ربما يبحث المبدع عن جمهور له بين العوام، يغازلهم احيانا لترويج بضاعته، يتحدث باسمهم في احيان اخري، لكنه يخاف ان يعكروا صفو هدوئه ويجتاحوا برجه العاجي بلغطهم وصراخهم ونقشهم علي الحوائط.

خريطه الصراع السياسي مؤخرا في سوريا اجبرت الكثير منا علي الجلوس في مقعد المحايد او العقلاني او البراجماتي، حيث اصبح الخيار بين ديكتاتور تقليدي قادم من زمن الجنرالات والقوميات العربيه، وبين جماعات اسلاميه متطرفه مسلحه تقضي علي الاخضر واليابس، لكن انحياز ادونيس من بدايه الصراع كان الي جانب الاسد.. انحياز قد تجده طائفيا كما وصمه البعض ويحلو لهم ان يذكروا اسمه “الشاعر العلوي علي اسبر”، وقد تجده انحياز مثقف نخبوي خائف من طغيان ثقافه الجماهير وذيوع الفوضي وتقوض البناء القديم، وقانع بما يطلق عليه حديثا الـ comfort zone  او دائره الامان، ولا يريد ان يبارحها.

بامكاني ان اعطي نقطه او افضليه credit لـ ادونيس هذه المره في هذا الحوار الشائك والمفخخ -رغم اختلافي في الطرح- وهي تصريح الرجل برفضه الواضح للمقدس الديني، ليس انطلاقا من ارضيه طائفيه كما يلّمح نقاده، لكن من ارضيه الراي الذي لا يجب ان يجابه الا بالراي بعيدا عن نفاق الجماهير التقليدي او الفوبيا منها.. الرجل بصراحه عرض رايه في الدين وهو ما يجب ان يرد عليه بالراي المفند، لا بالصياح والزعيق والتهديد بالويل والثبور وعظائم الامور، ربما اجد الطرح شديد الانعزاليه، خصوصا في عباره “ان الديمقراطيه لن تتحقق ما دام الدين هو مرجع القيم”، وهذه العباره تجسد مازق العديد ممن يسمون انفسهم بالعلمانيين او التنويريين العرب، وهي انهم يبحثون عن نموذج اتاتورك او بورقيبه او فريدرش الاكبر، نموذج لمستبد مستنير يفرض التنوير بالقوه ساحقا المعارضه، وهذا المازق انهم يراهنون بكل ما يملكونه علي جواد السلطه التي بدورها لن تراهن عليهم، بل تراهن في احيان كثيره علي النفاق والتزلف لجموع الجماهير المتحفظه التي تهوي سماع الاوراد والاذكار، وليس الشعر الحداثي او كتب تفيكك النصوص، واذا نظرنا للوجه الاخر للعمله، فما يشير اليه ادونيس يحمل ايضا ادانه لليسار العربي الذي يؤجل دوما وابدا معركه نقد الخطاب الديني، ويجدها في وسط صليل صورام الثوره ترفا فكريا، فيخسر الاخضر واليابس.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل