المحتوى الرئيسى

مسلمو الصين.. هل تغير شيء؟

07/31 20:07

"مسلمو الصين ليسوا في هذه الدنيا" هذه العباره كتبها الامير شكيب أرسلان قبل نصف قرن وهو يسعي جاهدًا لتقصي احوال مسلمي الصين والتعريف بهم. ولو ان هذه المقوله اطلقت قبل قرن او اثنين لكانت ايضًا معبره وصادقه، ولو استخدمناها هذه الايام -وربما غدًا وبعد غد- لظلت علي صدق تعبيرها عن تلك الحقيقه المؤلمه".

هذه الفقره برمتها كتبها الاستاذ فهمي هويدي سنه 1981 في كتابه "الاسلام في الصين". والحقيقه ان العقود القليله الاخيره حملت الي عموم الصين – كما هو معلوم- رياح تغيير شامله وغير متوقعه -في سرعتها علي الاقل– فهل ما زال وضع المسلمين في الصين –والحديث هنا عن مسلمي قوميه هوي الممثلين لاغلبيه مسلمي الصين تحديدا- يعطي نفس الانطباع السيئ الذي خرج به الامير قبل ثمانيه عقود والكاتب الكبير قبل حوالي ثلاثين سنه؟

لا يفتا الصينيون من جهتهم يرددون ان نموذجهم الشيوعي مختلف عن الشيوعيه السوفياتيه والالبانيه، وحتي الكوبيه والكوريه الشماليه، ويسمون نموذجهم هذا بـ"الاشتراكيه الصينيه الخاصه"، اي التي احتفظت بالاصول العامه للايديولوجيه المذكوره، مع مراعاه خصائص الدوله الصينيه والاجواء الدوليه والاقليميه التي تحيط بها.

الا انهم لا ينكرون ان "اشتراكيتهم الخاصه" تعرضت لتطورات كبيره طوال تاريخها لاسباب سياسيه وغير سياسيه، خاصه بعد احداث الميدان السماوي (تيانانمين) الداميه عقب المطالبه بالديمقراطيه سنه 1989، وسقوط الاتحاد السوفياتي -الممثل الاول والاكبر للشيوعيه- سنه 1991، وعوده هونغ كونغ -بمزاجها الثقافي والاقتصادي المعروف- الي امها الصين سنه 1997 فكل هذا وامثاله من احداث مثل دعما لتطوير التجربه الصينيه الحديثه برمتها.

الا ان مرحله العنفوان الشيوعي الصيني مثلت قبل الانفتاح الاخير عوده نسبيه الي الانغلاق، حتي بدت الصين دوله اسرار تتشكل من جديد، وهي وان لم تمتنع عن المشاركه في الاحداث العالميه، فان شؤونها الداخليه كانت تُرسَم داخل اسوار مغلقه باحكام، وهو ما قد يعتبر سمتا للدول الشيوعيه المعاصره عامه.

من اجل التغيير في ايديولوجيتها اباحت الصين ما اباحت مما كان محرَّمًا لديها من قبل، وهذا الامر صنع ثغرات تتسع حينًا وتضيق اخري لمرور التغيير الثقافي والاجتماعي والديني الي اعماقها

"وعموما فقد اذاب القرن الماضي باحداثه اسوار الانغلاق الصينيه الشهيره بشكل حاسم، حتي وصفه المفكر الصيني "وو بن" بانه "اهم قرن في تاريخ الثقافه الصينيه والمجتمع الصيني، ولا يوجد (في هذا التاريخ) -علي وجه التقريب- قرنٌ تغيّر بمثل تلك الصوره العنيفه والمتكرره والعميقه".

وعبر احد المسلمين الصينيين عن حال بلاده بعد خروجها من كل هذه الانغلاقات التاريخيه والايديولوجيه قائلا: "لقد صارت بلادنا راسماليه في كل شيء الا السياسه والاعلام".

والحقيقه ان المجال الرئيس الذي انخلعت فيه الصين من الفكره الشيوعيه هو نفسه الذي تمحورت الشيوعيه التقليديه حوله منذ انطلاقها، الا وهو المجال الاقتصادي، ومن اجل هذا التغيير في ايديولوجيتها اباحت الصين ما اباحت مما كان محرَّمًا لديها من قبل، وهذا الامر صنع ثغرات تتسع حينًا وتضيق اخري لمرور التغيير الثقافي والاجتماعي والديني الي اعماق الصين، اول بلد ملياري السكان في التاريخ.

صحب هذه التغيرات التي طرات علي الحاله الصينيه عامه تطورٌ نوعي لوضع القوميات والاقليات التي يتكون منها الشعب الصيني، وبالنسبه للمسلمين خاصه برز في صفوفهم نشاط اقتصادي واجتماعي وتعليمي وثقافي لم يكن موجودا ولا مسموحًا به في حدود بلادهم قبل قليل، وانتشرت منهم اعداد كبيره في عواصم العالم الاسلامي لاغراض اقتصاديه وتعليميه.

وكان من الطبيعي ان تطفو علي السطح مشكلات مصاحبه لهذا التطور الاجتماعي والاقتصادي الواسع في الصين، خاصه بالنسبه لاقليه كالمسلمين لها حساباتها وتقاليدها واحكامها الدينيه التي تمثل جزءًا من هويتها الخاصه.

ومن جهه اخري، صحب هذه التغيرات تطور نوعي ايجابي في وضع المسلمين في بلد العجائب والغرائب.

ومشكله المسلمين الصينيين المعاصرين كانت تكمن قبل ذلك في انهم انحازوا الي الثورة الصينية في الاربعينيات حتي انتصرت، ثم صاروا من ضحاياها، مما جعلهم يَضربون علي انفسهم عزله وانغلاقًا داخل العزله الصينيه الكبري.

وحين تطورت التجربه الشيوعيه للصين خلال الثلث الاخير من القرن العشرين، حافظت علي المبدا الشيوعي العتيد الخاص باولويه الدوله وسيطرتها، وتصرفت في قوانين الملكيه، وحريه السوق، والانفتاح النسبي علي العالم، ومنْح شيء من الحريه الدينيه للناس، ما لم يكن في ذلك كله خطر علي الدوله نفسها، حيث اكد الدستور الصيني بالنسبه للحريه الدينيه تحديدا وبشكل فعلي انه "لا يحق لايٍّ من اجهزه الدوله او المنظمات الاجتماعيه او الافراد ارغام اي مواطن علي الاعتقاد باي دين او عدم الاعتقاد به، ولا يجوز التعصب ضد اي مواطن يعتقد باي دين او لا يعتقد به... (الا) انه لا يجوز لاي شخص ان يقوم بنشاطات تخريب النظام الاجتماعي والاضرار بصحه المواطنين البدنيه وعرقله نظام التعليم الوطني مستخدما الاديان".

كان مثل هذا الانفتاح الجديد مغريًا للمسلمين كاقليه تاريخيه في هذا البلد كي يشاركوا في معمعان الحياه الصينيه. لكن ثارت الشكوك في صفوفهم منذ البدايه حول امكانات انقلاب الدوله عليهم كما حدث في عهد امبراطوريه منشو القاسي وعقب انتصار الثوره الشيوعيه.

كما اختلف المسلمون حول شرعيه الانضمام الي الحزب الشيوعي الحاكم، والذي كان شرطا في الوصول الي اي منصب مهم -كرئاسه مؤسسه او جامعه او ايٍّ من مواقع التاثير-، خاصه ان الانضمام لهذا الحزب يفرض علي اصحابه القيام بمجموعه من المراسيم التي تثور حولها شكوك شرعيه، منها: النطق بقَسَم الولاء للنظام الشيوعي، فيقسم العضو امام شاره الحزب الشيوعي الصيني انه مستعد في كل وقت للتضحيه بنفسه من اجله، ويرفع يده اليمني اثناء تلاوه القسم. كذلك يحني الاعضاء رؤوسهم امام جسد الميت من اعضاء الحزب او صورته تعبيرًا عن الوفاء والاحترام له.

شارك كثير من المسلمين الصينيين بالفعل في مجري الحياه الصينيه السريع، الا ان افكار كثير من علماء المسلمين التقليديين في الصين لا تمتاز بالانفتاح علي الاخر

"ومع هذا شارك كثير من المسلمين الصينيين بالفعل في مجري الحياه الصينيه السريع، وشغل بعضهم وظائف رفيعه في الدوله، مثل: خيو لنج يا الذي شغل منصب رئيس الوزراء والرجل الثالث في الدوله، ومثّل بلاده في جنازه الرئيس ياسر عرفات سنه 2004 وجنازه الملك فهد بن عبد العزيز سنه 2005. واسعد الكريم، ووانج زن وي واسماعيل تليوالدي، الاعضاء باللجنه المركزيه للحزب الشيوعي، وغيرهم.

وقد بقي من عناصر هذه المشكله ان افكار كثير من علماء المسلمين التقليديين في الصين لا تمتاز بالانفتاح علي الاخر، حتي المسلم المخالف في البيئه او المذهب الفقهي، فهم متحمسون بشده للمذهب الحنفي، محبوسون في نظمهم التعليميه داخل متون عتيقه، ولا صله قويه لهم بغيرهم من علماء المسلمين (والتقصير هنا يُسال عنه الجانبان)، فلم يناقشوا مع علماء الاقطار الاخري مشكلات المسلمين كاقليات، ولم يطالعوا ما كُتب في ذلك من كتب ودراسات الا في نطاق محدود الي الان.

ويجب ان نعذر هؤلاء العلماء بالطبع شيئًا ما، فقد كان لغول الدوله الشيوعيه تاثيره في تفضيلهم الانغلاق علي انفتاح لا يضمنون معه اي قدر من السلامه، ولا يدرون معه ما يحمله الغد في العلاقه بين الطرفين.

لقد اختلف عمق الاحساس بالتغير داخل المجتمع الصيني من جماعه وطنيه الي اخري، ولا زال وضع المسلمين الصينيين في هذا الجانب اقل من المامول منهم بالنظر الي مكانتهم التاريخيه في بلادهم قياسا الي الجماعات الدينيه الاخري، والواقعُ الحياتي دائمًا قاس في هذا الجانب، حيث يتجاوز من لا يجيد التاقلم معه، وبصوره مؤلمه احيانا.

ولكن، لعل من حسن حظ الاقليه المسلمه في الصين ان التغير الواسع الذي جري في البلاد قد نتجت عنه اثار ثقافيه شملت مجموعات كبيره من الشباب المسلم هناك تثقفوا بثقافه الدول ذات الاغلبيه المسلمه وجامعاتها، وتاثروا بالتيارات الاسلاميه المعتدله العامله في الساحه العالميه، وقدّموا رؤيه براغماتيه تؤمن بالتعاطي مع الدوله الصينيه ونظامها السياسي العتيد، والاستفاده من اجواء الانفتاح السياسي النسبي والانفتاح الاقتصادي الواسع في البلاد لتحقيق مكاسب للاقليه المسلمه لا تتصادم مع انظمه الدوله، خاصه في النواحي الاقتصاديه والتعليميه، وتعطي المسلمين نصابهم المناسب للمشاركه في صناعه بلدهم: صين المستقبل.

ودعم ذلك ان الصين الاقتصاديه الباحثه عن اسواق تستوعب السلع والتجار علي السواء يهمها ان يشارك مسلمو بلادها في دعم العلاقات مع العالم العربي والاسلامي الذي يمثل كتله سكانيه ذات مستوي عال نسبيا من استهلاك منتجات ذات درجات متفاوته من الجوده والثمن.

لقد كان التغير الصيني خلال العقود الاخيره جارفا، ولم يمهل احدا في الداخل، وربما لا يمهل احدا في الخارج ايضًا، فاما التطور، واما الانجراف الذي تفقد معه المجتمعات والدول، وليس الافراد وحدهم، توازنها وقدرتها علي البقاء.

وقد جاء التطور الاسلامي في الصين علي ثلاثه محاور اساسيه:

اولها: المحور الاقتصادي، ويبدو مشتركا بين اكثر القوميات والطوائف الصينيه، ولعله هو الذي فتح الابواب امام التطور في المحاور الاخري.

ثانيها: المحور الثقافي والاعلامي: وتجلي تطوره في حركه ترجمه فتيه ومتصاعده من العربيه الي الصينيه، واهميه هذه الترجمه هي انها تصل العقل الاسلامي الصيني باصوله، وتعرّضه للتاثر بالنشاط الفكري العريض الذي انتجه العقل العربي الحديث.

ومما تُرجم اخيرا من العربيه الي الصينيه: كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفي للقاضي عياض، ومكتوبات الشيخ احمد الفاروقي السرهندي، ولا تحزن للدكتور عائض القرني الذي وُزِّع منه بين الصينيين قرابه ربع مليون نسخه، وقد سبقت ترجمه كتاب معالم في الطريق لسيد قطب، والشهادتان لمحمد الغزالي، وغير ذلك من المؤلفات العربيه الفكريه والادبيه.

كان التغير الصيني خلال العقود الاخيره جارفا، ولم يمهل احدا في الداخل، وربما لا يمهل احدا في الخارج ايضًا، فاما التطور، واما الانجراف الذي تفقد معه المجتمعات والدول، وليس الافراد وحدهم، توازنها وقدرتها علي البقاء

"كما اهتم مسلمو الصين بالتعريف بالاسلام باللغة الصينية عبرالانترنت، فانشؤوا بعض المواقع الضخمه لهذا الغرض، منها: موقع "اسلامك اون لاين دوت كوم"، وموقع "تو مسلم دوت كوم"، وغيرهما.

ثالثا: المحور التعليمي: ويظهر تطوره في اتساع القاعده الطلابيه للمسلمين الدارسين في الجامعات الصينيه والمبتعثين للدراسه في الخارج، وكذلك مشاركتهم في هيئات التدريس الجامعي. كما اهتم المسلمون بتعلم اللغه الصينيه الام (لغه هان)، والتي كانت محل اهمال منهم في السابق.

وقد جاء هذا كله متساوقا مع النظم الجامعيه التي غلب علي الطلاب الصينيين الالتحاق بها بالخارج، مثل: جامعه الازهر، والجامعه الاسلاميه العالميه في اسلام اباد، والجامعه الاسلاميه في المدينه المنوره. ولعل هذا قد شارك في انقاذ حركه الترجمه المذكوره بقدر كبير من التشويه الذي تعرضت له في بلد مثل اندونيسيا، حيث اختطلت الافكار وتم التسويق لكثير منها باعتباره فكرا اسلاميا دون ان يكون كذلك.

ولا يفوتنا هنا الاشاره الي جهود الدوله والجماعات الاسلاميه الباكستانيه في الارتقاء بمسلمي الصين علي خلفيه العلاقات الوديه العميقه بين الدولتين الحليفتين، وقد بدا ذلك منذ تباشير الانفتاح الصيني اوائل الثمانينيات حين التقي الرئيس الباكستاني الاسبق محمد ضياء الحق بوفد الجمعيه الاسلاميه الصينيه في اسلام اباد، وتبعت ذلك اعمال كثيره كرعايه بعثات الحج الصينيه، واستقبال مئات الطلاب الصينيين للدراسه في جامعات باكستان ومدارسها.

ثمه تنافس ديني حثيث بين الاسلام والمسيحيه علي صين المستقبل، مما لا يخفي علي المتابع القريب، فقد نتج عن الحكم الشيوعي فراغ ديني في صفوف الاكثريه المنتميه الي الاديان الوثنيه القديمه: الكونفوشيوسيه والطاويه والبوذيه، مما فتح المجال امام كل من الاسلام والمسيحيه لسد هذا الفراغ.

وثمه عوامل ايجابيه تدعم كل طرف من المتنافسين في الساحه الصينيه العريضه، فمن ايجابيات وضع المسيحيه هناك ان توزعها وطبيعه ظهورها في الصين لا تتيح لها فرصه للانفصال عن كيان الدوله، في حين ان المسلمين حين يقع الضغط السياسي عليهم يجدون فرصا للانتفاض علي الحكم الصيني من واقع توزعهم الجغرافي التكتلي المنتظم في البلاد.

كما تجد المسيحيه في الصين دعما ماديا قويا قادما من الكنائس الغربيه، وخاصه الفاتيكان، وتجد كذلك دعما سياسيا ياتيها من البلاد الغربيه المهتمه بحقوق الانسان بصوره جاده او وظيفيه.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل