المحتوى الرئيسى

وقوف مزدوج على الأطلال البعلبكية

07/31 00:58

«ان الشيطان اشمودي كان مؤسساً لبعلبك ومهندساً لها»

«ان قلعة بعلبك في جبل لبنان هي اقدم من جميع ما بناه البشر في العالم باسره، اعني ان قايين بن ادم عندما اعتراه الارتعاش امر ببنائها في السنه 133 من كون العالم ولقبها باسم ابنه اخنوخ»

البطريرك أسطفان الدويهي ـ تاريخ الازمنه

اكثر ما كانت تعنيه لنا الهياكل الشهيره، حين كنا صغاراً، هي الضخامه والارتفاع، وبعض الاسرار والالغاز التي نقلها الينا من يكبرنا سناً، عبر احاديث ملفّقه وقصص مضخّمه قالوا انهم سمعوها من اجدادهم، ويدور معظمها حول وجود الجن والعفاريت في بعض زوايا القلعه. صدّق عقلنا الصغير ما كانوا يقصّونه علي مسامعنا، وخصوصاً بعدما اخبرتنا جدتي بوجود بدّوح وشمهورش وصمصام وجاجوت، وكلها اسماء غريبه للجن الذكور، كما اُبلغنا ان هناك اناثاّ مثل طرطيه وقرناصه ودردبيس، وقد شارك هؤلاء جميعهم ببناء المعابد الضخمه.

زادت قناعتنا بوجود هؤلاء بعدما استمعنا، في اول عهدنا بمسرحيات الرحابنه، الي اوبريت «جسر القمر» التي ظهر فيها الجن لشيخ المشايخ (نصري شمس الدين) وتحدثوا معه علي نحو كورالي مهيب، ثم اطمان قلبنا قليلا بعدما طلب منهم عدم الظهور في احلامنا، فاجابوه: «يا حسرتي علينا ما منئذي حدا». وهكذا، اطمان بالنا وصرنا نتجول بحريه في بعض زوايا القلعه، التي اعتقدنا دائماً انها مسكونه بكائنات مخيفه. دخلنا الدهاليز القليله العمق المتفرعه من القبو الذي يقوم فوقه البهو الكبير، المعروف باسم هيكل الالهه. لم يكن هدفنا استكشاف معالم اثريه لا تبان للزائرين، ممن لا يلجون اساساً تلك الامكنه العامره بخيوط العناكب والجرذان، وربما ببعض الكلاب الشارده، المتسلله الي القبو في غفله عن انظار الحراس، بل كان الهدف الرئيسي رصد تلك الامكنه لكونها قد تصلح مخباً في ظروف محدده، كي نتسلل بعدها لحضور المهرجان. اذ اننا، وبالرغم من حداثه السن، كنا نحب الموسيقي الكلاسيكيه والمسرح وبعض الشعر العالمي، ولا نملك الموارد الماليه التي تسمح لنا بمشاهده فرقه البولشوي، وهي تؤدي باليه «بحيره البجع» علي انغام موسيقي تشايكوفسكي، او فرقه موريس بيجار، او سماع مايليس دايفس، او الاوركسترا السمفونيه السوفياتيه.

اختبانا غير مره في تلك الامكنه، بعدما كنا نقصد القلعه عصراً في يوم المهرجان، قبل ان يعمد رجال الدرك، بعد اقفال الباب امام الزائرين العاديين، الي تفتيش معظم الزوايا و «الدهاليش» بحثاً عن امثالنا من المتسللين، تمهيداً لتحضير الاجواء قبل بدايه الحفل. كانوا يدخلون الي القبو من دون معرفتهم بكل تفرعاته الصغيره، التي تتسع بالكاد لثلاثه او اربعه اشخاص «صغار»، وبما ان شكوكاً راودتهم حول وجود دخلاء في مكان ما، من دون رؤيتهم، كانوا يصرخون: اخرج، لقد رايناك. لكن الحيله لم تنطل علينا، اذ كان صراخهم قائماً علي الافتراض والشك، وليس علي اليقين. كنا نحبس انفاسنا لدي مرورهم علي بعد خطوات منا، ويسعفنا علي التواري المحكم كون تلك الناحيه من القبو لم تكن مضاءه حينها، وتغمرها ظلمه تليق بقبور الفراعنه المغلقه. وهكذا، كنا نتسلل واحداً بعد الاخر حين يبدا العرض، متسلقين سلالم خطره في نهايتها فتحات تودي الي البهو الكبير، من ثم نعتلي حجراً كبيراً يخوّلنا ارتفاعه رؤيه المشهد، متجنبين الجلوس علي المقاعد التي بقيت فارغه عند بدء العرض، اذ ان مظهرنا وسننا الباكره لا تحتاج الي ذكاء كبير كي يدرك الناظر اننا دخلاء علي عالم الموسيقي الكلاسيكيه والباليه، والمسرح الذي يتطلب ثقافه فنيه ومعرفه بالمبادئ والاصول المرتبطه به.

لكننا لم نكن نتواني عن التمشي، خلال فتره الاستراحه، في البهو السداسي الذي يقع بين المدخل والبهو الكبير، وهو مفتوح، كما هو معلوم، علي الهواء الطلق، شانه شان البهو الكبير. بيد ان هذه المساحه المفتوحه لم تكن تمنع تصاعد روائح العطورات الغاليه، المنبعثه من النساء الانيقات المتوزعات مع ازواجهن او عشّاقهن في انحاء المكان. اختلاط الروائح ذات الماركات المختلفه الشهيره كان من شانه ان يكوّن ضبابه غير مرئيه يشتمّها الانف، تتماثل، الي حد ما، مع الضبابه الصادره عن بستان اشجار مثمره متنوعه في فصل الربيع، حين تصبح الزهور سيده المكان واحدي صفاته الطاغيه. اضف الي ذلك صوت «المهباج» الصادر عن زاويه لبيع القهوه العربيه، معطوفاً علي رائحه الويسكي الخفيفه القادمه من البار المجاور، الي ان ترتفع نغمه المقطوعه الموسيقيه المعروفه، التي صارت شعاراً لمهرجانات بعلبك، تعلن نهايه الاستراحه بعد تكرارها للمره الثالثه، كي يتوجه الجمهور الي مقاعده.

الليالي الشعبيه اللبنانيه تقليد من تقاليد مهرجانات بعلبك الدوليه، منذ العام 1957، حين قدّم الاخوان رحباني «ايام الحصاد»، وتلتها مسرحيات كثيره لا مجال لذكرها. وبخلاف رغبتنا الشخصيه بمشاهده او سماع فرق اتيه من بلدان العالم، تمحورت رغبه اهالي البلده، في شكل رئيسي، حول حضور الليالي المذكوره، من دون ان ننفي رغبتنا الشخصيه في ذلك، وان كانت رغبه مختلفه يثيرها الاهتمام العام بما ستقرره لجنه المهرجانات في الموسم المنتظر، وعلي من سيقع الخيار من فرق لبنانيه، علي عددها المحصور باثنتين او ثلاث، احتل ضمنها الرحابنه الافضليه علي مر الزمن. لا نعلم متي ارتاي منظمو المهرجان تنظيم حفله في بدايه تلك الليالي، اُطلقت عليها تسميه « حفله اهل البلد»، وهي تسبق الموعد المحدد في روزنامه المهرجان، وتشبه «بروفه» مكتمله. حُدد سعر البطاقه، حينها، بليرتين لبنانيتين، لكن البطاقه لم تكن، في الواقع، سوي مساله شكليه،حين تكون الوفود كثيره العدد، اذ كان اهالي المدينه يصطحبون اولادهم، كباراً وصغاراً، وتتدفق الحشود قبل موعد الحفل بساعه او ساعتين احياناً، فالجلوس في الاماكن الاماميه يكون من نصيب من سبق، في ظل عدم الالتزام بارقام الامكنه. وليس من المستغرب ان يحصل تدافع في حالات كهذه، قد يكون ضحاياه الاطفال، ممن لا تسمح لهم قاماتهم الصغيره باتقاء الدوس بالارجل، كما ليس من المستغرب ان تحصل اصطدامات بين الاهالي،اثر خلاف علي مقعد، او لاسباب اخري، لكن هذه الخلافات لم تصل الي حد التقاتل المؤذي الاّ في ما ندر.

من النافل القول ان ما علق في اذهان سكان المدينه وفي ذاكرتهم، ارتبط، في شكل اساسي، بتلك الليالي، وهذا الامر ينطبق علينا شخصياً، من دون ان ننسي لحظات اخري مختلفه، كجلوسنا، علي سبيل المثال، ونحن مراهقون، قرب لويس اراغون، حين قدم الي بعلبك، العام 1974، ليكون حاضراً خلال عرض «مجنون السا»، بالمشاركه مع موريس بيجار. جلسنا قرب الشاعر الكبير خلال التجارب علي العمل المسرحي الراقص، وتحدثنا اليه بفرنسيه ركيكه، بيد انه كان شديد اللطافه، واجاب علي اسئلتنا التي لا نذكر فحواها. اللحظات الاخري تعود، كما ذكرنا، الي تلك الليالي الفولكلوريه الملونه من توقيع الاخوين رحباني مع فيروز ونصري شمس الدين، والي ما كان يميز كل منها: المشاهد البانوراميه والنفس الملحمي في «ايام فخر الدين»، قصه الحب المعقّده في «دواليب الهوا»، ملامح البطوله في «جبال الصوان» و «القلعه»، وصولاً الي «ناطوره المفاتيح»، اخر الاعمال الكبيره التي قُدمت علي ادراج هيكل جوبيتير، ويكتسب ذكرها بعداً شخصياً اكثر من سواها، اذ كُلف الراحل رفيق شرف بتصميم ديكوراتها، فقضي ردحاً من الوقت في بعلبك، علي غير عادته، وبين الهياكل تحديداً، كي يشرف علي التنفيذ، الذي لم يخلُ من عقبات تقنيه ومواقف طريفه شهدناها بانفسنا، لكن النتيجه جاءت مميزه ومختلفه عما صُنع في مهرجانات سابقه. هذا الحكم لا نصدره تبعاً لصله القربي التي تجمعنا بالفنان الراحل، بل في شكل موضوعي، بعدما صرنا الان اكثر قدره علي تقييم ما ترسخ من صور ذاك الديكور في الذاكره، ولم يغادرها حتي هذه اللحظه.

كما في كل مناسبه، ينقسم الحديث، بديهياً، بين مرحلتين، لكون الحرب فعلت فعلها في مفاصل كثيره من التاريخ اللبناني، علي تعدد وجهاته وتفرعاته، واوجدت شرخاً بين مرحلتين، تختلف كل منهما عن الاخري. كان من الطبيعي ان تتوقف مهرجانات بعلبك، بعدما اُخليت الساحه للسلاح والصراع الداخلي، الذي لم تنته مفاعيله حتي الان. خلال ثمانينيات القرن الماضي اُقيمت في احضان الهياكل احتفالات من نوع اخر، لم يتسن لنا حضورها، كذاك الحفل الذي شارك فيه الشيخ امام مع مارسيل خليفه، لكن الانواع الفنيه المعهوده لم تعد الي بعلبك الاّ العام 1998، حين بدت الظروف ملائمه لتلك العوده، بعد غياب طويل.

لكن الامور لم تعد كما كانت سابقاً، وذلك لاسباب كثيره. فالحذر صار سيد الموقف، وهو حذر متعدد الوجوه والاشكال: لجنه المهرجانات تخاف ان تغامر باللجوء الي طاقات شبابيه جديده، او بدعوه فرق فنيه مكلفه، واذا استقدمتها فليله واحده لا اكثر كي تضمن تدفق المريدين. والمريدون يحذرون القدوم الي المدينه، وخصوصاً في الفتره الاخيره، لسبب وسبب. اضف الي ذلك ان كثراً ممن صنعوا امجاد مهرجانات بعلبك، من فنانين ومغنين كبار، رحلوا الي العالم الاخر، وترسخت في نفوس الكثيرين ان تلك الامجاد السابقه سيكون من الصعب ان تُعاد، وهذا بالرغم من قدوم بعض الاسماء الكبيره خلال السنوات الماضيه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل