المحتوى الرئيسى

شاعر الغربتَيْن: «في جيبه علبة كبريت وفي رأسه آلاف الحرائق»

07/31 00:58

كيف يتحدث التلميذ عن معلمه الذي لم ياخذ عنه الا القليل القليل لينتبه ـ متاخراً - الي انه كان يمكنه ان ياخذ عنه اكثر لو انه لحق به الي اللغة الفرنسية بدلاً من ان يقراه او يسمعه ملقياً شعره الساحر بلغه لم يُعلّمه منها الا القليل وتركه علي ابوابها يحاول نفخ الروح في النص المترجم الذي لا يمكن ان يرتقي الي مدارج وجدان الشاعر؟!

ساتحدّث بعد لقاء وقع متاخراً وبعد افتراق طويل الغي المسافه بين الاستاذ وتلميذه فصارا صديقين في الغربه، متكاملين في الوجدان علي اختلاف اداه التعبير الذي يبتدعه الاحساس بالجمال وتذوّق هذا السحر الذي راسمه الشعر.

عرفتُ صلاح ستيتيه، اول ما عرفته، استاذاً للغه الفرنسيه في الكليه العامليه ببيروت.

كان ياتينا وفي يده حقيبه جلديه سوداء لا تغادر يسراه. يجتهد في ان يعلّمنا لغه كنا لا نحبّها لاسباب سياسيه، فقد كانت ثوره الجزائر تمضي نحو عامها الثالث، وسط مجازر يوميه ترتكبها قوات الاحتلال الفرنسي في مختلف انحاء تلك البلاد التي لم نكن نعرف عنها الكثير، وان كانت بطولات مجاهديها تصلنا عبر القاهره، وبالذات عبر صوت العرب.

فائق التهذيب، بصوت خافت، ونظرات هادئه تطل من خلف نظارتيه.

ولقد نجح في اقناع اكثرنا، ولو ظاهرياً، بضروره الفصل بين اللغه بمبدعيها من الشعراء والفلاسفه والكتّاب وبين سياسه الدوله الاستعماريه وحتميه استنكارها ورفض ارتكاباتها في الجزائر خصوصاً وسائر مستعمراتها العربيه والافريقيه.

لم تتح لي الفرصه انذاك لمحاورته بلغه لا اتقنها، كما يريد لي، ولذا اكتفيتُ بان اتامل وجهه الهادئ بعينيه الصغيرتين الناظرتين دائماً الي ما لا نراه... ولم اكن اعرف انه شاعر بالفرنسيه، لكن مظهره الذي يوحي بانه في شغل شاغل عما حوله كان ياخذني الي التقدير بانه اما شاعر واما فيلسوف.

ولسوف تمرّ سنوات طويله قبل ان نلتقي مجدداً، وقد اختلف موقع كل منا، فاما هو فقد انتقل الي وزاره الخارجيه بعد فتره من العمل كمندوب للبنان في منظمه اليونسكو... ثم صار سفيراً وخدم في بلدان عده ابرزها المغرب قبل ان يعود الي بيروت كامين عام لوزاره الخارجيه التي كانت قد انقسمت شطرين مع انقسام الحكم الي حكومتين في ظل شغور موقع رئاسه الدوله... ويبدو ان هذا الشغور هو من ابداعات الفولكلور اللبناني كالدبكه والتبوله واطلاق الرصاص في مناسبه الفرح والحــزن والاستقبال والوداع وما بينهما او عندما يعنّ ببال حامل السلاح ان يمازح الموجودين.

واما انا فقد انتسبت الي المهنه التي تجبرك ان تعرف كثيراً من الناس وعنهم واكثر عن الوقائع والاحداث، ولكنها لا تعطيك متعه قراءه الشعر او الاستماع به وسط جعجعات السياسيين وانفجارات القذائف والصواريخ في الحروب التي تملا منطقتنا دماء ودماراً وتغتال الشعر واصوات الحساسين وطرب الست او اغاني فيروز.

وهكذا التقيت صلاح ستيتيه، لاول مره بعد انقطاع طويل، كامين عام لوزاره الخارجيه... ولكنني كنتُ قد قرات بعض شعره معرّباً، وبعضه بالفرنسيه التي اخذت القليل القليل منها عنه، ولكن انّي لي ان اتسلّق معارج عبقريته التي بهرت اهل الفرنسيه قبل ان تُبهرنا وان اتذوّق رهافه لغه اقف علي بابها واجتهد في ان اتذوقها واستكشاف الدلالات البعيده لكلماتها الرقيقه، خصوصاً في الشعر.

ولقد جمعتنا صداقه يعتزّ بها كلانا مع الرئيس سليم الحص، الذي يُعرف عنه البلاغه مع الايجاز في التعبير، ولغته المميزه التي تُعرف بالدقه العلميه مع جزاله في الاسلوب الصعب، خصوصاً وانه يطوّع الثقافه للتعبير عن حياتنا السياسيه التي تضرّ بها الفصاحه والدقه ووضوح المعني والدلالات، كما تضرّ بها النزاهه ونظافه الكفّ والدخول مباشره الي قلب المعني.

كنت اتابع اخباره مع اصدقاء من متذوّقي شعره، ومنهم من اجتهد في ترجمه بعض نتاجه الغزير والذي احلّه في الموقع المميّز بين المبدعين بالفرنسيه. ولقد اعانت هذه الترجمات امثالي من مقدّري هذا الشاعر الرقيق، المكتنز ثقافه والمتوغل في علم اللغه الفرنسيه ومستكشف مكامن جمالها ورقتها، علي مواكبته من علي البعد في رحلته المبهجه مع الكلمات المجنّحه التي تنشر موسيقي تنعش الروح، حتي وانت علي باب المعني.

ثم انني اجتهدت في قراءه ما كتبه عنه بعض كبار الادباء والنقاد ومتذوقي الشعر والمتعمّقين في فهم الدلالات والارشادات والايماءات التي يحفل بها ابداع صلاح ستيتيه بالفرنسيه.

وعبر اللقاءات المتقطعه والمتباعده حاولت ان اقرا في العينين الصغيرتين والمشعتين لصلاح ستيتيه دواوين لم يكتبها بعد، كما اكتشفت جوانب اخري من ثقافته الاسلاميه العميقه، والتي اخذته الي الانبهار بشخصيه الرسول العربي محمد بن عبد الله، كما بعبقريه النص القراني وشموله.

ولان اللبنانيين خاصه والعرب عامه لم يُتَح لهم ان يقراوا صلاح ستيتيه بلغتهم، لغته الام، فلقد ظلوا يعرفون عنه، ويسمعون به كثيراً ويقراون له القليل القليل معرّباً فياخذهم الاعتزاز بابنهم البار، حتي لو حُرمت ذائقتهم من التحليق مع شعره الي حيث استطاع الطيران مزوّداً بجناحين من قوس قزح.

اما اهل بيروت «خطيبه المشرق»... فقد استوطنوا بعض دواوين صلاح ستيتيه وان لم يستاذنهم، ثم انهم لم يعرفوا انهم قد امدوا ابنهم بالكثير من الصور التي تحفل بها صفحات دواوينه... وان كان هو لم ينس بيت الاهل الذي ولد فيه وقد بناه والده المفتش التربوي (الذي تسنّي له كمدرس في الباروك ان يتعرّف الي رشيد نخله وابنه المعزز بثقافته امين نخله وان يحفظ عنهما الشعر)... ولذلك بقيت في ذاكرته صوره منطقه المقاصد ـ الطريق الجديده وفيها البيت الذي ُحملت اليه مواد البناء علي الجمال ـ وبيروت ليست اكثر من سبعه احياء بعدد ابواب السور وسكانها 9 الاف نسمه.

علي ان صلاح ستيتيه قد طمانهم مراراً الي ان ابنهم لم يهجرهم ولم يبتعد عنهم موغلاً في النسيان، فكتب متباهياً:

«انتمي للارض، ربما الاكثر اهميه في التاريخ، والتي انجبت الانبياء... نحن الابراهيميين الذين شاهدوا ولاده الله».

انه شهاده علي عصر عنوانه نهوض الثقافه واقتحامها افاقاً جديده، مع الثوره العلميه التي ابتدعت عالماً مختلفاً تماماً عن العالم الذي عشنا فيه ففهمناه، وعلينا الان مباشره فهم العصر المختلف بحيث نكاد نصير اغراباً فيه، الا اذا سمح لنا العمر والجهد.

انه بشخصه شهاده علي عصر، فهو قد اغني ذائقتنا بشعره، كما اغني مكتبتنا بنتاجه المميز، ثم انه قد خبر السياسه واطلع علي اسرارها عبر عمله الديبلوماسي، وعرف كباراً وصادق العشرات من الشخصيات من نوابغ الفنون والاداب الذين تركوا بصماتهم علي حياتنا. لقد جمع بين ثقافتين وركائز التنوير في حضارتين واستوعب انماط الابداع الجديد. ولست ادري ما اذا كان قد اخذ بعض اخيلته وتهويماته من الرسامين المبدعين الذين صادقوه وصادقهم ام انه قد اعطاهم بعض قصائده لينقشوها باللون فتنساب دواوين مشعّه بالوان قوس قزح.

لقد قرا جورج شحاده كما قرا ادونيس وقرا بيار جان جوف ورينيه شار وايف بونغور واندريه دير بوشيه وادوار غليان... وقد اخذ من النصوص اللون واعطاها الحياه.

ولقد عرفتُ مع صلاح ستيتيه الشاعر صلاح ستيتيه المحدّث باسلوبه الممتع، الذي تخالطه سخريه محببه، وصحبته في رحله ثقافيه عبر القارات، حيث تختلط الشعوب ويبرز المبدعون الكبار وعباقره التاريخ وماسي الحروب واحلام الاخوه والسعاده والاطفال.

كما عرفتُ صلاح ستيتيه في مسارات مغلقه، وسمعت اعترافاته الخطيره باقتباس المقدس.. فهو يعترف بالتاثير المؤكد للقران الكريم علي ثقافته ومن ثم علي شعره، بلغته المميّزه التي ترقّ فتشف في بعض السور، وتغلظ في اخري، بحسب موقعها وما اريد منها وهل هي للتنبيه ام هي للتوعيه والترشيد، ثم انها تقارب الشعر او تتجاوزه رقه وغنائيه في سور اخري (سوره يوسف مثلاً، او ال عمران) وغيرهما من السوره المدينيه.

ايّها المعلم الذي هرب منا ولم يخرج علينا.

لم تاخذك اللغه الاخري من هويتك، ولم يُسحرك العالم الجميل الذي سكنته وسكنك فيُنسيك اهلك وقضاياهم. لم تقطع بالغضب من عجزنا وهزائمنا صله الرحم بالعروبه، ولم تنكر هويتك ولا انت انكرت ذاتك ولا قطعت جذورك وانت تسمح لنفسك بان تغتني اعماقك بالتيارات الفكريه والسياسيه العالميه.

ايها الذي يكتب وينسي ثم يكتب وينسي او يتناسي: اننا لا ننسي لك انك قد ناضلت طويلاً ـ مع ابناء برره بامتهم مثلك ـ حتي تم اعتماد العربيه لغة رسمية...

هل اتت بقيه القصيده، ايّها الذي قد يبقي بيت من الشعر في ذاكرته شهوراً طويله، في انتظار اكتمال المعني؟

انه المعلم الذي صار صديقاً.

ليس امتع من ان تسمح لك الظروف بان تصير صديق استاذك، شاعر الغربتيْن، الذي لم نعرف الا منه ان العين تاكل والاذن تشرب، وان الحياه تحيا والموت يحيا ايضاً، والموت يربح في الحالتين. لكنني واحد ممن يطمعون لان اكون بين مَن يُحبّهم، اولئك الذين يحتجزون في نفوسهم ورده.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل