المحتوى الرئيسى

القاهرة: مدينتى وثورتنا (٢٧)

07/30 10:10

في السادسه من مساء ٢٣ نوفمبر كتبت:

قرات للتو هذه التغريده: «افطر كويس. خد شنطه فيها قناع واقي من الغاز ونضاره بحر. اكتب اسمك علي دراعك، واكتب بياناتك في رساله علي موبايلك وانزل الميدان».

اُعلِن امس، الثلاثاء، يوما لـ «انقاذ الوطن»، وطالب الشعب في ارجاء البلاد بتنحي المجلس العسكرى. وفي المساء، وبينما تركز كاميرات الاعلام علي التحرير، كان الجيش والشرطه يهاجمان المواطنين في الاسكندريه واسيوط واسوان ودمياط والاسماعيليه والاقصر والمحله والمنصوره وسوهاج والسويس. ولكن، وفي عصر المشهد التليفزيوني الذي نعيشه، كانت صور التحرير هي المتداوله: الميدان مزدحم بالناس، مزدان بالاعلام، مغيم بالغاز.

بالامس توافد الالاف الي التحرير. في الساعات الاولي من الاحد ٢٠ كان المستشفي الميداني في مسجد عباد الرحمن يستغيث طالبا «سماعه طبيب وجهاز قياس ضغط وبيتادين وقطن طبي». الثلاثاء بعد الظهر رايت سبعه مستشفيات ميدانيه في محيط التحرير مكدسه بالادويه والمعدات، كلها اتي بها الناس متبرعين. جامع عمر مكرم وكنيسه قصر الدوباره تشاركا في تنسيق التخصصات الطبيه، وعلي جدار قريب منهما كتب احدهم: «احنا الميدان: جامع وكنيسه وبرلمان».

وايضا بالامس دخل مائتا طبيب وطبيبه من الشباب الي الميدان، دخلوا معا في مسيره بالبلاطي الطبيه البيضاء وتوزعوا بين المستشفيات، وخلال ساعات كان الخبر ان احدي الطبيبات، الدكتوره رانيا فؤاد، قد استشهدت اختناقا بالغاز.

الثوره تستعمل ما تعلمته في يناير وفبراير وتضيف اليه: يُفط الطريق، مواقع معلومات، ارشادات، شباب علي موتوسيكلات ينقلون الجرحي من خطوط المواجهه الي المستشفيات، التنظيم التلقائي العضوي مبهر، والابداع المتماهي مع الانسان واللحظه: طبيب الاسنان الشاب، احمد حراره، الذي فقد احدي عينيه في ٢٨ يناير، فقد الثانيه في محمد محمود، واصابوا عين مالك مصطفي ــ وهو من اكثر الثوار شعبيه وايضا عريس جديد ــ وغيرهما، وحين اتضح انهم يستهدفون العيون ظهرت ضماده بيضاء علي عين احد الاسود البرونزيه الضخمه علي مدخل كوبري قصر النيل فكانت ايقونه جديده للثوره ورمزا جديدا لها.

في دور مرتفع في احدي عمائر التحرير كانت عيوننا داخل الاقنعه تبكي من الغاز.

المتظاهرون لا يحملون سلاحا. يهاجمهم جنود الشرطه والجيش فيقاومون ببساله؛ يستعملون حجاره الطريق، يلتقطون قنابل الغاز ويعيدونها مقذوفه الي مرسليها، يثابرون علي الدق المخيف علي اعمده النور ولوحات الطريق المعدنيه، يقذفون المعتدين احيانا بالالعاب الناريه. الميدان يعي جيدا المفارقه بين طبولِه وصواريخه الصاخبه وبين فحيح قنبله الغاز وسكون القناص الخائن.

نقول هذه «ايام الفرز».. الان، وانا اكتب هذه الكلمات، في ذلك الموقع الحرج في شارع محمد محمود حيث عقدت هدنه في الثالثه وكسرت في الخامسه، اطلق الجيش/الشرطه النار علي المتظاهرين اثناء صلاه المغرب. المستشفي الميداني في كنيسه قصر الدوباره وفي جامع عمر مكرم ينادي طالبا جراح مخ واعصاب، الموتوسيكلات اتت باكثر من خمسين جريحا في العشر دقائق الماضيه.

في «احداث محمد محمود» اصيب اكثر من ثلاثه الاف وثمانمائه شاب وشابه واستشهد اثنان واربعون، وكان هذا في الاسكندريه والاسماعيليه والقاهره ومرسي مطروح. كان احدهم احمد سرور، قتلوه في صباح السادس والعشرين من نوفمبر حين ضربته سياره شرطه وسحلته مسافه خمسين مترا. ام احمد سرور في الميدان، تمسك بقميص ابنها وتوصي: «صحابه كلهم يقفوا له. صحابه كلهم يقفوا له بالورد. صحاب احمد يقفوا له. صحاب ابني يقفوا له، زي ما بييجوا يندهوا له ويقولوا له انزل تعالي لنا. الكبير والصغير، لو فيه اي حاجه، انزل يا احمد تعالي لنا. يقول حاضر. اقول له عشان خاطري يا احمد ماتنزلش، يقول بس يا ماما، ماحدش يجيلنا علي مافيش يا ماما. بيخدم طوب الارض. والله بيخدم طوب الارض. للكبير والصغير حاضر ونعم.. اتصلوا علي جارتي مارضيوش يتصلوا عليا، لا، اتصلوا علي جارتي. اتصلوا علي جارتي، وافتح الباب ــ اول ما بافتح لها الباب باقول لها مين فيهم في المشرحه؟ انا اللي باقول لها، باقول لها مين فيهم اللي في المشرحه؟ والاخر قالت لي ده احمد بس اصابه خفيفه. قلت لها احمد في المشرحه. احمد، طالما احمد يبقي احمد في المشرحه. احمد مافيش حاجه تعَوَرُه. احمد في السفاره واخد التلات خرزات في كعب رجله ماقالش اي. وخلاهم في رجله. قلت لها مايغلبش احمد الا الموت، احمد في المشرحه. بقي الكل يقول لي احمد اتصاب اقول لهم لا، احمد ما يغلبوش الا الموت. ابني ما يهدهوش الا الموت.. من اول الاسبوع كل يوم هو واخوه هناك. امبارح بالليل باقول له كفايه كده، عشان خاطري، طالما ربنا جابها سليمه الايام اللي فاتت كفايه كده، قاللي مانبقاش رجاله لما نسيب بلدنا.. خَد اخوه ونزل الساعه اتنين بالليل.. ما هو كل يوم هناك، كل يوم بيروح من المغرب يجيلي الصبح الساعه تمانيه.. اروح اتطمن عليهم واغطيهم، زي الاطفال، اغطيهم، اطمن انه نام وادخل انام، والله ما بانام الا اما اغطيهم الاتنين.. الكبير يروح علي شغله يا قلب امه، وانا اغطي الاتنين وبعد كده ادخل انام.. نزل الليله دي الساعه اتنين بالليل.. يا قلبي.. يا قلبي يابني.. يا حزن العمر كله عليك يا حبيبي يا حنين يا احمد، ياللي عصبيتك تخليك نار وف ثانيه تقول لي حقك عليا يا ماما. مسامحاك يا قلب امك، مسامحاك يا قلبي، احتسبتك عند ربنا يابني، احتسبتك عند ربنا يابني، احتسبتك عند ربنا يا قلب امك.. باب السما كان مفتوح؟ باب السما كان مفتوح يعني؟ مفتوح لك يا واد يا نضيف يا نزيه، يا واد يا حنين يا خدوم لطوب الارض.. كنت حاسب يابني م العربيه. بس ضاربينه. مضروب، ومهروس بالعربيه. ضاربينه بالرصاص ومهروس بالعربيه. دايسين علي وسطه التحتاني بالعربيه، ادي حكومتك يا مصر وادي شبابك يا مصر اللي اندهسوا. ادي حكومتك يا مصر. حرقوا قلب الامهات. بضهرهم داسوا علي ابني. ضربوه الاول ودهسوه بضهرهم.. ساب المدرسه من تانيه ثانوي وراح اتطوع في الجيش، اربع تلاف وسبعميه جنيه صارفينهم ورق، والاخر طلعوه بعد سنه وقالوا اسمه مش عندنا.. دم ابني. دم ابني اهه.. دم ابني اهه.. دم ابني اهه.. ادي دم شهدائك يا مصر، ادي يا حكومه دم الشباب اللي زي الورد.. ادي دم الشباب يا حكومه.. ادي دم ابني.. ادي دم ابني.. ماحدش مصدق، ماحدش مصدق ابدا ان ابني عنده تسعتاشر سنه. طول بعرض. قمر. ضاربيني قبل ماعرف الخبر في قلبي انا، ضاربينني يا قلب امك في قلبي، ضاربيني يا قلب امك في قلبي، اااااه، حرام، حرام، حرام عليهم».

ام احمد سرور في القاهره، ام محمد منصور العلمي في مطروح وام احمد طارق في اسيوط، ام ماجد مدحت يوسف في الاسماعيليه وام بهاء السنوسي في الاسكندريه.. اثنان واربعون ام فقدن اولادهن في هذه الايام الاربعه. ام احمد سرور قالت «انا استعوضت عنه ربنا، بس كل واحد في التحرير ده احمد، ودم احمد مش هيروح طول ما هم في التحرير..» واعلنت الثوره يوم الجمعه ٢٥ نوفمبر «جمعه الشهداء» و«جمعه الفرصه الاخيره»، وامتلا الميدان باعداد وجموع غير مسبوقه من المواطنين تكرر المطالبه بتنحي المجلس العسكري في الحال وتسليم السلطه لرئيس مدني مؤقت. لم يعد الناس علي استعداد للانتظار حتي ابريل. الشارع مستعد لتقبل اي من محمد البرادعي او عبدالمنعم ابو الفتوح او حمدين صباحي، سواء واحد منهم كرئيس منفرد او معا كمجلس رئاسي. الهتافات والبانرات تطالب بمحاكمه حمدي بادين، قائد الشرطة العسكرية. الثوره والمطالب في التحرير هي نفس الثوره والمطالب في كل المدن المصريه.

ولكن، في القاهره، ظهرت حركتان احتجاجيتان بديلتان‪: اعلن الاخوان المسلمون ــ الذين امتنعوا تماما عن مؤازره الثوره في محمد محمود ــ اعلنوا موقفا مغايرا لموقف التحرير، واقاموا احتجاجا خاصا بهم في الازهر (ومن جانبه، تباعد شيخ الازهر عن موقفهم هذا وارسل ممثلا للتحرير يطالب بمحاكمه قتله الشباب)، وفي محاوله واضحه لسحب الانظار عن «جمعه الشهداء» اطلق الاخوان علي الجمعه ٢٥ نوفمبر «جمعه الاقصي»، وكانه من الصدفه البحته ان يختاروا هذه الجمعه بالذات للتضامن مع الاقصي الذي تتهدده اسرائيل منذ عقود. وسارع الفلسطينيون يناون بانفسهم عن هذا القرار ويتهمون الاخوان بالانتهازيه وباستعمال القضيه الفلسطينيه لتقويض ثوره مصر.

وفي ميدان العباسيه، وبالقرب من وزاره الدفاع، قامت اول مظاهره داعمه للمجلس العسكري، فاصبح هذا الجمع ــ وكان يحصي فقط بالمئات يصوره تليفزيون الدوله في لقطات «كلوز اب» وينقله كموازٍ او مساوٍ لجموع التحرير ــ اصبح نواه الحمله الانتخابيه لمرشح الانتخابات الرئاسيه، الفريق احمد شفيق. وكان هذا ايضا هو الظهور الاول لتوفيق عكاشه. وقال بعض اهالي العباسيه ان الـمتظاهرين كانوا غالبيتهم مجندين جيش وشرطه يرتدون الملابس المدنيه.

وفي شارع محمد محمود اتت قوات الجيش بكتل اسمنتيه ضخمه مكعبه، وضعتها في مجري الطريق، ومثلما بنوا سورا علي الطراز الاسرائيلي عند نهايه كوبري الجامعه في مايو، اقاموا اليوم شبيها له يقطع عرض شارع محمد محمود، ليحموا، كما ادعوا، وزاره الداخليه من الثوار. وتغير الشارع تغيرا عبقريا، فتحول من مجرد طريق يصل ما بين ميدان التحرير وميدان الفلكي ولا يتمتع باي طابع خاص الي المنزل الروحي للثوره ومَحَجَها. توافد الناس ليزوروا موقع المعركه، وليشاهدوا الجدار الذي اقامه الجيش، ليحاولوا استيعاب المكان الذي استشهد فيه هذا العدد من الشباب وقنصت فيه هذه الاعداد من العيون دفاعا عن التحرير والثوره. وجاء الي المدينه مجموعه من الفنانين الشباب من الجنوب، فتجلي علي احد الاعمده مينا دانيال ملاكا متربعا علي الارض، ثم استبقي حائط حرم الجامعه الامريكيه مجموعات من الملائكه في طريقها الصاعد من الرصيف الي السماء ــ وكانت الملائكه ترتدي اقنعه الغاز، والي جانب الملائكه المقَنَعه ارتسمت مشاهد فرعونيه ورموز اسلاميه وايقونات قبطيه واشعار، وازدهرت علي الحوائط جداريات ضخمه بهيه مبهجه. وفي ديسمبر، حين ارتقي الشيخ عماد عفت شهيدا، تبدي علي جدار المدرسه اليونانيه متفجر الضوء والطاقه، تنبثق من كتفيه اجنحه زاهيه، وتفيض يده الممدوده بالايه الكريمه: «وَقَالُوا رَبَنَا اِنَا اَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَاَضَلُونَا السَبِيلَا. رَبَنَا اتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنا كَبِيرا». نبتت في الشارع كراسي من البلاستك ونصبات شاي متواضعه، وكان الناس يجلسون مع الاصحاب او الكِتاب او اللابتوب ــ في حضره الشهداء. وفاضت الالوان من محمد محمود علي الميدان نفسه، وعلي شوارع وسط البلد. اللواء محمد البطران، الذي قتلته الداخليه في يناير ٢٠١١، ظهر هنا ببدلته الرسميه واجنحته الملائكيه فدخل رسميا في عداد شهداء الثوره. وبعدها، في فبراير ٢٠١٢، حين قتلوا شباب الالتراس في بورسعيد فارتقوا شهداء كان الاحتفاء بهم هنا، علي هذه الجدران. وطوال ذلك الشتاء المظلم البارد كانت جدران المباني في شارع محمد محمود تومض بالتعليقات وبالانتحاب وبالاحتفال. قطع الجيش اوصال وسط البلد بسته جدارات فتحولت كلها الي تابلوهات راقصه وشواطئ بحار واقواس قزح واطفال تلعب وجزر استوائيه ثريه بالنبات وبالحياه وخدعات والعاب بصريه ومشاهد شوارع وطرق تنادي وتتماوج كالسراب.

هُزموا. في اعاده لهزيمتهم في ٢٥ و٢٨ يناير، هُزِمت الداخليه في محمد محمود. تراجعت قواتها وراء الجدار الذي بنته لهم القوات المسلحه. صار الهتاف «اشهد يا محمد محمود / كانوا ديابه وكنا اسود»، وعلي نهايه الاحداث كان رئيس المجلس العسكري، محمد حسين طنطاوي، قد وعد بان الانتخابات ستبدا يوم ٢٨ نوفمبر كما كان مقررا، وقَبِل استقاله الدكتور عصام شرف، وحَوَل قضيه ماسبيرو من المحكمه العسكريه الي محكمه مدنيه (فانهت ليلي اضرابها عن الطعام)، وانتهي كل حديث عن ان الجيش والشعب «ايد واحده»، واصبح من المعتاد ان نهتف ونسمع هتاف «يسقط يسقط حكم العسكر».

افتح موقع الانتخابات علي النيت واقوم بادخال رقمي القومي فيظهر لي رقم لجنتي الانتخابيه. اشعر وكاننا نقف فعلا علي راس طريق جديد. اقاموا نحو اربعين الف لجنه انتخابيه ــ وملاها الناس ــ ليس بنسبه الـ ٨٠٪ الذين شاركوا في الاستفتاء، ولكن بنسبه تقرب من ٦٠٪.

لجنتنا الانتخابيه في المدرسه المجاوره للصيدليه حيث تحادثنا انا والست كريمه ليله ٢٨ يناير. اخذت مكاني في الطابور ننتظر التصويت. كان الكثير منا يلبس السواد حدادا علي الشهداء، وهنا في الزمالك كان الاحساس العام هو محاوله منع الاخوان من الحصول علي كرسي في البرلمان اكثر منه الاحتفال بالديمقراطيه. ولكننا، علي اي حال، تواجدنا، ودخلنا الي اللجان الانتخابيه، وادلينا باصواتنا، ولم يكن هناك من يمنعنا او من يضربنا، وكانت هناك ترتيبات لتامين البطاقات واحصاء اصواتنا.

ولكن: بمشاركتنا في الانتخابات هل كنا ناتي بحق شهداء ماسبيرو ومحمد محمود؟ ام كنا نخذلهم؟ دب الخلاف في صفوف اليسار التقدمي. المجموعات التي قررت، بعد مذبحه ماسبيرو، ان المجلس العسكري فقد شرعيته ويجب ان يُستَبعَد من اداره البلاد واجراء الانتخابات زادت صلابه موقفها واصرت تماما علي المقاطعه بعد مقتله محمد محمود. وانضم لها كثيرون. وكان منطقهم ان مجرد المشاركه في الانتخابات تعترف للمجلس العسكري بشرعيه فقدها، وبما ان المجلس العسكري قد ثبت عداؤه للثوره فاعطاؤه هذه الشرعيه تعطل مسار الثوره التي استشهد من اجلها الشباب. ولكن الراي الغالب كان ان الانتخابات وسيله للتخلص من المجلس العسكري ومواصله طريق الثوره.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل