المحتوى الرئيسى

تشارلز بوكوفسكي.. الوعي الشقي

07/29 09:54

ان كنت ممن يبحثون في القصه القصيره عن التماعات تومض في الذاكره، او حبكات ملتويه تقود مخيلتك في اتجاهات متعاكسه، فذاك لن تجده في قصص تشارلز بوكوفسكي. لان عالمه السهل، غير الموارب، منقسم بحزم بين شيئين فقط، السلطه وبهلوانيها، الشرطه والقوادين، الصاحين والسكاري، «الرجل التافه» الذي يملك مالا والعاهره الجائعه، وبين الاغنياء والحزاني. عالمه القصصي، واضح وضوح الغريزه، ان عطشت تشرب، ان جعت تاكل، ان اشتهيت تضاجع، حتي لو ضاجعت دجاجه ميته، او جثه انثي جميله، او جسدا لطفله في الخامسه اغتصبها سكير من دون سبب وجودي الا العدم.

في قصصه «اجمل نساء المدينه» (*) لن تحزر كم تتكرر ذات المفردات المتعلقه بالممارسات الجنسيه للقاع، القاع البشري لافراد بلا اخلاق، او الهه، يتحركون في سكر دائم، من دون بوصله شعوريه، او امل ما، تتكرر اللغه المخلّه بالذائقه المحافظه، حتي تفقد تلك اللغه دهشتها، بهاءها، او روح الجاذبيه السحيقه للبذاءه التي تسبب بشكل مخزٍ، اللذه في حدها التصريفي الادني، فالمفردات التصويريه «البورنوغرافيه»، والشتائم، والوصف التشريحي للاجساد في عريها وشهوتها، لا تثيرك، بل تشعرك بالغمّ فقط، وبضيق العالم، بضيق المساحه التي يحتلها الفرد في هذا العالم، لان عند بوكوفسكي «الكون» يشكل كومه من الفضلات، ليست فضلات طعام فقط، بل فضلات لافكار وقيم بائته، ميته بلا روح.

بوكوفسكي كتب في «اجمل نساء المدينه» بما يشبه السيره عن صراعاته مع المفاهيم الاميركيه عن كل شيء، فهو لم يغادر لوس انجلوس، وتسكع علي جادات هوليوود، حضر ثورات الجنس واحتفي بروح الهبيين، بحشيشهم، وسخر منهم ايضا، هو الغاضب من روحه التعبه، من غرائزه التي لا تتوقف عن التشهي والتطلب، من تقدمه بالسن، ومن ادمانه الذي بطحه دائما كفرس سباق متقاعد، يتصارع هنا مع دور النشر، مع النقابات العماليه، مع المباحث والاف بي اي، مع الوجه النظيف المعقم للحياه، مع المنظرين للحروب، ومدعي الوطنيات، يتصارع مع العاهرات البشعات، والرجال القبيحين، مع المستقيمين والمثليين. العالم الذي ياتيه بوكوفسكي من باب واحد هو الجنس يلخص كل دنياه، ويسكر باحكام الابواب الاخري لقراءه العالم، هو السكير متبلد الحس، القذر، الشهواني، مدمن الاجساد، مدمن الحكايات عن البشر في لحظات انهاكها وانتهاكها، يفيق بين الســطور ليناقش الافكار الكبري، قد يحاكمها حيـناً بتروي رجل عاقل، وقد يبصق عليها كمعتوه ويهزها، ويزلزل كيانها بعدميه اصيله، مخلصه لغاياتها، والغايه من عدميه بوكوفسكي ان تشبع غرائزه حتي الفناء.

الشاعر الذي ترنح طويلاً بين النثر والشعر، لم يفصل كثيرا بين العالمين، وحسم خياره مره لمصلحه الشعر، في جمله قد تصيب الروائيين والقصاصين بالخيبه يطلق بوكوفسكي في قصه اسمها «ولاه وحياه وموت صحيفه سريه» تصريحا اخاذا: «الشعر يقول اكثر من اللازم في اقل وقت ممكن، النثر يقول اقل من اللازم، في وقت اطول».

لكن برغم تصريحات قاتله كهذه، يظل في روح تشارلز بوكوفسكي مكان للحكي، وللقصص، الطفل الذي دمره اب سكير، وكان يعنفه بضرب مبرح، دونما حمايه من ام خنوعه، ادرك قوه المخيله في وقت مبكر، في العاشره كتب واعاد تاليف العالم وتشكيله علي صوره ومثال يرغب بهما، عندما حرمه والده «المرير» من رؤيه رئيس اميركا، احس اول مره بالسلطه العجائبيه التي تمنحها الكتابه حين مارسها، فكتب قطعه نثريه عن زياره للرئيس لم يحضرها، بل استعان بمخيلته عوضا عن الرؤيه، وروي تفاصيل زياره الرئيس هوفير للمدينه التي يسكنها في قطعه نثريه قراها في مدرسته الابتدائيه، لصف مفتون بموهبته. وسيبقي كل من سمعه بعدها مفتوناً، حتي وصوله بتلك الموهبه بعيداً.

لا يستطيع من يقرا تشارلز بوكوفسكي الا ان يشعر «بالمرح الفاقع» كما اسماه، فضمن سلسله من مشاجرات الحانات، والسباب، الخيانات العلنيه، والاتهامات بالعنانه، والشبق معاً، وبقلب مغامرات الطرد من غرف قذره مستاجره وبارات مرتجله، تحصل الحكايات ضمن سياق مبتذل سوقي مريح من بروتوكولات مجتمعيه لطالما هرب منها بوكوفسكي مع نسائه المختارات، ومع كل ذلك الاسي والعدم فاننا نلمح ومضات من حزن، وانتظارا لدفء ورحمه يتوق بوكوفسكي لدفن روحه وجسده فيهما، كي يمحي توقه للحب الذي خيبه وخاب معه.

في التــجارب الكتابيه المتكســـره كتلك التي نقـــراها مع بوكــوفسكي، فان كل قطــعه في فسيفساء النص تجــرحك، وتستـــنزفك كالقهر، في نصوصه وحكاياته جمال جـــارح، حـــزين، ينزف في وعيك الي ما لا نهايه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل