المحتوى الرئيسى

"البرامج" و "الفهارس".. من تراثنا الإسلامي في الأندلس

07/26 17:31

هناك نوع من المؤلفات انتشر في الاندلس والمغرب انتشارًا واضحًا، اُطلق علي هذا النوع اسم "البرامج"، وهذا النوع من التاليف طريف شغف به علماء الاندلس وطلابها ايما شغف، وكان يُطلق علي هذه التاليف في بعض الاحيان اسم "فهرسه"، وللاسف فقد ضاع كثير من هذه البرامج والفهارس ولم يبقَ منها الا النذر اليسير.

وحسبنا في التدليل علي طرافه وجمال هذه المؤلفات، وانها انعكاس جلي لمكانه العلم والعلماء في تلك الاوقات، بل هي رد للجميل، ووضع للعلماء في مكانتهم المرموقه، وتخليد ذكرهم فيها، فضلاً عن كونها وثيقه تُخلد مقدار العلوم والاداب والفنون التي تحصّل عليها العالم في فتره فتوته وشبابه، فهذه المؤلفات كان يُسجل فيها العالم ما قراه من مؤلفات في مختلف العلوم، ذاكرًا عنوان الكتاب واسم مؤلفه، والشيخ الذي قراه عليه او تحمله منه، وسنده الي المؤلف الاول، وربما ذكر خلال ذلك المكان الذي كان موضعًا للدرس، والتاريخ الذي بدا فيه الدراسه او ختمها، وكانت بعض هذه البرامج تهتم اهتمامًا زائدًا بالشيوخ، وتفرد لهم جانبًا فيه حديث عنهم، وعن حياتهم ومنزلتهم العلميه، دون ان تتجاوز في ذلك القصد والاعتدال، فالبرنامج اذن سجل يكشف المنابع الثقافيه التي ارتوي منها العالم، والاصول التي اعتمد عليها، والتي كانت بغير شك مراجع له فيما الفه من كتب.

اننا في هذه الكتب امام تلاميذ الحضاره الاسلاميه وهم يتحدثون عن اساتذتهم الذين لقوهم واخذوا عنهم العلم، وحديث هذا شانه –ايًا كان اختلافه بين الايجاز والاطناب– له قيمه المستند المباشر الذي يحمل في ثناياه ويكمن خلفه شعور نفسي يمتد اثره الي القارئ لتلك الكتب؛ خلافًا لاكثر كتب التراجم العامه التي تفصِل حُجب الزمن بين المترجم والمترجم له، والتي يكون النقل فيها عن طريق غير مباشره([1]).

وقد كان شعور الوفاء بين طالب العلم الذي اضحي عالمًا بعد ذلك وشيخه من جانب، وحنينه الي عهد الدرس والطلب من جانب اخر، من العوامل التي دفعت بعض العلماء الي كتابه برامجهم، وقد عبّر العلامه ابو الحسن الرعيني([2]) الاشبيلي المولد، التلمساني الوفاه (ت666هـ) في برنامجه بقوله:

||اثبتُّ في هذا البرنامج ما لم يفلته ذكري، واوردتُ ما لم يرتب فيه فكري، من اسماء الاشياخ الذين لقيتُهم واخذتُ عنهم، والافصاح ببعض ما استفدته منهم، وان كان قد اتي علي كثير من ذلك ما يختصّ به الانسان من نسيان، وذهاب معظم المقيد والمستفاد، بالتردد في الاسفار والتحول عن الاوطان، وفرقته شذر مذر هوائج الفتن وحوادث الزمان... ومما حثّني علي اثبات ذلك واكتتابه، وحداني الي ايراده واجتلابه ما حدثني به الشيخ الصالح ابو الحسن علي بن احمد الغافقي اذنًا، قال القاضي ابو الفضل عياش بن موسي اليحصبي ...قال سمعت القاضي ابا علي الصدفي يقول: سمعتُ ابا محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي الامام رحمه الله عليه يقول: يقبح بكم ان تستفيدوا بنا ثم تذكرونا ولا تترحموا علينا||

||وحدثني الفقيه الجليل ابو الحسن بن القاضي ابي عبد الله بن زرقون – نا – ابي رحمه الله عن ابي عبد الله بن غلبون .. سمعتُ محمد بن اسحاق بن راهويه يقول: سمعتُ ابي يقول: قلّ ليله الا وانا ادعو لمن كتب عنّا وكتبنا عنه، فجدد الله رحمته ورضوانه علي كل من اخذنا عنه من المشيخه الاعلام، وجمعنا بهم وباسلافهم في دار السلام بمنه||([3])

ولقد وجد ابن الفخار رحمه الله هذا التقدير والاحترام والحب من تلامذته عندما شاخ واصبح عالمًا تُشدُّ له الرحال، فمن جمله تلاميذه ابن عبد الملك الانصاري (ت703هـ) صاحب الموسوعه الشهيره "الذيل والتكمله لكتابي الموصول والصله" وهي موسوعه في تراجم اهل الاندلس والمغرب. قال ابن الزبير([4]) (ت708هـ) وهو شيخ ابن عبد الملك الانصاري، في افتخار ابن عبد الملك بشيخه ابن الفخار الرعيني، وشغفه بتعليقه علي كتابه الخاص:

||كان الكاتب ابو الحسن الرعيني يستحسنُ اغراضه، ويستنبل منازعه، وكتب له علي بعض كتبه بخطه بـ"صاحبي ومحل ابني"؛ لفتاء سنّه، وفائقَيْ نباهه خاطره، وذكاء ذهنه، وكان يفخر بذلك||([5])!

وهناك برامج وفهارس اخري، اشهرها فهرسه ابن خير الاشبيلي (ت575هـ) التي كُتبت في القرن السادس الهجري؛ وتُعتبر هذه الفهرسه من اوسع الفهارس التي وصلتنا عن الاندلسيين من حيث ضخامتها وكثره ما ورد فيها من اسماء لكتب، وهناك برنامج ابن مسعود الخشني (ت544هـ)، وقد اهتم فيه بذكر الكتب والمؤلفات التي سمعها وقراها، وهناك فهرسه ابن عطيه المحاربي الغرناطي (ت541هـ) الذي يهتم فيها اهتمامًا زائدًا بذكر شيوخه، والجميل انه يبتدئ بذكر معلمه الاول وهو ابوه([6]).

وثمه تجربه حيه تشبه الي حد كبير البرامج والفهارس، هذه التجربه بطلها ابن رشيد الفهري محمد بن عمر السبتي (ت721هـ) المولود في سبته([7]) بالمغرب. لقد رحل ابن رشيد وهو شاب يافع الي المشرق لاداء فريضه الحج، وكعاده المغاربه في ذلك الوقت حرص علي ان يتلقي بكبار شيوخ عصره لينهل من علومهم، وكان يدون ملاحظاته في بطائق صغيره، او بصوره تعليقات علي المصنفات التي كان يحملها معه، ليُخرج لنا في نهايه المطاف كتابًا رائعًا ماتعًا سمّاه "ملء العيبه بما جُمع بطول الغيبه في الوجهه الوجيهه" اي ما جمعه من الفوائد في وجهته التي قصد بها الحج اولاً، سيما اسماء الشيوخ والعلماء والاساتذه الذين قابلهم، واخذ منهم.

ونستطيع ان نحدّد خط سير رحله ابن رُشيْد من خلال قراءتنا ما تبقي منها, اذ لم يصلنا هذا الكتاب بصوره كامله - وما جاء في المصادر المختلفه, فقد خرج رحّالتنا من مدينه سبته قاصدًا الحج سنه (681هـ)، وعمره سبعه وعشرون عامًا، واقام بالمريه المدينه الاندلسيه مدّه من الزمان لقي فيها الوزير الاديب ابن الحكيم، وتوطّدت اواصر الصداقه بين الرجلين, ورافقه في رحلته الي الحج، فيمّم رحّالتنا شطر مدينه تونس عن طريق تلمسان وبجّايه بحرًا، ومنها تحوّل الي الاسكندريه، ثمّ القاهره التي وصلها سنه (684هـ)، ورحل من القاهره الي دمشق متوجّها الي المدينه المنوّره، ثمّ الي مكّه المكرمه.

وبعد اداء فريضه الحج عاد ادراجه الي القاهره فالاسكندريه سنه(685هـ)، ومنها ركب البحر الي طرابلس الغرب, فالمهديه بديار افريقيه فوصلها في ربيع الاول من تلك السنه، وبلغ تونس في ربيع الثاني، واقام بها عاماً كاملاً، ثمّ توجّه الي مدينه بونه (عنابه الان)، ومنها ابحر الي مالقه ورنده والجزيره الخضراء، ثم انتهي به المطاف الي مدينه سبته في جمادي الثانيه سنه (686هـ) اي ان رحلته العلميه والشرعيه استمرت خمس سنوات متصله.

في هذه السنوات الخمس لاقي ابن رشيد المئات من الشيوخ في كل تلك المدن التي نزل بها، وهذا وللحق نموذج لطريقه التعليم والتثقيف في ذلك العصر، وكان اهتمام طلاب العلم بتدوين هذه المصنفات رغبه في تذكر هؤلاء الشيوخ والعلماء، ليدعوا لهم، ويترحموا عليهم، فضلاً عن انها تاريخ للمناظرات، وحلقات العلم، وطريقه الدرس في ذلك الزمن، ثم هي نوع من المذكرات الشخصيه العلميه ان صح التوصيف، والقصه الاتيه التي يرويها الطالب المغربي عن شيخه المصري تقي الدين بن دقيق العيد (ت702هـ) الفقيه المصري الشافعي الشهير ترسم لنا لوحه فنيه رائعه عن قصه العلم في القرن السابع الهجري، وتُبين كيفيه التواصل والتلاقي بين ابناء الحضاره الاسلاميه شرقيه وغربيه دون عوائق او حواجز سياسيه او ثقافيه كاليوم، انها تُظهر لنا ذكاء الطالب النبيه ابن رشيد، وعلم الشيخ المصري ابن دقيق، قال:

||لقيتُ الشيخَ تقي الدين بن دقيق العيد اول يوم رايته بالمدرسه الصالحيه، وقد عُرضت عليه ورقه سُئل فيها عن البسمله في قراءه فاتحه الكتاب في الصلاه، وكان السائل فيما ظننتُه مالكيا، فمالَ الشيخ رضي الله عنه في جوابه الي قراءتها للمالكي، خروجا من الخلاف في ابطال الصلاه بتركها، وصحتها مع قراءتها، فقلتُ له يا سيدي: اذكر في المساله ما يشهد لاختياركم، فقال: وما هو؟ فقلتُ: ذكر ابو حفص، واوردتُ قول الميانشي، فغلطتُ وقلتُ:ابن شاهين. قال (اي الميانشي المالكي):صليتُ خلف الامام ابي عبد الله المازري التونسي العلامه، فسمعته يقرا: [بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين......]، فلما خلوتُ به قلتُ له: يا سيدي! سمعتك تقرا في صلاه الفريضه كذا، فقال لي: اوَتفطنتَ لذلك يا عمر، فقلتُ له: يا سيدي انت امام ولا بد ان تخبرني؟ فقال لي: اسمع يا عمر، قول واحد في مذهب مالك، ان من قرا بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضه لا تبطل صلاته، وقول واحد في مذهب الشافعي: ان من لم يقرا بسم الله الرحمن الرحيم بطلت صلاته، فانا افعل مالا تبطل به صلاتي في مذهب امامي، وتبطل في تركه بمذهب الغير، لكي اخرج من الخلاف. فتركني شيخنا حتي استوفيتُ الحكايه، وهو مصغ لذلك، فلما قطعتُ كلامي، قال هذا حسن، الا ان التاريخ يابي ما ذكرت، فابن شاهين لم يلقَ المازري، فقلتُ انما اردت الميانشي، فقال: الان صحَّ ما ذكرته||([8])

ودون الخوض في شرح الخلاف الفقهي بين المالكيه والشافعيه في الجهر بقراءه البسمله في صلاه الفريضه، الا اننا نلحظ عده اشياء:

اولها: نباهه الطالب وذكائه واستيعابه لاصل المساله.

ثانيها: هدوء الشيخ وثقته، وتربيته للسائل بالموقف.

ثالثها: ابداء القناعه الشخصيه والاجتهاد في العلم.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل