المحتوى الرئيسى

وداع العروبة

07/24 09:51

اكان عليك ايها العربي ان تشهد الزمن الذي بات فيه انتماؤك، ووعيك لهذا الانتماء موضع شبهه او شكٍّ وارتياب؟ الستَ اليتيمَ الوحيد لحلم تغنّيت به علي مقاعد الدراسه؛ مذْ كنت تلميذاً صغيراً تتهجّي اسمك ونشيدك مزهّواً بـــ«بلاد العرب أوطاني...»!

اتراها ما زالت تلك البلاد بلادكَ، ولغتها لغتكَ، ومصيرها مصيركَ، وتاريخها تاريخكَ، وتراثها تراثكَ، والامها الامكَ؟ ما اقسي السؤال وما اصعب الاجابه عمّا كان بدهياً في الامس وبات اليوم يتطلب الحجج والبراهين!

الم تفخر باسماء: عمر المختار، وعبد القادر الجزائري، وجميلة بوحيرد، وعز الدين القسّام، وجول جمّال، وتطرب لتأميم قناة السويس، وتنتفض لصدّ العدوان الثلاثي الاثم علي مصر، وتُسقط مشروع ايزنهاور وحلفه الاسود، وتدفع ما تملكه من قروش مصروفك اليومي «معونه الشتاء» لمن يقاسمك الهموم من المحيط الثائر الي الخليج الهادر؟

اكان عليك وانت الذي ولِدَت زمن الوحدة العربية بين سوريه ومصر، وتربّيتَ علي افكار ساطع الحصري، وزكي الارسوزي، وقسطنطين زريق، وقرات في الماضي: «العروبه اولاً»، و «روح العروبه» و «دفاع عن العروبه» و «العروبه والاسلام» و «العروبه والاشتراكيه» و «العروبه والديموقراطيه» وعشرات الكتب التي تعزّز انتماءك وتوجّه خياراتك السياسيه، ان تقرا اليوم: «وداع العروبه» و «نهايه العروبه» و «وهم العروبه» وسواها من الكتب والدراسات والاطروحات التي تنعي العروبه وتدعو لتشييعها بشماته الي مقبره التاريخ!

اجل، انت عربي، والعروبه احساس كامن بالفطره، لم تختره بنفسك، كما لم تختر اسمك ولون بشرتك ووالديك، احساس كامن بالقوه انتقل اليك خلسهً من بيئتك ومحيطك وموقعك علي خارطه العالم، وسرعان ما تحوّل بالفعل الي وعي بهويتك وماهيه وجودك ومكوّنات هذا الوجود لغهً وارضاً وتاريخاً وتراثاً مادياً وروحياً.

لم تكن معنياً في مرحله المدّ القومي بنفي او باثبات عروبتك، وكانها معطي ثابت ومطلق وغير قابل للمساءله والنقاش، ولم تكن معنياً بالتاكيد علي العلاقه العضويه بين العروبه والاسلام، والعروبه والانسانيه، ولكنك تواجه اليوم حرباً تحت الجلد باسم العروبه علي العروبه نفسها، وحرباً علي الاسلام باسم الاسلام نفسه، وحرباً علي شرعيه وجودك واستقلالك وسياده قرارك باسم الشرعيه التي يفرضها عليك الاخر/ الاجنبي بمؤازره اشقائك! حرباً لا تتوخّي هذه المره تدمير ما بنيته منذ الاستقلال حتي اليوم فحسب، بل تدمير حلمكَ ايضاً بوحده شعبكَ وترابكَ الوطني، وتمزيق ما تبقي من روابط تجمعكَ بابناء وطنك في القطر الواحد، وفي الوطن الممتد من الماء الي الماء، لا بل في المدينه الواحده!

تتراجع الهويه الاصيله امام هجمه النزعات ما قبل الوطنيه والقوميه من عشائريه وقبليه واقليميه ومذهبيه، والتي تجيّشها قوي داخليه ظلاميّه ارتضت ان تكون رهينه مشغليها؛ تتراجع هويتكَ الوطنيه والقوميه لتسمع بالصوت العالي: انا كويتي، انا سوري، انا لبناني، انا مصري، انا فلسطيني! ومع الهزائم المتتاليه، وخيبات الامل، وتخلّي الاشقاء عن بعضهم في الازمات، بدات تختفي الترنيمه المحبّبه: «انا عربي»! تختفي في الوقت الذي بدات تنهض فيه هويات متعدّده (اثنيه، ومذهبيه) معلنهً بقوه عن وجودها الراهن وتمسكها بخصوصيتها! تختفي هويتك الضاربه في عمق التاريخ الانساني لتسمع: انا كردي، انا تركماني، انا امازيغي، انا شركسي، انا بربري، انا طوارقي!

واذا كانت تلك الهويّات الاثنيه تطالب بحقوقها السياسيه والثقافيه ولا تشكّل خطراً علي هويتك في دوله المواطنه والقانون، والمساواه في الحقوق والواجبات، وحريه التعبير والتداول السلمي للسلطه، فان الهويات المذهبيه التي تحاصرك اليوم من ابناء جلدتك انفسهم متباهين بالقول: انا سنّي، انا شيعيّ، انا درزي، انا مسيحي، تسعي لتطييف مجتمعك وتفجيره من الداخل في اتون حروب اهليه لا تنتهي، ولا تبقي ولا تذَر، لاحلال مبدا المحاصصه موضع المواطنه ما يهدّد وجودك برمّته ويضعك وجهاً لوجه امام القبول بمشروعها التفتيتي او مواجهته.

لقد تبلورت العروبه مفهوماً وانتماءً امام تحديات التتريك، والفرنسه، والامركه، واليوم تنقضّ فرنسا وبريطانيا واميركا وتركيا من جديد لتهشيم هذا المفهوم وحامله السياسي؛ المتمثّل في مواجهه العولمه المتوحشه ومشروعها التفتيتي الموسوم بالشرق الاوسط الجديد الذي يعني الغاء الوجود القومي العربي مفهوماً وواقعاً واحلال الدويلات الاثنيه والمذهبيه محله؛ تسويغاً لقبول الدوله اليهوديه شريكاً استراتيجياً لتلك الدويلات، وطمس الخصوصيات القوميه والثقافيه وتعميم ثقافه الكاوبوي الاميركي ونمط حياته وسلوكه علي مجمل مناحي الحياه.

هل حقاً كانت الانظمه القوميه الشموليه باستبدادها واحتكارها للسلطه والحقيقه وراء هذا الانحسار المقلق للعروبه بوصفها انتماء، ومكوّناً حضارياً، ومشروعاً سياسياً؟

من يلقي اللوم علي هذه الانظمه وحدها؛ يغفل تماماً عن الوجود الصهيوني وارتهان بقائه بالابقاء علي العرب دويلات هشّه بلا جيوش ولا رموز ولا تنميه ولا اقتصاد. دويلات تستهلك ولا تنتج، تطبّع ولا تعارض! ولعل هذا ما يفسر الهجمه الجديده منذ مطلع الالفيه الثالثه حتي اليوم علي حكومات وانظمه عربيه بعينها من دون غيرها من انظمه الاستبداد، لا لان الغرب المتحالف مع الصهيونيه يريد احلال الديموقراطيه بدلاً من هذه الانظمه؛ ولكن لان هذه الانظمه تملك حدّاً من الوطنيه يتعارض مع المشروع الصهيوني ورعاته من دول الغرب وممالك الظلام.

ليست الانظمه العربيه الشموليه وحدها المسؤوله عن انتكاس المشروع القومي، وتراجع مفهوم العروبه وحواملها السياسيه، انما الغرب المتوحش ومَن يواليه من انظمه التخلف والرجعيه، هما المسؤولان في المقام الاول عن ذلك، كما انهما مسؤولان عن اثاره النعرات المذهبيه والجهويه والمناطقيه التي نشهدها اليوم؛ وذلك لا يعني باي حال اعفاء عامه القوي السياسيه العربيه ومثقفيها وطلائعها من هذه المسؤوليه، بل مطالبتها بنقد ذاتي ومراجعه شامله لاسباب اخفاقها في تجاوز البني المتخلفه واشكال الوعي الرجعي الناجمه عنها والتاسيس الراسخ لمفهوم ومقومات مشروعها السياسي في بناء الدوله/الامه.

لم تكن يوماً لتعلّق الاخطاء علي مشجب الاخرين، او تتقبّل نظريه المؤامره، لكن هذا لا يعني ان تغمض عينيك عن العدو المتربص بك، هذا العدو الذي يعرف تماماً بان العروبه تعني اول ما تعنيه الانتماء والكينونه والهويه، اي روح الامه ومخزونها الثقافي والحضاري، ولا سبيل الي الانتصار علي هذه الامه الكائنه بالقوه حتي اليوم الا بقتل روحها قبل ان تصبح كياناً واقعياً بالفعل له قوته وحضوره ودوره الفاعل. ان تدخل اليوم في جوقه نعي العروبه والاحتماء بولائك الضيق يعني انك تساهم في قتل روحك، وقتل امك الاولي، اعني امتّك، محقّقاً عن قصد او حسن نيّه حلم عدوك ومشروعه علي حساب حلمك النبيل وحقك المغتصب.

العروبه اليوم في خطر، وهذا صحيح وبيّن ولا لبس فيه، خطر تلمسه في المطارات، والمعاملات، وجوازات السفر! فلا تقل لي وما الذي تبقي من العروبه لتدافع عنها وتخاف عليها! وهل مَن احتل الكويت عربيّ؟ ومن يقصف اليمن بعاصفه حقده عربي؟ ومن يحشد ويجيّش قوي التطرف والتكفير من كل انحاء المعموره ويمدّ بالسلاح والمال ويتعاون مع اسرائيل لتدمير سوريه العربيه وجيشها واقتصادها وقتل ابنائها عربي؟ ساقول لك: العروبه هي العروبه، لغه وثقافه وحضاره، والعروبه لا تُدمَّر ولا تقتل ولا تفّرق ولا تظلم، تلك هي العروبه، والعروبيون من يتمثلونها روحاً ومفهوماً ومشروعاً سياسياً ببعدها الوطني والقومي وتناغمها الانساني مع كل الاثنيات التي تتعايش معها، اما مَن يقتل ويدمر ويظلم ويعتدي باسمها، فهو دخيل عليها ومارق علي ثوابتها.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل