المحتوى الرئيسى

مجرّد تعثّر آخر

07/24 01:05

«وهكذا كانت روايه واحده مُثلت مره في مصر، ومره في تونس، لم يختلف فيها الا اشخاص الممثلون». هذه الجمله التي كتبها أحمد امين في ترجمته لخيرالدين باشا التونسي (1810- 1879) في كتابه «زعماء الاصلاح في العصر الحديث» كانت مفتتح مشاركتي في المحاججه الصاخبه التي ظلت لنحو شهر تدور حول مدي امكانيه ان يكرر المصريون ما فعله التونسيون، ثم اصحّح «الواقع ان الكاتب اخطا الترتيب فالبدايه كانت في تونس، ومصر كانت هي التاليه»، ولطول تكراري لنقل فقرات من ذلك الفصل كدت احفظها نصاً، ولم اجد صعوبه في كسب المحاججه مرات، حتي قابلت بعد منتصف ليل الثلاثاء 25 يناير 2011 شاباً اجمع رفاقه انه الاول بينهم الذي ردّد باصرار «الشعب يريد إسقاط النظام» عصر ذلك اليوم، وهو يضرب بقدمه علي اسفلت شارع رمسيس، صارخاً بكل كلمه من الكلمات الاربع، مع ترك لحظه صمت قصيره للغايه بين الكلمه والكلمه إلتي تليها، واضعاً الجمله في ايقاع متوتر متدافع، شجعهم علي مجاراته واشعل فيهم الحماس، والنشوه.

لم يكن الشاب يعرف عن تونس الكثير، ربما حفزه لترديد تلك الجمله، مجرد المحاكاه، وتفلتت منه عبارات عن هوسه بكره القدم، وضراوه المنافسه بين المنتخب المصري ومنتخبات «شمال افريقيا»، وانه «لا يجوز ان يكون التونسيون اشجع منا»، لم ينشغل بالبحث عن المصدر الماخوذ منه الشعار، لكنه بمجرد تلميح بسيط تذكر بقيه بيت ابو القاسم الشابي، والبيت الذي يليه، واعتبر ان حماسه كان في جانب كبير منه «نكايه» في المسؤولين المصريين الذين كرروا ان «»توقع انتقال» احداث تونس لمصر «كلام فارغ»، وان مصر ليست تونس، وان ما حدث في تونس ليس من السهل تكراره في اي دوله اخري». وحين ردّدت جمله مفتتح المحاججه بدا يستفهم، فاخبرته ان جمله، امين، جاءت تعقيباً علي الفقره التي يذكر فيها «اقترحت فرنسا تشكيل لجنه ماليه ووافقتها انجلترا وايطاليا، وصدر مرسوم من الباي سنه 1286 هجرياً - 1869 ميلادياً - بتشكيلها من فرنسيين وانجليز وايطاليين، يراسها موظف تونسي، وجعلت مهمتها توحيد الدَّين وتحديد الفوائد واداره المرافق التي خصصت لهذا الدين»، وان تصحيحي للجمله يرجع الي ان صندوق الدين - الذي يعتبر بدايه الوصايه الاجنبيه علي «ماليه» مصر والتي استمرت حتي 1944 - هو لجنه دوليه تاسست بمرسوم من الخديوي اسماعيل في 2 مايو 1876 للاشراف علي سداد الحكومة المصرية ديونها للحكومات الاوروبيه، التي تراكمت في عصر اسماعيل، وكان الصندوق في البدايه يراسه امين وثلاثه مفوضين يمثلون حكومات النمسا - المجر وفرنسا وايطاليا والمملكه المتحده.

واخبرته ان من يقرا ما كتبه، امين، الان قد يتخيّل انه كتبه خصيصاً لدحض ما قاله المسؤولون الحكوميون المصريون، وتردد صداه في اجهزه الاعلام والصحافه، ففي كل فقره يقرن، امين، الحديث عن خير الدين بحديث عن مصر، فيبدا من انه «شركسي الاصل، من اسره اباظه، خطف وهو طفل علي اثر غاره او فتنه او هجره، وبيع عبداً في سوق الرقيق بالاستانه، فاشتراه تحسين بك، وهذا باعه الي احد وكلاء باي تونس... ومن قديم عُرف الشراكسه في العالم الاسلامي،..، مصر حكمت بدوله المماليك الشراكسه»، ثم يذكر «ورجح عنده - خير الدين - ان له اخًا في مصر يشغل منصباً كبيراً في الدوله المصريه».

مقارنات، امين، بين مصر وتونس هي عصب الموضوع «الحياه العلميه فيها اشبه بما كان في مصر قبيل عهد محمد علي، كتاتيب بدائيه منتشره في القري والمدن غايتها تحفيظ القران، وقلما يبلغون هذه الغايه، ويستطيع التلميذ بفضل مناهج الدراسه فيها ان يقضي عشر سنين واكثر من غير ان يحسن القراءه والكتابه، وكل ما يبلغه النجيب منهم ان يحفظ القران او بعضه. وعلي راس هذه الكتاتيب جامع الزيتونه، وهو صوره مصغّره من الازهر في ذلك العهد،..، وكانت تونس اذ ذاك تحت حكم البايات، والباي في تونس لقب كالخديو في مصر، وكان الباي يتبع الدوله العثمانيه تبعيه ضعيفه، فيساعدها في حروبها، ويحمل اليها مقداراً من المال وكثيراً من الهدايا، واذا حدث مشكل دولي في تونس تدخلت الدوله العثمانيه لفض النزاع، وارسلت مندوباً من قبلها ليشرف علي الحل. واما فيما عدا هذا فولاية تونس شبه مستقله، والباي حرّ التصرف».

لكن الشاب بدا يفقد الاهتمام عندما وصل الحديث الي المقارنه بين التونسي والطهطاوي وبعثتيهما التعليميه الي فرنسا، ومشروعهما «التحديثي»، واستغرب ان يكون الجيشان المصري والتونسي قد حاربا - الي جانب جيوش الدوله العثمانيه وبريطانيا وفرنسا - روسيا في حرب القرم (1853- 1856)، وحين اردت دفع الحديث الي «القواسم المشتركه، والعروبه، والمجتمع العربي» ظهرت بوادر ضجر، وسخريه، وان كانت مهذّبه، لكنه راقه استشهادي بملاحظه حليم بركات في كتابه «المجتمع العربي المعاصر» التي يحلل من خلالها المجتمع العربي، وتصنيفه للمجتمعات الانسانيه من حيث درجه تنوّعها وانسجامها حسب صيروره متدرجه يقع في احد قطبيها ما يمكن تسميته بالمجتمع المتجانس، وفي القطب الاخر المقابل ما يمكن تسميته بالمجتمع الفسيفسائي، يتوسطهما المجتمع التعددي، وبحسب هذا التصنيف يضع بركات مصر وتونس وليبيا في تصنيف المجتمع المتجانس، والمغرب والجزائر وسوريه والعراق والبحرين تحت تصنيف التعددي، والي حد ما السودان، في حين يمثل لبنان نموذج المجتمع الفسيفسائي.

ولكنه هجر الضجر والسخريه ودبّ فيه تفاؤل ملحوظ حين ذكرت له ما نقله، بركات، عن جمال حمدان من انه «يري ان مصر تشترك في مجموعه من السمات والملامح تجعل منها «مخلوقاً فريداً فذاً حقيقه»، وانها «اقوي قوه في العرب مرتين: مره بمطلق حجمها، ومره بتجانسها المطلق».

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل