المحتوى الرئيسى

م الآخر| في مرآة التاريخ نرى أنفسنا.. قراءة في رواية "شوق الدرويش"

07/21 17:26

تمثل كتابه التاريخ في زماننا هذا معضله كبيره، فلم يعد يُنظر لكتب التاريخ كسجلات دقيقه تحفظ لنا الاحداث وتمكننا من معرفه الحقيقه عن زمن لم نعشه ولم نشهده، بل اصبحت كتب التاريخ ليست اكثر من نصوص يحاول المؤرخ من خلالها سرد الماضي عن طريق تفكيك وتركيب واعاده تركيب احداثه. هنا يصبح النص التاريخي نصًا سرديًا مثل اي نص، يخضع لعوامل كثيره بعيده عن الموضوعيه ويتدخل البعد الثقافي والايديولوجي والشخصي للكاتب في كيفيه قيامه بتفكيك الاحداث واعاده تركيبها.

واذا كان هذا صحيحًا عن الكتب التي تتناول التاريخ بشكل عام، فان الرواية التاريخية تصبح اشد بعدًا عن الموضوعيه بحكم كونها عملًا متخيلا وليس عملا بحثيًا يدعي الالتزام بالمنهج العلمي. لكن عوضًا عن ذلك تمتاز الروايه التاريخيه - كما يقول ارسطو - ببعد فلسفي يجعلها تكتسب عمقًا وحسًا انسانيًا عالميًا تتخطي به خصوصيه التاريخ. وان كان ليس من المتاح الان كتابه الروايه التاريخيه كما كتبها سير والتر سكوت الذي قدم رؤيه شامله وواثقه لتاريخ اسكتلنده من خلال رواياته، فان الروايه التاريخيه الحديثه تستعيض عن ذلك بالتركيز علي التجريب في السرد واستخدام الفضائين الزماني والمكاني بشكل يساهم في هدم الحدود بين الحقيقه والخيال، بين الغريب والمتعارف عليه.

وقد اكتسبت الروايه التاريخيه في السنوات الماضيه اهميه كبيره واصبحت من اهم الاجناس الادبيه في الغرب وعندنا في الادب العربي. ولكن الاختلاف الحقيقي بيننا وبينهم في هذا المضمار يكمن في ان الروايه التاريخيه في الغرب تعد محاوله لاعاده قراءه التاريخ وتفكيك المسلمات والقضاء علي نظره الاكبار التي يري بها بعض الناس الشخصيات التاريخيه التي يتم اضفاء صفات القداسه والبطوله عليها، بينما الروايه التاريخيه عندنا تكتسب بالاضافه لتلك الاسباب بعدًا وجوديًا يحاول الكاتب من خلاله التعامل مع الحاضر الذي اصبح يستعصي علي الفهم و التناول.

وقد ظهر هذا جليًا منذ بدايه ما يسمي بالربيع العربي في بلادنا. منذ بدايه الثوره التونسيه ومن بعدها المصريه وما تلاهما من ثورات في كثير من البلدان العربيه حاولت الروايه ان تواكب الاحداث الجسام وان تعبر عنها. ولكن التغيرات الحاده المتلاحقه والمشهد السياسي والاجتماعي الذي فاقت عبثيته حدود المعقول، جعل من الكتابه عن الحاضر الزماني والمكاني مهمه شبه مستحيله، ومن هنا برزت الحاجه للروايه التاريخيه التي تم اسقاط الواقع عليها واستخدامها لمحاوله فك طلاسم الاحداث الراهنه ودلالاتها العميقه، فاختار علاء الاسواني الاربعينيات من القرن الماضي لتجري فيها احداث روايته "نادي السيارات" بينما فضل احمد مراد ان تكون احداث روايته 1919 تاريخا لثوره اخري في تاريخ مصر الحافل (ومن الجدير بالذكر هنا ان الروايات ذات الطابع السياسي لكلا الكاتبين قبل الثوره مثل عماره يعقوبيان وتراب الماس كانت تعبر عن الواقع الزماني والمكاني لتلك الفتره بكل وضوح ودون مواراه) واختلق حسن كمال في روايته "الاسياد" قريه نوبيه متخيله في زمن ماض، ورجع شكري المبخوت في روايته "الطلياني" الي زمن بورقيبه في تونس، ومن قبله استخدم ربيع جابر زمن الحكم العثماني في روايته "دروز بلجراد" للتامل في الواقع السياسي الطائفي.

اما روايه "شوق الدرويش" للكاتب السوداني المقيم بالقاهره حمور زياده، فهي تعد من ابرز هذه الروايات. وقد فازت الروايه بجائزه نجيب محفوظ وكانت علي القائمه القصيره لجائزه البوكر العربيه لهذا العام. تدور احداث الروايه في زمن الثوره المهديه في السودان منذ بدايتها وانتشارها في اواخر القرن التاسع عشر، ثم هزيمتها واندحارها. وتمتاز الروايه بتقنيتها العاليه، فحمور زياده قدم نفسه من خلالها كروائي متمكن من ادواته. الروايه تبتعد ابتعادًا تامًا عن طرق السرد التقليدي، فبالرغم من ان الراوي من بدايتها الي نهايتها راوٍ عليم ببواطن الامور يستخدم ضمير الغائب للحديث عن كافه الشخصيات، الا ان بؤره السرد تختلف من لحظه الي اخري، حيث يكون السرد احيانًا من وجهه نظر بطل الروايه منديل بخيت، العبد الاسود، واحيانا اخري من وجهه نظر ثيودورا او حواء، محبوبته السكندريه ذات الاصول اليونانيه، وفي اوقات ثالثه يكون الحسن الجريفاوي، المتصوف المتدين، هو بؤره السرد... وهكذا.

ويعطي هذا التنوع السردي ثراءً للروايه، ويناي بها عن احاديه الرؤيه. يعضد التشظي الروائي من التعدديه في النص، حيث تعمل النقلات السريعه في المكان والزمان من مصر الي الخرطوم الي ام درمان الي سواكن الي سجن الساير، ومن الماضي الي الحاضر، والعكس، علي حرمان القارئ من الركون الي تفسير واحد للاحداث يتلفح بغطاء الحقيقه، بل ان القارئ يجد نفسه مرغمًا علي اعاده النظر في تفسيره للاحداث ولدوافع الشخصيات بشكل دائم ومستمر حتي الصفحات الاخيره من الروايه. يؤدي هذا الي تفكيك العديد من الثنائيات الفكريه التي طالما ارتكزت عليها الشخصيه العربيه مثل ثنائيه الذات والاخر، الكفر والايمان، العبوديه والحريه، الحب والكراهيه... وغيرها.

ومن مواطن القوه في النص انه وان كان يبرز الخطاب الاستعماري والفوقيه الثقافيه للشخصيات الاوروبيه، حيث تمثل ثيودورا الثقافه الاوروبيه في ذلك الوقت التي كانت تري "الظلام يشع من سواد البشر"، الا انه لا يعفي الشخصيات المحليه منها، حيث يظن بخيت ان الاوروبيين بياضهم قبيح "وحرمهم الله جمال اللون ... يكره [بخيت] لون البيض ورائحتهم"، والتعصب ضد الاخر العرقي والديني لا ينجو منه احد، بل هو قدر يتشارك فيه الجميع.

وتعد شخصيه الحسن الجريفاوي من ابدع ما كتب في الادب العربي، في بيان التاثير المدمر للحركات السياسيه التي تتخذ من الدين عنوانًا وستارًا لها. فبدلاً من ان يشيطن الكاتب شخصيه حسن او يجعله مثالاً للنفاق والانتهازيه - كما يفعل الكثيرون - فانه خلق شخصيه نابضه بالحياه تتسم بالايمان الصادق والنوايا الطيبه. يترك حسن حاله وماله وزوجته التي يحبها حبًا خالصًا من اجل الجهاد في سبيل ما يؤمن به، ويتبع جيش المهدي في صولاته وجولاته، لكن فطرته السليمه تابي ان تستسيغ القتل واراقه الدماء، وتعذبه وتقض مضجعه اشباح ضحاياه من الاطفال والنساء والامهات الثكالي، وفي النهايه يجد ان المهداويه قد هاجموا المسيد الذي تربي فيه وحفظ فيه القران بعد موت شيخه، وقتلوا "الطلاب والحواريين الذين رفضوا ترك التصوف والايمان بالمهدي، حرقت كتب الفقه والتصوف. ونسخه الشيخ سلمان من مختصر خليل القيت في بحر الدندر".

يعرف الحسن بالطريق الصعب كيف يصبح المظلوم ظالمًا، والنقي التقي مولجًا في الدماء.. كيف يصبح طريق الله طريقًا للشيطان. ولكن عالم الروايه لا يخلو من النفاق والانتهازيه اللذين يجسدهما ابراهيم ود شواك، الذي يمثل راس المال الذي يسعي لحمايه مصالحه من خلال التحالف مع الشيطان، مع المهديه ضد الجيش المصري/الانجليزي، ومع الاخير سرًا ضد الاول، يمول هذا ويساعد ذاك ويخطب ود الجميع، رجل لكل العصور، متلون لا يحكمه مبدا ولا يعيقه ولاء.

تتخذ التعدديه شكلًا اخر من خلال استخدام التناص، حيث يزخر النص بالاقتباسات التي تصير مثالًا حيًا لتعدد الاصوات: من ايات قرانيه لايات من الانجيل، ومن ابيات من شعر ابن عربي والحلاج وتجليات بن النفري الي ترانيم المسيحيه، ومن اغاني السودانيين الي شعر مجنون ليلي. وكان لاستخدام النصوص الدينيه الميزه الاضافيه في توضيح كيفيه ليّ النصوص المقدسه واسقاطها علي الاحوال الانيه بما يخدم اغراض سياسيه ضيقه. كل هذا الثراء الروائي يقدمه الكاتب من خلال لغه جزله رصينه ساحره تجعل من تجربه القراءه تجربه متفرده لكل من يتذوق اللغه ويستمتع بشاعريتها وهذه القدره علي الامتاع هي - في رايي - مقصد رئيس من مقاصد الكتابه الادبيه الاصيله. ولا تنفي هذه الشاعريه قدره الكاتب علي الوصول الي الخصوصيه اللغويه لكل شخصيه، حسب اصولها وقناعاتها وتعليمها، ما يضيف لثراء السرد.

نرشح لك

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل