المحتوى الرئيسى

تفسير الشعراوي للآية 286 من سورة البقرة

07/21 10:55

قال تعالي: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا اِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا اِنْ نَسِينَا اَوْ اَخْطَاْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا اِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَهَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا اَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.. [البقره : 286].

{لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا} انّه سبحانه لم يكلفكم الا ما هو في الوسع. لماذا؟ لان الاحداث بالنسبه لعزم النفس البشريه ثلاثه اقسام: القسم الاول: هو ما لا قدره لنا عليه، وهذا بعيد عن التكليف. القسم الثاني: لنا قدره عليه لكن بمشقه اي يجهد طاقتنا قليلا. القسم الثالث: التكليف بالوسع. اذن {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا} اي ان الحق لا يكلف النفس الا بتكليف تكون فيه طاقتها اوسع من التكليف، كلف الحق كل مسلم بالصلاه خمسه فروض كل يوم، وتملا اوقاتها بالصلاه وكان من الممكن ان تكون عشره، بدليل ان هناك اناساً تتطوع وهو سبحانه كلف كل مسلم بالصوم شهراً، الا يوجد من يصوم ثلاثه اشهر؟ ومثل هذا في الزكاه؛ فهناك من كان يخرج عن ماله كله لله، ولا يقتصر علي ما يجب عليه من زكاه.

اذن فهذا في الوسع، ومن الممكن ان تزيد، اذن فالاشياء ثلاثه: شيء لا يدخل في القدره فلا تكليف به، شيء يدخل في القدره بشيء من التعب، وشيء في الوسع، والحق حين كلف، كلف ما في الوسع. ومادام كلف ما في الوسع فان تطوعت انت بامر زائد فهذا موضوع اخر {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} مادمت تتطوع من جنس ما فرض.

اذن فالتكليف في الوسع والا لو لم يكن في الوسع لما تطوعت بالزياده. فسبحانه يقول: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا} وياتي بعد ذلك ليعلمنا فيقول: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا اِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَي الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَهَ لَنَا بِهِ}، وهو القائل: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا} اذن سبحانه يكلفنا بما نقدر عليه ونطيقه.

فقد روي ان الله حينما سمع رسوله وسمع المؤمنين يقولون: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا اِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَي الذين مِن قَبْلِنَا} قال سبحانه: قد فعلت.

وعندما قالوا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَهَ لَنَا بِهِ} قال سبحانه: قد فعلت. ولم يكلفنا سبحانه الا بما في الوسع، وهو القدر المشترك عند كل المؤمنين. وهناك اناس تكون همتهم اوسع من همه غيرهم، ومن تتسع همته فانه يدخل بالعبادات التي يزيد منها في باب التطوع، ومن لا تتسع همته فهو يؤدي الفروض المطلوبه منه فقط وعندما يطرا علي الانسان ما يجعل الحكم في غير الوسع؛ فان الله يخفف التكليف؛ فالمسافر تقول له الشريعه: انت تخرج عن حياتك الرتيبه، وتذهب الي اماكن ليس لك بها مستقر، لذلك يخفف الحق عليك التكليف؛ فلك ان تفطر في نهار رمضان، ولك ان تُقصر الصلاه.

والحق سبحانه يعلم ان الوسع قد يضيق لذلك فانه جل شانه يخفف حكم التكليف ويمنح الرخص عند ضيق الوسع، ومثال ذلك قوله الحق: {الان خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ اَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَاِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّاْئَهٌ صَابِرَهٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ}.. [الانفال : 66].

كانت النسبه في القتال قبل هذه الايه هي واحداً لعشره، وخففها الحق وجعلها واحداً الي اثنين لان هناك ضعفا، وهكذا نري انه سبحانه سيخفف التكليف اذا ما زاد عن الوسع. وكثير من الناس يخطئون التفسير؛ فيقولون عن بعض التكاليف: انها فوق وسعهم ولهؤلاء نقول: لا. لا تحدد انت الوسع، ثم تقيس التكليف عليه، بل انظر هل كلفك او لم يكلفك؟ فاذا كان قد كلفك الحق فاحكم بانه كلفك بما في الوسع، وكل تكاليف الرحمن تدخل في الوسع {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}.

و{لَهَا} تفيد الملكيه والاختصاص وهي ما تُفيد وتُكْسِبُ النفسَ ثوابا، و{عَلَيْهَا} تفيد الوزر، ونلاحظ ان كل {لَهَا} جاءت مع {كَسَبَتْ}، وكل {عَلَيْهَا} جاءت مع {اكتسبت} الا في ايه واحده يقول فيها الحق: {بلي مَن كَسَبَ سَيِّئَهً وَاَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فاولئك اَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.. [البقره : 81].

وهنا وقفه في الاسلوب؛ لان (كسب) تعني ان هناك فرقاً في المعالجه الفعليه الحدثيه بينها وبين كلمه {اكتسبت}، لان (اكتسب) فيها (افتعل) اي تكلف، وقام بفعل اخذ منه علاجاً، اما (كسب) فهو امر طبيعي اذن ف (كسب) غير (اكتسب) وكل افعال الخير تاتي كسباً لا اكتساباً.

مثال ذلك عندما ينظر الرجل الي زوجته، ويري جمالها، فهل هو يفتعل شيئاً، او ان ذلك امر طبيعي؟ انه امر طبيعي، ولكن عندما ينظر الرجل الي غير محارمه فانه يرقب هل يري احد النظره؟ وهل راه احد من الناس؟ وهل سينال سخريه واستهزاء علي ذلك الفعل او لا؟ لماذا؟ لانه ارتكب عملاً مفتعلاً.

مثال اخر، انسان ياكل من ماله، او من مال ابيه، انه ياكل كامر طبيعي، اما من يدخل بستاناً ويريد ان يسرق منه فهو يتكلف ذلك الفعل، ويريد ان يستر نفسه، فصاحب الشر يفتعل، اما صاحب الخير فان افعاله سهله لا افتعال فيها.. فالشر هو الذي يحتاج الي افتعال.

والمصيبه الكبري الا يحتاج الشر الي افتعال؛ لان صاحبه يصير الي بلاده الحس الايماني، وتكون الشرور بالنسبه اليه سهله؛ لانه تعود عليها كثيراً، ويقول الحق: {بلي مَن كَسَبَ سَيِّئَهً وَاَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} ان الخطيئه تحيط به من كل ناحيه، ولم يعد هناك منفذ، وهو لا يفتعل حتي صارت له ملكه في الشر؛ فاللص مثلاً في بدايه عمله يخاف ويترقب، لكن عندما تصبح اللصوصيه مهنته فانه يحمل ادوات السرقه ويصير حسه متبلداً.

ففي المرحله الاولي من الشر يكون اهل الشر في حياء من فعل الشر، وذلك دليل علي ان ضمائرهم وقلوبهم مازال فيها بعض من خير، لكن عندما يعتبرون الشر حرفه وملكه فهنا المصيبه، وتحيط بكل منهم خطيئه وتطوقه ولا تجعل له منفذاً الي الله ليتوب.

فالذي يلعب الميسر، او طوقته خطيئه الفحش قد يقول فرحاً: (كانت سهره الامس رائعه)، اما الذي يرتكب الخطا لاول مره فانه يقول: (كانت ليله سوداء يا ليتها ما حدثت)، ويظل يؤنب نفسه ويلومها؛ لانه تعب وارهق نفسه؛ لانه ارتكب الخطا.

اذن فقول الحق: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} يوضح لنا ان فعل الشر هو الذي يحتاج الي مجهود، فان انتقلت المساله من اكتسبت الي كسبت فهذه هي الطامه الكبري، ويكون قد احاطت به خطيئته. ويكون علي كل نفس ما اكتسبت. والعاقل هو من يكثر ما لنفسه، ولا ما عليها؛ لان الذي يقول ذلك هو الحق العالم المالك الذي اليه المصير، فليس من هذا الامر فِكاك. وبعد ذلك يقول الحق علي لسان عباده المؤمنين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا اِن نَّسِينَا اَوْ اَخْطَاْنَا}، ولقائل ان يقول: ان الرسول صلي الله عليه وسلم طماننا، فقال: (رفع عن امتي الخطا والنسيان، وما استكرهوا عليه).

فكيف ياتي القران بشيء مرفوع عن الامه الاسلاميه ليدعو به الناس ربهم ليرفعه عنهم؟.

علي مثل هذا القائل نرد: هل قال لك احد: ان رفع الخطا والنسيان والاستكراه كان من اول الامر؟. لعل الرفع حدث بعد ان دعا الرسول والسابقون من المؤمنين، فما دام قد رُفِعَ بضم الراء وكسر الفاء وفتح العين فمعني ذلك انه كان موجوداً، اذن فلا يقولن احد: كيف تدعو بشيء غير موجود. او ان ذلك يدل علي منتهي الصفاء الايماني، اي الله يجب الاّ يُعْصي الا خطا او نسياناً، وان الله لا يصح ولا يستقيم ان يُعصي قصداً؛ لان الذي يعرف قدر الله حقاً، لا يليق منه ان يعصي الله الا نسياناً او خطا؛ لان الخالق هو المنعم بكل النعم، وبعد ذلك كلفنا، وكان يجب الا نقصد المعصيه. ولذلك فالحق سبحانه وتعالي قد سمي ما حدث من ادم معصيه مع انه يقول: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا الي ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}.. [طه : 115].

وسمي الله النسيان في قصه ادم معصيه: {وعصي ءَادَمُ رَبَّهُ فغوي} فكان النسيان اولاً معصيه، ولكن الله اكرم امه محمد، فرفع عنها النسيان. وفي مساله ادم هناك ملحظ يجب علي المؤمن ان يتنبه اليه؛ فادم خُلِقَ بيد الله، ونحن مخلوقون بقانون التكاثر، وادم تلقي التكليف من الله مباشره وليس بواسطه رسول، وكُلِّفَ بامر واحد وهو الا ياكل من الشجره.

فاذا كان ادم مخلوقاً من الله مباشره ومكلفاً من الله مباشره، ولم يكلف الا بامر واحد وهو الا يقرب هذه الشجره، ولم تكن هناك تكاليف كثيره فماذا نسي؟ وماذا تذكر؟ انها معصيه اذن. لقد كان النسيان بالنسبه لادم معصيه؛ لانه مخلوق بيد الله. {قَالَ ياابليس مَا مَنَعَكَ اَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}.. [ص : 75].

لذلك فلم يكن من المناسب ان ينسي هذا التكليف الواحد، وما كان يصح له ان ينسي، وَلَعلّ سيدنا ادم نُسِّيَ لحكمه يعلمها الله رُبَّما تكون ليعمر الارض التي جعله الله خليفه فيها؛ اما بالنسبه لامه محمد فحينما نقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا اِن نَّسِينَا اَوْ اَخْطَاْنَا} فكاننا يا رب نقدرك، حق قدرك، ولا نجترئ علي عصيانك عمدا، وان عصينا فانما يكون العصيان نسياناً اوْ خطا، وهذه معرفه لقدر الحق سبحانه وتعالي.

ولكن ما النسيان؟ وما الخطا؟

اولاً فيه (اخْطَا) وفيه (خَطِئَ) و(الخِطْء) لا يكون الا اثما؛ لانه تعمد ما لا ينبغي، فانت تعلم قاعده وتخطئ، والذي اخطا قد لا يعرف القاعده، فانت تصوب له خطاه لانه حاد عن الصواب.

ومثال ذلك: عندما تتعلم في المدرسه ان الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب وفي وسط السنه يصححون لك القاعده حتي تستقر في ذهنك، انما في ايام الامتحان ايصحح لك المدرس ام يؤاخذك؟ انه يؤاخذك؛ لانك درست طوال السنه هذه القاعده، اذن ففيه خَطِئ وفيه اخطا، فاخطا مره تاتي عن غير قصد؛ لانه لا توجد قاعده انا خالفتها، او لم اعرف القاعده وانما نطقت خطا؛ لانهم لم يقولوا لي، او قالوا لي مره ولم اتذكر، اي لم تستقر المساله كملكه في نفسي؛ لان التلميذ يخطئ في الفاعل والمفعول مده طويله، وبعد ذلك ينضج وتصير اللغه ملكه في نفسه ان كان مواظبا علي صيانتها.

كان التلميذ في البدايه يقول: قطع محمد الغصن، ولا يقولها مُشَكَّلهً ولكن يسكن الاخر في نهايه نطقه لاسم محمد، وساعه يتذكر القاعده ينطقها (محمد) بالرفع وينطق (الغصن) بالنصب لماذا؟ لانه ترد ثلاث قواعد علي ذهنه، هذه فاعل والفاعل حكمه الرفع، فهي مرفوعه، فهو يمر بقضيه عقليه، لكن بعدما يمر عليها يقراها صحيحه وقد لا يتذكر القاعده، فقد صارت المساله ملكه لغويه عنده، هذه الملكه اللغويه مثلما نقول: (صارت اليه).

ومثال ذلك الصبي الذي يتعلم الخياطه، انظر كم من الوقت يمر ليتعلم كيف يمسك بخيط ليدخله في سم الابره، وقد يضربه معلمه اكثر من مره ليتعلمها؛ وفتله الخيط تنثني منه لانها طويله فيقصرها ثم لا تدخل في العين فيبرمها لتدخل، انه ياخذ وقتا كثيرا ثم يعمل الغرزه فتخرج غير منتظمه وبعد ذلك يظل مده، ثم يفعل كل هذه الاعمال بتلقائيه وهو يتكلم مع غيره؛ لان هذه الاعمال صارت ملكه ذاتيه اي عملاً اليًّا.

والتدريب علي العمل الذهني حسب قواعد محدده مثل تعلم اللغه نسميه ملكه. اما التدريب علي عمل الجوارح مثل ادخال الخيط في سم الابره نسميه اليه.

وعلي سبيل المثال في العمل الذهني عندما تسال سؤالاً في الفقه لطالب في الازهر فانه يحتار قليلا الي ان يتعرف علي الباب الذي فيه اجابه للسؤال، اما اذا سالت السؤال نفسه لعالم مدرب فبمجرد ان توجه له السؤال فانه يقول لك الحكم والباب الذي فيه هذا الحكم، لقد صار الفقه بالنسبه للعالم ملكه.

ويقول الحق من بعد ذلك: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا اِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَي الذين مِن قَبْلِنَا} والاصر هو الشيء الثقيل الذي يثقل علي الانسان، ومثال ذلك الاصر الذي نزل علي اليهود (ان اردتم التوبه فاقتلوا انفسكم او تصدقوا او زكوا بربع اموالكم) لكن الله لم يعاملنا كما عامل الامم السابقه علينا، وعندما نقول: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَهَ لَنَا بِهِ} فنحن نصدق ان رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «قال الله نعم» ومعني قال الله نعم انه سبحانه وتعالي اجاب الدعاء برفع المشقه عن الامه.

اي ان الله لن يحملنا ما لا طاقه لنا به. وعندما نقول: {واعف عَنَّا} فنحن نتوجه الي الله ضارعين: انت يا حق تعلم اننا مهما اوتينا من اليقظه الايمانيه والحرص الورعي فلن نستطيع ان نؤدي حقك كاملاً، ولذلك لا ندخل عليك الا من باب ان تعفو عنا.

ومعني العفو محو الاثر، كالسائر في الصحراء تترك قدماه علامه، وتاتي الريح لتزيل هذا الاثر. كان هناك ذنباً والذنب له اثر، وانت تطلب من الله ان يمحوا الذنب.

وعندما تقول: {واغفر لَنَا} فانت تعرف ان من مظاهر التكوين البشري النيه التي تريد ان تحول العزم الي حيز السلوك والانفعال النزوعي؛ فالمساله تحتاج منك الي تدريب، ومثال ذلك، عندما يذنب واحد في حقك فلك ان ترد عليه الذنب بالذنب، ولك ان تكظم الغيظ، لكن يظل الغيظ موجوداً وانت تحبسه، ولك ان تعفو.

لكن ماذا عن مثل هذا الامر بالنسبه للخالق الذي له كمال القدره؟ ان الله قد لا يعذب العبد المذنب ولكنه قد يظل غاضبا عليه، ومن منا قادر علي ان يتحمل غضب الرب؟ لذلك نطلب المغفره، ونقول: {واغفر لَنَا وارحمنا} فنحن ندعوه سبحانه الا يدخلنا في الذنب الذي يؤدي الي غضبه والعياذ بالله علينا. فالعفو هو ان نرتكب ذنبا ونطلب من الله المغفره، ولكن الرحمه هي الدعاء بالا يدخلنا في الذنب اصلا.

وعندما يقول الحق: {اَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَي القوم الكافرين} فهذا اعتراف بعبوديتنا له، وانه الحق خالقنا ومتولي امورنا وناصرنا، ومادام الحق هو ناصرنا، فهو ناصرنا علي القوم الكافرين؛ فكان ختام سورة البقرة منسجما مع اول سوره البقره في قوله: {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًي لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاه وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.

في اول السوره ضرب الله المثل بالكافرين والمنافقين.. وفي ختامها يقول الحق دعاء علي لسان المؤمنين: {فانصرنا عَلَي القوم الكافرين} هذا القول يدل علي استدامه المعركه بين الايمان والكفر، وان المؤمن ياخذ احكام الله دائما لينازل بها الكفر ايان وجد ذلك الكفر، ويثق المؤمن تمام الثقه ان الله متوليه؛ لان الله مولي الذين امنوا، اما الكافرون فلا مولي لهم. فاذا كان الله هو مولي المؤمن، واذا كان الكافر لا مولي له، فمعني ذلك انه يجب ان تظل المعركه بين المؤمن والكافر قائمه، بحيث اذا راي المؤمن اجتراءً علي الاسلام في اي صوره من صوره فليثق بان الله ناصره، وليثق بان الله معه، وليثق المؤمن ان الله لا يطلب منه الا ان ينفعل بحكمه وتاييده بالنصر؛ لانه هو الذي يغلب فهو القائل جل وعلا: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِاَيْدِيكُمْ}.

يجب ان تظل دائما مؤمناً متيقظاً لعمليه الكفر في اي لون من الوانها؛ فهذا الكفر بعملياته يريد ان يشوه حركه الحياه وان يتعب الكون، وان يجعل القوانين الوضعيه البشريه هي المسيطره، كما يجب عليك ايها المؤمن ان تكون من المتقين الذين استهل بهم الله سوره البقره، وبعد ذلك تسال الله ان ينصرك دائماً علي القوم الكافرين. هذا هو مسك الختام من سوره البقره {فانصرنا عَلَي القوم الكافرين}.

وختام السوره بهذا النص يوحي بان الذي امن يجب ان يعدي ايمانه بربه الي الخلق جميعا، حتي تتساند حركه الحياه، ولا توجد فيها حركه مؤمن علي هدي لتصطدم حركه كافر علي ضلال؛ لان في ذلك ارهاقاً للنفس البشريه، وتعطيلاً للقوي والمواهب التي امد الله بها ذلك الانسان الذي سخر من اجله كل الوجود، فلا يمكن ان يعيش الانسان الذي سوّده الله وكرّمَه علي سائر الخلق الا في امان واطمئنان وسلام وحركه تتعاون وتتساعد لتنهض بالمجتمع الذي تعيش فيه نهضه عمرانيه تؤكد للانسان حقاً انه هو خليفه الله في الارض.

ولا يكتفي الايمان منا بان يؤمن الفرد ايماناً يعزله عن بقيه الوجود، لانه يكون في ذلك قد خسر حركه الحياه في الدنيا، والله يريد له ان ياخذ الدنيا تخدمه كما شاء الله لها ان تكون خادمه، فحين يعدي المؤمن ايمانه الي غيره ينتفع بخير الغير، وان اكتفي بايمان نفسه فقط وترك الغير في ضلاله، انتفع الغير بخير ايمانه واصابته مضره الكافر واذاه.

اذن فمن الخير له ان يؤمن الناس جميعاً، ويجب ان يعدي ذلك الايمان الي الغير.

ولكن الغير قد يكون منتفعاً بالضلال؛ لانه يؤدي به طغيانه، عندئذ تنشا المعركه، تلك المعركه التي غايه كل من دخل فيها ان ينتصر، فيعلمنا الله ان نطلب النصر علي الكافرين منه؛ لان النصر علي الكافرين لا يعتبر نصراًَ حقيقياً الا ان اَصَّل صفات الخير في الوجود كله، وحين تتاصل صفات الخير في الوجود كله يكون المؤمن قد انتصر بحق.

وحين يطلب منا الله ان نساله ان ينصرنا لابد ان نكون علي مطلوب الله منا في المعركه، بان نكون جنوداً ايمانيين بحق. وقد عرفنا ان المؤمنين حين يدخلون في معركه مع غيرهم يستطيعون ان يحددوا مركزهم الايماني من غايه المعركه. فان انتهت المعركه بنصرهم وغلبتهم علموا انهم من جنود الله، وان هُزموا وغُلبوا فليراجعوا انفسهم؛ لان الله اطلقها قضيه ايمانيه في كتابه الذي حفظه فقال: {وَاِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون}.. [الصافات : 173].

فان لم نغلب فلننظر في نفوسنا: ما الذي اخللنا به من واجب الجنديه لله. وحين يعلمنا الحق ان نقول: {فانصرنا عَلَي القوم الكافرين}، اي بعد ان اخذنا اسباب وجودنا من ماده الارض المخلوقه لنا بالفكر المخلوق لله، نعمل فيها بالطاقه المخلوقه لله، وحينئذ نكون اهلاً للنصر من الله؛ لان الحق سبحانه وتعالي قد مد يده باسباب النصر: {وَاَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّهٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ}.. [الانفال : 60].

نرشح لك

أهم أخبار رمضان

Comments

عاجل