المحتوى الرئيسى

مترجم: ألم الحياة العصرية.. الوحدة والعزلة - ساسة بوست

07/19 15:42

منذ 11 دقيقه، 19 يوليو,2015

يناقش جراهام بيبلس في مقاله بعض الام حياتنا العصريه، والتي يمكن تلخيصها في الوحده والعزله. فيري ان نظام حياتنا الاقتصادي والاجتماعي يختلف تمامًا عما ينبغي ان يتبعه البشر، اذ اصبح قائمًا علي تعزيز كل ما هو فردي في مقابل كل ما هو مجتمعي، فنتج عن ذلك عواقب سلبيه متشابكه وَلَّدَت بدورها العديد من الامراض النفسيه والاجتماعيه. بدون الإحساس بالانتماء للمجتمع، لن يتبقي لنا سوي الشعور بالوحده والضياع.

يقول بيبلس ان الانسانيه كلها عباره عن جماعه واحده، وكما يقول مهاتما غاندي: “البشريه جمعاء هي اسره واحده، غير مجزاه وغير قابله للتجزئه”. وهذا المفهوم ليس بمفهوم ديني ممالق، وانما هو حقيقه فطريه متاصله فينا. والتي يعمل النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي الحالي ضدها بشكل منهجي، اذ يجبرنا علي العيش بطرق اصطناعيه كاذبه، وعليله مؤذيه، وفارغه، بل وظالمه ايضًا.

والعواقب السلبيه المتشابكه نتيجه العيش في ظل مثل هذا النظام المنحرف كثيره ومتنوعه، وجميعها مؤلمه. فعلي سبيل المثال، تعتبر الوحده والاكتئاب والقلق وعدم الاتساق بعض الاثار الناتجه عن غياب تواصلنا سواء مع ذواتنا، او مع الاخرين من حولنا، او حتي مع الطبيعه.

يزداد الشعور بالوحده كل سنه عن الاُخري، ولا سيما في البلدان المتقدمه. يربط جون كاسيوبو – استاذ علم النفس في جامعه شيكاغو- في كتابه ‘Loneliness: Human Nature and the Need for Social Connection’ بين الوحده وطبيعه البشر وحاجتهم للتواصل الاجتماعي، فيقول انه في الثمانينات من القرن الماضي، “قدر العلماء نسبه من عانوا من الاكتئاب ولو مره واحده طوال حياتهم بـ20% في الولايات المتحده الامريكيه. اما الان تخطت نسبتهم 40%”. ووفقًا لمجله سيكولوجي توداي، بلغت اعداد المصابين بالاكتئاب علي مستوي العالم مستوي الخطر الوبائي. وفي ظل المجتمعات الغربية التي تعاني من الشيخوخه، من المتوقع ان تستمر المعدلات في الزياده.

حاله الوحده الخانقه ما هي الا نتاج الشعور بالعزله والقطيعه، والانجراف مع التيارات علي غير هدي، وليست نتيجه كون المرء وَحدَهُ. اذ يرتبط الشعور بالوحده بالفقدان؛ قد يكون فقدان شخص عزيز، او حتي غياب علاقه محدده واضحه مع النفس. تقول الام تيريزا التي عملت مع اشد الفقراء فقرًا في الهند: “الوحده وشعور الفرد انه غير مرغوب فيه، هم الفقر الابشع علي الاطلاق”. فالوحده مؤلمه للغايه، فهي تجرف الثقه بالنفس، وحسب وصف كاسيوبا  يمكنها ان تجعل المرء “يشعر ان الاخرين من حوله ليسوا الا مصدر تهديد وخطر، عوضًا عن كونهم مصدرًا للتعاون والتعاطف”.

يوصم الشعور بالوحده بعده اوصاف مثله مثل العديد من الامراض المرتبطه بالصحه النفسيه، حيث يصورها المجتمع علي انها “المرادف النفسي لكون المرء فاشلًا في الحياه او ضعيف الشخصيه”. وكما يقول كاسيوبو نحن نعيش في عالم يؤيد ويدعم الشخص القوي الناجح، الذي تقوده دوافعه، بينما يمتعض الضعف وغيره من قصور في الشخصيات بصفه عامه، وفي الرجال بصفه خاصه. وكنتيجه لذلك، ينكر الناس الشعور بالوحده، وهو خطا جسيم، فتلك الحاله الخانقه يمكنها ان تزيد خطر الموت المبكر بنسبه صاعقه، تصل الي 45%، اي اعلي من المسببات الاخري للموت المبكر كالبدانه والافراط في استهلاك المواد الكحوليه.

تميز القيم الماديه عصرنا الحالي، كما تميز ايضًا النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد، فكل الحكومات لجميع الاتجاهات السياسيه ليسوا الا خادمًا خاضعًا للنظام، منقادًا وراءه، وشريكًا للشركات التي تدير هذا النظام. تشكل تلك الحكومه والشركات معًا النخبه الحديثه. ولعل اخر شيء ترغب فيه هذه النخبه هو جموع الدهماء السعيده القانعه والمتحده ايضًا. وتعتبر “علاقتك انت مع جهاز التلفاز الخاص بك” هي الوحده الاجتماعيه المثاليه لهم باعتبارهم “ساده الكون” كما يطلق عليهم ادم سميث الشهير. يقول نعوم تشوميسكي انه في عالم يخلو من روح المجتمع، حيث تعزز الانانيه، اذا جاع الطفل في المنزل المجاور لك، لن تهتم فهي ليست مشكلتك. واذا استثمر الزوجان المتقاعدان في المنزل المجاور لك جميع اصولهم بشكل سيئ، وخسروها فصاروا يتضورون جوعًا الان، هي ليست ايضًا مشكلتك. فالوحده المجتمعيه والتعاطف الانساني هما عدو النخبه والنظام الجائر الذي يعزز قيم الجشع واللامبالاه.

تتسبب تلك القيم في التفريق والانفصال، فتخلق حاله لا مفر فيها من الشعور بالوحده. بالفعل يتم تعزيز الانانيه والتراكم المفرط في المجتمع؛ ويتم تشجيع الطموح الفردي وروح التنافس التي “تدمر كل مشاعر الاخوه الانسانيه والتعاون” حسب وصف البرت اينشتاين، ويضيف قائلًا ان تصوير الطموح علي انه لا ينبع من حب الانتاج والعمل المَدروس، لكن علي انه ينبع من الطموح الشخصي والخوف من الرفض، هو تصور تخلل كل مجالات الحياه بل وهيمن عليها.

اذا رغبت الانسانيه في التقدم نحو طريقه عيش جديده وسلميه، ستحتاج الي تنحيه القيم التي تخلق بالضروره حاله من الوحده فتتيح المجال لقيم ايجابيه اكثر. علي سبيل المثال، تشجيع التعاون عوضًا عن التنافس يسمح بانتشار التسامح والتفاهم حيث يسود الشك والانانيه. ويسمح ايضًا للمجتمعات ان تتحد فتقوي وحدتها، وهي من الحاجات الاساسيه في اوقات الشده.

يقول جون كاسيوبو عن الم الوحده انه “علامه منفره في البقاء علي قيد الحياه” بنفس الطريقه كما الجوع والعطش. فهو “جزء من الاليه البيولوجيه التي تنبه الفرد لمدي الخطر والضرر في جسدك الاجتماعي”. هذا الجسد الذي نحتاج ان نبقيه علي قيد الحياه. فذلك الالم هو رد فعل غريزي لكونك علي هامش المجتمع، وبالتالي فانت في خطر؛ ربما لم يعد الخطر جسديًّا، لكنه بالتاكيد خطر نفسي. يقول كاسيوبو هذا الشعور بالتهديد والخطر يبدا بتوليد عمليه غريزيه من الدفاعيه والحفاظ علي الذات. ويكون المخ في حاله تاهب قصوي، فيفرز مستويات عاليه من “كورتيزول الصباح” وهو هرمون توتر قوي، والذي يؤدي الي ردود افعال خرقاء متخلفه لا تُحتَمل، والتي بطبيعه الحال تعزز حاله الاغتراب الاجتماعي.

يصف احد التقارير الصادره حديثًا في بريطانيا الشعور بالوحده، وخاصه بين كبار السن بانه “العملاق الحديث”. فغالبًا ما يصاحب هذا الوحش النفسي مشاعر الخزي، والاحساس بالذنب والفشل. يشعر مَن يعاني مِن الوحده انه غير كافٍ الي حد ما، فهو ليس جذاب، ولا مثير للاهتمام بشكل كافٍ، ولا ناجح بدرجهٍ كافيه تناسب هذا العالم القاسي، حيث ياكل القوي الضعيف. وبالرغم من كم التركيز المنصب علي الانجاز، والتاكيد علي انه اكسير السعاده وتحقيق الذات، يؤكد علم النفس اليوم بكل وضوح ان ايًّا من الموهبه او النجاح المالي او الشهره او حتي العشق لا تضمن ايه حمايه من تعرضك لتجربه الوحده.

فما هو الحل اذًا؟ يعد تكوين شبكه علاقات اجتماعية قويه في غرضها وهيكلها امر حيوي. لكن السؤال هنا هل تعالج تلك العلاقات الفراغ المستبطن الذي يبعث علي الشعور  بالوحده؟

يتولد احساسنا بالسعاده والرفاهيه العامه بسهوله اكثر عند شعورنا بالاتصال، لكن ما الذي نتوق الي الاتصال به؟ فالاحتياج العالمي الي الشعور بالارتباط متجذر في الشعور بالانكسار، ويبطن الشعور الكامن وراء الضياع فياتي علي هيئه شعور بالوحده. فاذا شعرنا بالكمال او باننا كيان كامل في انفسنا، سنفترض ان تلك الحاجه الملموسه لن تكن موجوده من الاساس.

تقول احد المدراس الفكريه ان الفراغ والعزله التي نعاني منها ما هي الا نتيجه اننا لسنا علي علاقه وطيده مع ذواتنا الحقيقيه، التي تعتبر مركز السلام او التي يصفها البعض بانها البذره الالهيه في صميم وجودنا. فهذا الالم الذي نحاول باستمرار تسكينه، مصدره الاساسي هو محاوله التماهي مع كل شيء واي شيء عدا ذواتنا، ومحاولاتنا الدؤوبه لتشتيت انفسنا عن طريق الشعور باللذه التي حلت محل السعاده الي حدٍّ كبير.

يقول جدو كريشنامورتي المعلم الهندي العظيم انه عند ادراكنا للوحده والمها والخوف العميق غير العادي منها، حينها فقط نبغي الهروب منها. وربما يبدو هذا طبيعي ومُتَفَهَّم، لكن المُلهيات الحسيه بطبيعتها لا تضع نهايه للشعور بالوحده، بل علي الارجح تؤدي بك الي البؤس والفوضي.

هل حقًّا يمكن للمرء اشباع الشعور بالوحده، والخواء الداخلي باي شيء خارجي؟ يناقش كريشنامورتي هذا التساؤل بمنطقيه فيقول: “اذا وجدنا بالفعل احد المفرَّات المُلهيات، وجربناها فاتضح انها لا قيمه لها، اليست اذًا جميع المفرات بلا قيمه هي الاُخري؟”.

يعتبر الصمت والمساحه المسموح لنا بالنظر داخلها من العملات النادره في عالمنا، وخاصه في المجتمعات الغربيه. فالنموذج الاجتماعي الاقتصادي العالمي الحالي صاخب وسام، اُسِسَ علي قيم سلبيه، فلوث الارض وسلب سعادتنا بجعلنا مرضي تعساء بطرق متنوعه عديده.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل