المحتوى الرئيسى

هاجر توفيق تكتب: مذكرات سجين | ساسة بوست

07/16 02:39

منذ 6 دقائق، 16 يوليو,2015

انهم يصرخون ويبكون في صمت، وينحنون علي الدوام خوفًا من بطش السجّان. والواحدُ مِنهُم يُسَلط عليه وحوش في شكل بشر يصفعونه كل صباح وظهيره ومساء علي وجهه وقفاه، وينهالون عليه بالهراوات، ويامرونه ان ينحني فينحني ليُضرب علي راسه وظهره كالماشيه، ويُامر ان يخلع ملابسه فيخلعها ليعبث الهمج بجسده، ويامرونه ان يدور وهو محني الظهر خالع الملابس فيدور كما تدور النحله وهم ينهالون عليه ضربًا ولكمًا وركلًا ويوسعونه شتمًا وسُبابًا وسُخريه.

حين اختلف عبد الناصر مع الحزب الشيوعي السوري حول شروط الوحده المصريه السوريه، ثم مع الحزب الشيوعي العراقي حول توجهات العراق بعد اسقاط النظام الملكي، وُضِع الشيوعيون المصريون بين اختيارين كليهما صعب. فكان عليهم اما ان يختاروا بين توحيد سياستهم مع سياسه الحزبين الشقيقين، فيُعرِضوا انفسهم لغضب الحليف الداخلي، واما ان يوحدوا سياساتهم مع الحليف الداخلي “عبد الناصر”، فيعارضوا بذلك سياسات اشقائهم ويخرجوا من حظيره التضامن الاممي.. وظل الشيوعيون المصريون يحاولون التوافق الي ان حسم عبد الناصر الامر في 1959 وقرر ضرب الشيوعيين وزجهم في السجون والمُعتقلات. كذلك توترت العلاقه بين جمال عبد الناصر وجماعه الاخوان المسلمين بعد حادثه المنشيه الشهيره؛ مما ترتب عليه ملاحقتهم والقبض عليهم والقاؤهم في السجون هم ايضًا.

ولمّا كانت المُعتقلات والسجون في عهد عبد الناصر موطنًا للتعذيب كغيره من المُستبدين ومُكممي الافواه، اوفدت السلطات الناصريه في الخمسينيات عددًا من الضباط للتدريب في الولايات المُتحده الامريكيه علي ما يُسمي بـ “القتل المعنوي”. وكان هذا نوعًا من انواع التعذيب حيثُ لا يصل الضحايا الي حد الموت الجسدي، انما تحرص السلطه علي ابقاء ضحاياها احياء جسديًّا لكي لا تُضبط بقتل الانفس البريئه يومًا وحتي لا تُخلف وراءها اثارًا لجرائمها، وايضًا حتي لا يتحول الضحايا من مخربين الي ابطال وشهداء من اجل الحريه.

هذا النوع من التعذيب يقود الفرد الي الكفر بقيم ومبادئ الجماعه التابع لها، تغذيهم الكوابيس وتدفعهم الي الياس. وقد يصل الامر الي دعم سلطه القائمين علي التعذيب، يتم ذلك بدافع الذعر في البدايه ثم يصل الي حدّ الولع والافتتان بالمعذِّبين عبر سلسله غريبه من عمليات خداع الذات وتنظير الياس – مثل ما انتهي اليه بطل روايه 1984 لـ جورج اورويل- وحين تخرج الضحيه من معسكر التعذيب علي هذه الصوره او تلك من الدمار المعنوي والروحي، فانها تخدم اهداف السلطه الاستبداديه علي نحٍو افضل مما لو خرجت جثه شهيد لقي مصرعه اثناء التعذيب.

الشاعر سمير عبد الباقي احد ضحايا التعذيب في سجون عبد الناصر سجل شهادته قائلًا: “كنت قد اصدرت مجله باسم “صوت الفلاحين” مع اثنين من زملائي من دكرنس، وكانت لنا افكار ضد النظام ولم تعجب القائمين علي اجهزه الامن وخصوصًا اننا كنا ننادي بالديمقراطيه فدسوا بيننا مخبرًا تابعًا للمباحث لكي يتم الايقاع بنا وبالفعل تم لهم ما ارادوا فدخلنا السجن الاحتياطي مع مجموعه اخري من الشباب، وهناك من ذهب للمعتقلات المُجهزه للتصفيه والتعذيب وتم حبسي مع مجموعه واتهمونا بالشيوعيه في قسم مكافحه الشيوعيه في المباحث العامه، وهناك من مات بسبب التعذيب وتم سجني من 1959 وحتي 1964 في زنزانه انفراديه لمده 30 شهرًا في البدايه في سجن المنصوره، ولم يصدر ضدي امر اعتقال الا بعد حبسي بفتره وبعدها نقلوني للواحات والفيوم.

تعرضت لاهانات طبعًا وتم رميي في زنزانه بلا فرش او غطاء او ملابس وحافيًا، ولم ارَ النور لمده 6 شهور تقريبًا وكنت اذهب للمكتبه وبدانا نقرا عما كان يحدث في ابو زعبل وكنت اسال السجانه فيقولون لي خليك في حالك فطالما نحن بعيدًا عن المباحث العامه لن يحدث لنا ما يحدث هناك، وعندما ذهبت للواحات لم يكن هناك اكل لدرجه ان المساجين اكلوا الخروع وتسمموا، ففتح المامور السجن علي ارض زراعيه هناك وقمنا بزراعتها لكي ناكل”.

“سالخص لكم الاوردي في منظر صغير.. كان اخر عهدي بالدكتور فؤاد مرسي في معتقل القلعه “بيه”.. دائمًا ما كان يخرج ليتمشي في حوش المُعتقل وهو يرتدي بذلته الانيقه، واحيانًا يرتدي فوق البنطلون والقميص روب دي شامبر انيقًا من الصوف. ذقنه حليقه ونظارته لامعه، يتبادل الحديث مع رفاقه ويوزع الابتسامات علي الجميع، ثم تفرقت بنا السبل الي ان ذهبنا الي الاوردي. في اليوم التالي لوصولنا، كان بعض زملائنا يتعلقون بقضبان شباك العنبر ترقبًا لظهور احد من زملائنا الذين سبقونا الي الاوردي. قال احدهم: هذا هو الدكتور فؤاد.

دفعني الفضول الي الاسراع والتعلق بالقضبان لعلني اري الدكتور فؤاد او غيره، لاتبادل معه كلمه او كلمتين حول الوضع القائم في هذا السجن العجيب. وحين اطللت بنظري رايت اثنين من المسجونين يلبسان ملابس مغبره ومصفره وممزقه. كان احدهما يتطلع يمينًا ويسارًا، يرقب الطريق ليحذر الاخر ان ظهر احد السجانين. وكان الاخر يلتفت ايضًا، لا لسبب واضح، ولكن لمجرد دافع القلق والذعر، ثم يندفع ناحيه الحائط المقابل حيث توجد كومه من القمامه التي اخرجناها من عنبرنا هذا الصباح، ينبش كومه القمامه ليخرج كسرات من الخبز، ينفض عنها التراب ثم يدسها في حلق بنطلونه، وبعد ان يختطف كسرات الخبز من القمامه يهرول الي موقع المسجون الاخر. يلتفت يمنه ويسره، ويقضم في نهم قضمه من كسره في يده، ثم يستدير مهرولًا ناحيه كومه القمامه مره اخري.

كان المنظر غريبًا، شغلني للحظات ـ ولكن لم البث ان تنبهت وسالت زميلي الذي يتعلق جانبي بقضبان الشباك: ولكن، اين الدكتور فؤاد؟ فاجاب: ها هو.. نظرت الي حيث يشير زميلي، فرايته يشير الي المسجون القصير الممزق الثياب الذي ينبش في كومه القمامه!”.

يقول مُحمد عباس احد معتقلي الاوردي بابو زعبل: “اتعرفون اسوا شيء في الاوردي؟.. انه الفجر، ان بشائر يوم جديد تعني تجدد هذا الجحيم كله، واشد اللحظات قسوه هي تلك التي تصافح فيها عيوننا الشاخصه للقضبان لنتبيّن ان الخيوط الاولي لنور يوم جديد بدات تشق طريقها وسط الظلام المُريح.. هذه اللحظه التي تتكثف فيها كل التعاسه والعذاب!”.

ويسرد احمد رائف في كتابه “البوابه السوداء” اهوال السجن الحربي الذي امضي فيه سنوات طويله.. “ان العذاب يبدا من الاهانه والصفع والضرب بالعصا ثم يتنوع لنجد ان يتولي المساجين ضرب بعضهم بعضًا ثم هناك الزحف علي اربع واطلاق اصوات الاغنام والسير حفاه عراه علي الواح بها مسامير. كذلك كنس الارض من الزجاج بالايادي العاريه، فاذا اُصيب احد بجروح تركوه في العراء حتي يجف جرحه.

اللواء حمزه البسيوني، عسكري مصري من الضباط الاحرار. كُلف باداره السجن الحربي في عهد عبد الناصر، وكان ذلك السجن سيئ السمعه لما اشتهر به من التعذيب الذي كان يمارس فيه ضد السياسيين المشكوك في ولائهم للنظام. وكان اسم حمزه، حسب روايات بعض السجناء، عنيفًا يتفنن في ممارسه التعذيب ضد المعتقلين وقتل بعضهم، اشهرهم سيد قطب.

اشتهر بقصه تقول ان المعتقلين والمعذَبين عندما كانوا يقولون “يا رب” اثناء التعذيب، فكان يقول لهم “لو اتي ربكم هذا لوضعته معكم في السجن”.

في كتابه “الاخوان المسلمون بين ارهاب فاروق وعبد الناصر” يحكي علي صديق بدايه رؤيته لحمزه البسيوني في السجن الحربي بعد حادثه المنشيه في 26 اكتوبر عام 1954. يقول: “لقد اشتركت كافه اجهزه الدوله في تعقب الاخوان والقبض عليهم ونقلهم الي سجن مصر او سجن القلعه، وكان مجلس قياده الثوره يبعث في طلب من يريده ليجري عليه عمليات التعذيب الجسدي من نفخ من الخلف الي وضع الطوق الحديدي حول جمجمته الي الضرب بالسياط ثم اعادتهم الي السجن مره اخري”.

ويحكي مصطفي امين في كتابه “سنه اولي سجن” نقلًا عن احد المعتقلين الذين التقاهم داخل السجن الحربي كيف استُقبِل عند دخوله “الاوبرج” بكلبين هُما “ميمي” و”ليلي” حيث التفا حوله لينهشا لحمه. وقيل ان حمزه البسيوني اصطحبه الي معتقل 3 وتركه فريسه للكلبين.

‮ ‮ ‮ ‮ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل