المحتوى الرئيسى

اليونان: ما بعد "لا"

07/15 19:49

هكذا صوَّتت اغلبيه معتبره من اليونانيين بـ "لا"، في الاستفتاء علي شروط الترويكا المتعلقه باموال الانقاذ من اجل سداد ديون الحكومه اليونانيه. وبالنظر الي تكتيكات الفزع من جهه المفوضية الاوروبية والسياسيين الالمان، تجعل البروباغندا اليونانيه المواليه للراسماليه، واغلاق البنوك، من الصعب، ان لم يكن من المستحيل، تدبير العمل اليومي. واغلبيه "التصوت بلا" هي هزيمه ضخمه للترويكا ورأس المال الكبير في اوروبا، وانتصار للشعب اليوناني والعماله الاوروبيه.

لكن، بطريقه ما، لا تُحدِث نتيجه الاستفتاء اليوناني اي فرق في التعامل مع المشاكل المستقبليه. يقول كل من تسيبراس وفاروفاكيس ان التصويت سيمكِّنهم الان من التفاوض علي صفقه افضل مع الترويكا للحصول علي حزمه انقاذيه جديده من شانها، كما ياملون، ان تتضمن نوعًا من "تخفيف الديون".

لكن يَفترض هذا ان الترويكا ستكون علي استعداد اصلًا للتفاوض مع سيريزا. انظر الي هذا التعليق من وزير الاقتصاد الالماني، زيجمار جابريل (الاشتراكي الديمقراطي!)، الذي قال لصحيفه شبيغل ان هذا  التصويت بلا يجعل من الصعب ان نتصور محادثات بشان برنامج انقاذ جديد مع اليونان. واتهم الكسيس تسيبراس بانه قام بـ "هدم اخر الجسور" التي كان من الممكن ان تؤدي الي تسويه: "مع رفض قواعد منطقه اليورو..... فان المفاوضات حول برنامج بالمليارات بالكاد يمكن تخيلها،.... يقود تسيبراس وحكومته الشعب اليوناني علي طريق الهجر المر والياس".

وحتي لو فعلوا، فانه قد لا تُقدَّم اليهم اي شروط افضل. تذكّر، وافق سيريزا بالفعل علي زياده مساهمات الضمان الاجتماعي وضريبه القيمه المضافه، من اجل تقليص المعاشات مع مرور الوقت وعمليات خصخصه في جميع المجالات.

علي حد تعبير لاري اليوت في الغارديان: "عضويه اليونان في اليورو معلَّقه بخيط رفيع بعد الانتصار لجانب لا في استفتاء البلاد. تنفد ماكينات الصرف من المال والاقتصاد في تراجع مستمر. ومصير وطن الديمقراطيه ليس بيده. واذا اختارت اثينا ان تفعل ذلك، يمكن للبنك المركزي الاوروبي اجبارها علي سداد ديونها واصدار عملتها الخاصه صباح اليوم الاثنين من خلال سحب الدعم الطارئ للنظام المصرفي اليوناني".

و"في حال كانوا سيقومون بذلك فما يبقي هو تحققه. والواقع ان التعاطي عديم الشفقه بخصوص اليونان، منذ اندلعت الازمه لاول مره في 2010، يشير الي ان التخبط سيعقبه تخبط. ولا يساعد ان تكون العلاقات بين اليونان وغيرها من الاعضاء الثمان عشر في منطقه اليورو متدهوره الان. وفرص اليونان في ترك اليورو عن طريق الخطا، تمامًا كما ذهبت ليمان براذرز مفلسه عن طريق الخطا في 2008، مرتفعه بشكل معقول".

لكن علي المدي الطويل، تكون القضيه الحقيقيه هي ان عبء الدين العام والخاص في اليونان كبير جدًا بالنسبه لخدمته من قِبَل الاقتصاد الراسمالي اليوناني، علي الرغم من ضغط العمل اليوناني فعليًا حتي الموت - حرفيًا. وقد نشا عبء الدين العام اليوناني لسببين رئيسين: كانت الراسماليه اليونانيه ضعيفه جدًا في التسعينات، وكانت ربحيه الاستثمار المنتِج منخفضه جدًا، وهو ما جعل الراسماليين اليونانيين في حاجه الي دعمهم من قِبَل الدوله اليونانيه من خلال ضرائب منخفضه واعفاءات ومنح للاوليغاركيه اليونانيه المفضله. وفي المقابل، حصل السياسيون اليونانيون علي جميع الامتيازات والنصائح التي جعلتهم اثرياء ايضًا.

ومن ثم انضم هذا الاقتصاد اليوناني الضعيف والفاسد الي اليورو، وصار قطار مرق اموال الاتحاد الاوروبي متاحًا، فجاء الالمان والفرنسيون فورًا لشراء الشركات اليونانيه وللسماح للحكومه بالاقتراض والانفاق. وارتفعت عجوزات الميزانيه السنويه والدين العام في ظل الحكومات المحافظه والديمقراطيه الاجتماعيه المتعاقبه. وقُدِّم لها التمويل من قِبَل اسواق السندات، لان الراسمال الالماني والفرنسي استثمر في الشركات اليونانيه واشتري سندات الحكومه اليونانيه التي عادت عليه بفائده افضل بكثير من تلك الخاصه به. هكذا عاشت الراسماليه اليونانيه علي الائتمان المدعوم للالفيه الذي اخفي ضعفها الحقيقي.

لكن بعد ذلك جاء الانهيار المالي العالمي والركود الكبير. وتقدَّم منطقه اليورو الازمه ووقعت بنوك وشركات منطقه اليورو في ورطه كبيره. وفجاه، حكومه مع دين يقدر بـ 120٪ من الناتج المحلي الاجمالي، وعجز سنوي يقدر بـ 15٪ من الناتج المحلي الاجمالي، لم تعد قادره علي تمويل نفسها من السوق، وفي حاجه الي "انقاذ" من بقيه اوروبا.

بيد ان الانقاذ ما كان ليساعد اليونانيين علي الحفاظ علي مستويات المعيشه والخدمات العامه خلال الازمه. وعلي العكس من ذلك، كان لا بُدَّ من خفض مستويات المعيشه والخدمات العامه لضمان ان البنوك الالمانيه والفرنسيه ستستعيد اموال سنداتها، ولحمايه الاستثمار الاجنبي في الصناعه اليونانيه.

حين اقتُرح ان البنوك الالمانيه والفرنسيه يجب ان تاخذ الضربه، ردَّ رئيس البنك المركزي الاوروبي في وقت الانقاذ الاول، تريشيه، ان هذا من شانه ان يسبب انهيارًا مصرفيًا كالذي قامت به ليمان في الولايات المتحده في 2008. لقد "خرج عن طوره"، بحسب احد الحضور. وقال تريشيه "نحن اتحاد اقتصادي ونقدي، ويجب الا تكون هناك اعاده هيكله للديون!". و"كان يصيح"، كما اشار هذا الشخص. وبهذا، فانه لم يكن يقصد اي خسائر للبنوك باعتبارهم "دائنين متهورين"، وانما، بدلًا من ذلك، يجب علي اليونانيين تحمل العبء الكامل باعتبارهم "مقترضين متهورين".

من خلال برامج الانقاذ، كان الراسمال الاجنبي اكثر او اقل سدادًا بالكامل، مع تحول عبء الدين الي دفاتر الحكومه اليونانيه، والمؤسسات الاوروبيه، وصندوق النقد الدولي - وبعباره اخري، دافعي الضرائب. وتعهدت اليونان في الاخير بمواجهه تكاليف الاخفاق المتهور للراسمال اليوناني ورأس مال منطقه اليورو.

تمثَّلت خطه الترويكا في جعل اليونانيين يدفعون بعواقب انخفاض 25٪ في الناتج المحلي الاجمالي، وانخفاض بنسبه 40٪ في الدخل والمعاشات الفعليه و 27٪ معدل بطاله. وتم تحويل العجز الحكومي الي "الفائض الاولي" خلال اقصر فتره من الزمن بالنسبه لاي حكومه حديثه. كما خفضت اليونان عجزها المالي من 15.6 في المئه من الناتج المحلي الاجمالي، في عام 2009، الي 2.5 في المئه، في عام 2014، وهو نطاق من تقليص العجز لا نظير له في اي مكان اخر في العالم.

وانخفض اجمالي العماله في القطاع العام من 907351، في عام 2009، الي 651717، في عام 2014، اي بانخفاض نسبته اكثر من 255 الف. وهو انخفاض يُقدَّر باكثر من 25٪. كذلك تحولت اليونان من واحده من ادني الدول في متوسطات سن التقاعد الي واحده من اعلي المعدلات. وبهذا، تكون اليونان قد تعهدت بالاصلاح الاكثر اهميه لنظام المعاشات في اوروبا حتي قبل احدث مطالب الترويكا. لقد كان هذا تقشفًا في افضل حالاته.

لكن المفارقه الرهيبه هي ان هذه السياسه قد فشلت. بعيدًا عن التعافي، دخل الاقتصاد الراسمالي اليوناني الي كساد عميق. والانتعاش الاقتصادي المفترض قيادته من خلال الصادرات لم يتحقق. وبدلًا من ذلك جعلت تدابير التقشف الامور اكثر سوءًا.

لذا؛ ايًا كان التصويت في الاستفتاء، لا تستطيع اليونان تسديد ديون القطاع العام، و75٪ منها مستحقه لترويكا مؤسسه قرض منطقه اليورو، وصندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الاوروبي. ومع بنوك مغلقه وسحب للائتمان من قِبَل البنك المركزي الاوروبي وبقيه الراسمال الاوروبي، فان الاقتصاد في انهيار.

يعتقد صندوق النقد الدولي الان، في تقريره الجديد، ان الدائنين يجب ان يشطبوا  من الديون ما يعادل 30٪ علي الاقل من الناتج المحلي الاجمالي اليوناني حتي يكون البلد قادرًا علي تحمل خدمه ديونه دون تخلّف. وكما يقول التقرير: "من غير المرجح ان اليونان ستكون قادره علي سد فجواتها التمويليه من الاسواق بشروط تتفق مع القدره علي تحمل الديون. والقضيه المركزيه هي ان الدين العام لا يمكن ان يرحّل مره اخري علي الميزانيه العموميه للقطاع الخاص بمعدلات تتماشي مع القدره علي تحمل الديون، ريثما تصل نسبه الدين الي الناتج المحلي الاجمالي لاقل من ذلك بكثير مع قسط في المقابل بمخاطر اقل". وبالطبع، يجب ان تكون اي عمليه شطب قروض عن طريق مجموعه اليورو. فلا يزال صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الاوروبي يتوقعان تسديد ديونهما بالكامل!

لماذا لا يمكن لديون الحكومه اليونانيه ان تخدم وتسدد بالكامل؟ الامر في غايه البساطه. ان الاقتصاد الراسمالي اليوناني ضعيف للغايه، وغير فعال للغايه، وغير مثمر للغايه، لان ينمو بالسرعه الكافيه. ولقد خفضت الاجور اليونانيه، وخفض انفاق القطاع العام بوحشيه، كما خفضت المعاشات بحده. ويجري حاليًا وضع خطط لتحسين تحصيل الضرائب واخذ موضوع انهاء التهرب الضريبي والمراوغه بعين الاعتبار. لكن وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي، ان عائدات الضرائب لن تكون كافيه لتحقيق فائض كبير بما فيه الكفايه قبل تسديد مدفوعات الفائده علي الديون الحاليه لليونان. والواقع ان تقديرات صندوق النقد الدولي متفائله جدًا علي الارجح، وبالنسبه للمؤسسات الاوروبيه فان مستوي الحلاقه من اجل الديون اعلي بكثير من تقديرات صندوق النقد الدولي.

وحتي اذا اُجبرت حكومه سيريزا، او اي حكومه يونانيه اخري، علي حزمه "انقاذ" جديده من اجل محاوله الحصول علي الاداره اللازمه لخدمه ديونها، فان سيناريو اليس في بلاد العجائب حيث المزيد من القروض لدفع ثمن القروض السابقه سوف تستمر -  مخطط بونزي الفعلي؛ تطبيق المزيد من التقشف والخفض في مستويات المعيشه، سيجعل نمو الراسماليه اليونانيه اكثر صعوبه.

في حال كان هناك اتفاق مع الترويكا الان، او، بدلًا من ذلك، الخروج اليوناني، يحتاج الاقتصاد اليوناني الي النمو. هذا فقط ما يمكن ان يجعل عبء الدين العام او الخاص يختفي. خذ الولايات المتحده. ان ديون القطاع العام الامريكي ضخمه بما يقترب من 100٪ من الناتج المحلي الاجمالي. بيد ان الولايات المتحده تستطيع خدمه هذا الدين بسهوله لانها تمتلك نموًا للناتج المحلي الاجمالي الاسمي بمعدل 4٪ في السنه. وتكاليف الفوائد المترتبه علي ديونها منخفضه جدًا ومعدلها 3٪ فقط في السنه. وبما ان النمو اعلي من تكلفه الفائده علي الديون، يمكن لحكومه الولايات المتحده ان تعاني من عجز في الضرائب مقابل الانفاق (قبل الفوائد) بنسبه 1٪ من الناتج المحلي الاجمالي في السنه، ونسبه ديونها ستبقي مستقره (لكن لن تسقط).

لدي اليونان، من ناحيه اخري، في عام 2011، تكاليف فائده علي ديونها باكثر من 4٪ ويصل نمو الناتج المحلي الاجمالي الاسمي لما نسبته 5٪ سنويًا، ولذلك هي في حاجه الي فائض حكومي نسبته 9٪ من الناتج المحلي الاجمالي للحفاظ علي الدين من الارتفاع. لقد طبقت الحكومه التقشف ولكن لا يزال ثمه عجز. بل ان اعاده هيكله الديون الصغيره، من عام 2012، في برنامج الانقاذ الثاني، لن توقف الارتفاع في نسبه الديون. انها لا تزال ترتفع.

في حزمه انقاذ عام 2012، وافقت مجموعه اليورو لليونان علي تاجيل سداد قروضها حتي عام 2022، وخفض مدفوعات الفائده عليها الي 2٪ فقط. لذلك، ولتحقيق الاستقرار في الديون، فان الاقتصاد اليوناني يحتاج ان ينمو الان بنسبه 2٪ فقط في السنه من حيث القيمه الاسميه، وان يوازن ميزانيته. لكن اليونان لا تستطيع فعل ذلك الان. وحتي لو كان في وسعها، فان ذلك يعني ان نسبه الدين ستبقي 180٪ من الناتج المحلي الاجمالي اليوناني. لهذا، يعتمد كل شيء  علي استعاده النمو، نمو اسرع بكثير. وهذا يعني المزيد من الاستثمارات، ووظائف جديده، وارتفاع الدخل، والايرادات الضريبيه، والقدره علي دفع الديون.

كيف يمكن جعل الاقتصاد اليوناني ينمو؟ ثمه ثلاث سياسات اقتصاديه محتمله. هناك الحل النيوليبرالي الذي طالبت به وتفرضه الترويكا حاليًا. وهو المادومه علي تقليص القطاع العام وتكاليفه، والحفاظ جعل علي دخول العماله في هبوط، وجعل اصحاب المعاشات وغيرهم يدفعوا اكثر. ويهدف هذا الي زياده ربحيه العاصمه اليونانيه، واستثمار اجنبي اكثر، واستعاده الاقتصاد. في الوقت نفسه، من المؤمل ان الاقتصاد في منطقه اليورو سيشرع في النمو بقوه وهو ما قد يساعد اليونان، فمع صعود موجه تصعد كل القوارب. وحتي الان، هذا حل فاشل بشكل بارز. لقد تحسنت الربحيه بشكل طفيف، ويبقي النمو الاقتصادي في منطقه اليورو باعثًا علي الغم.

الحل التالي هو الكينزيه. وهو ما يعني زياده الانفاق العام لزياده الطلب، وادراج الغاء جزء من ديون الحكومه وانسحاب من منطقه اليورو لادخال العمله الجديده (الدراخما) التي ينبغي تخفيض قيمتها بقدر ما هو ضروري لجعل الصناعه اليونانيه قادره علي المنافسه في الاسواق العالميه. ولقد تم رفض هذا الحل من قِبَل الترويكا، بطبيعه الحال، علي الرغم من اننا نعرف الان ان صندوق النقد الدولي يريد "تخفيف عبء الديون" علي حساب مجموعه اليورو (اي دافعي الضرائب في منطقه اليورو).

والمشكله مع هذا الحل هو انه يفترض ان العاصمه اليونانيه يمكن ان تنتعش مع سعر عمله اقل، والتي من شانها زياده الانفاق العام وزياده "الطلب"، دون مزيد من خفض الربحيه. لكن ربحيه راس المال هي المفتاح للعوده في ظل الاقتصاد الراسمالي. وعلاوه علي ذلك، في حين ان المصدرين اليونانيين قد يستفيدون من تخفيض قيمه العمله، ستظل العديد من الشركات اليونانيه تواجه مازق كسب المال في الوطن بالدراخما ودفع الديون باليورو. سيفلس الكثيرون. وفعليًا لم تُخدم 40٪ من ديون البنوك اليونانيه للصناعه.

والارتفاع السريع للتضخم الذي سيتبع تخفيض قيمه العمله من شانه ان يرفع الربحيه فقط، لانه سياكل في الدخل الحقيقي للاغلبيه بما ان الاجور ستفشل في التناغم مع التضخم. كما سيكون هناك ايضًا فقدان التمويل الاجتماعي الاوروبي واعانات اخري اذا تم طرد اليونان من الاتحاد الاوروبي ومؤسساته التمويليه.

في نهايه المطاف، وربما خلال خمس او عشر سنوات، اذا لم يكن هناك ركود عالمي اخر، يمكن ان يستعيد الحل الاول او الثاني ربحيه العاصمه اليونانيه الي حد ما، علي خلفيه الانتعاش الاقتصادي في منطقه اليورو. لكنه سيكون اساسًا علي حساب العماله اليونانيه والحقوق ومستويات المعيشه وجيل كامل من اليونانيين سيكون قد خسر رفاهته (وبلدهم، كما قد يذهبون الي اي مكان اخر في العالم لكسب لقمه العيش). تعني هذه الحلول ان العماله اليونانيه ستظل الاكثر فقرًا في المتوسط، في عام 2022، مما كانت عليه، في عام 2008.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل