المحتوى الرئيسى

عن الرجل الذي أنقذ الاقتصاد العالمي مرّتين: الآن وقبل 80 عامًا! - ساسة بوست

07/14 19:09

منذ 2 دقيقتين، 14 يوليو,2015

بعد الحرب العالمية الاولى، وبسبب الدمار الذي حلّ في البني التحتيه لدول كثيره في اوروبا؛ ازدهرت اسواق المال في امريكا لتلبيتها حاجه السوق الاوروبيه والعالم، لكن الامر لم يدم طويلًا حتي تحوّل الازدهار المالي الي ركود تسبب به فائض العرض علي الطلب، ثُمّ انقلبت السفينه الماليه ليشهد العالم فتره الكساد العظيم بدايه من اواخر عشرينات القرن الماضي.

امر شبيه بهذا تكرر مرّه اخري في النصف الثاني من العقد الاوّل من القرن الواحد والعشرين. ابتدا الامر ايضًا عند امريكا التي انهار فيها سوق العقار مُسببًا انهيارًا في السوق المالي امتد اثره الي انحاء العالم وبخاصه منطقه اليورو التي استقرت فيها. حتي 2009 انخفضت نسبه التجاره العالميه الي 40% من حجم التجاره السنوي، ما يعد الانخفاض الاكبر تاريخيًّا. ببساطه لم تعد هُناك اموال في حوزه المُقترضين لسد ديونهم للبنوك والمؤسسات التي اقترضوا منها والتي بدورها لم تجد من تستدين منه. وكما حدث في الكساد العظيم، باءت نظريه الايدي الخفيه للاسواق الحرّه بالفشل. لم تعد فرضيات السوق الضابطه لنفسها والمصححه لاحوالها بذاتها، ذات جدوي.

انّها نسخه شديده الشبه بما حدث سابقًا. وفي كلتا المرّتين كان هناك نفس الشخص لتدارك الموقف، اما هو بذاته، او بافكاره.. شخصٌ يُدعي جون مينارد كينز.

من بوهيمي الي كبير مفاوضين

في الخامس من يونيو 1883، ولد جون مينراد كينز في مدينه كامبردج بالمملكه المتحده. وُلد لعائله تنتمي للبرجوازيه البيروقراطيه. كان والده استاذًا جامعيًّا، وله اخت تزوّجت من ارشيبالد فيفيان هيل الحائز علي نوبل في الفسيولوجيا.

في سنوات دراسته للاقتصاد بجامعه كامبريدج انضم كينز لجماعه بلومزبري، وهي جماعه من المثقفين والكُتّاب والفنانين، الذين اجتمعوا في بلده تشارسلتون بمقاطعه ساسكس الانجليزيه، في الفتره ما بين 1907 الي 1930. وامتازت الجماعه بافكارها التقدّميه تجاه السلوك الجنسي، والفن، وكذا فيما يخص فلسفه الجمال والاقتصاد وايضًا السياسه. كانوا متحررين للدرجه التي جعلت البعض يُعرفهم باعتبارهم بوهيميين.

يعتبرون انفسهم مختلفين جدًّا. ولكن قد يشوبهم تعريف اخر بدلًا عن الاختلاف؛ وهو البوهيميه – فيرجينيا نيكلسون

من هذه المجموعه تفتحت افاق كينز وطريقه تفكيره في الاقتصاد. ومن هُناك انطلق لنقد علم الاقتصاد الكلاسيكي، وذهب الي تطويره بنظرياته الخاصه بالنّقد والسياسات الاقتصاديه الكُلّيه. وبحسب ما يقوله الكاتب الصحافي نيكولاس وابشوت، مؤلف كتاب Keynes Hayek، فانّ جماعه بلومزبري “سمحت لجون كينز ان يُفكّر خارج الصندوق، والتفكير فيما لا يُمكن تصوّره. وادّي ذلك لاتساع الفكر لديه، ما سمح له بالقفز من المنحدرات مع ثقه بعدم وجود قاع”.

مجموعه من اعضاء جماعه بلومزبري

عقب تخرّجه في الجامعه، انخرط كينز في العمل الوظيفي، الذي اهّله للانتقال الي الهند. وبحكم تخصصه الاقتصادي، تولّي مهمه التدقيق المالي في الهند (التي كانت خاضعه للاحتلال الانجليزي) قبل الحرب العالميه الاولي، ولكن بعض الخلافات دفعته للعوده الي بلاده والتدريس في الجامعه. ثُم عقب اندلاع الحرب العالميه الاولي انتقل كينز للعمل في وزاره الخزانه/ الماليه البريطانيه ليعمل علي اعاده هيكله الصرف داخل الوزاره علي اساس الترشيد، وجلب القروض من الولايات المتحده الامريكيه.

فضلًا عن كارثيه الحرب العالميه الاولي من حيث اعداد القتلي التي تصل الي نحو 40 مليون واكثر، فان الاثر الكارثي امتدّ للبنيه التحتيه للدول التي شاركت في الحرب بفاعليه. اغلب دول اوروبا تحققت فيها الكارثه الاقتصاديه، فبريطانيا مثلًا كانت نسبه ديونها الي انتاجها وقت ان بدات الحرب، لا تتجاوز 29%، ثُم بعد انتهاء الحرب قفزت النسبه الي 240%، هذا وكانت بريطانيا وقتها الامبراطوريه المُحرّكه للاقتصاد العالمي، فبشكل او باخر كانت بريطانيا تُسيطر علي ربع مساحه العالم. في المُقابل دولٌ اخري افلست تمامًا كالمانيا، ومع ذلك عوقبت بالمزيد من الديون التي فرضتها دول الحلفاء، قبل ان تُعفي منها لاحقًا.

بعثه الاستجداء: كينز.. المفاوض سليط اللسان

كانت هُناك جهات في الولايات المُتحده الامريكيه تعتزم استخدام منح قروض ما بعد الحرب (العالميه الاولي) كفرصه لفرض التصور الامريكي للنظام الاقتصادي العالمي – جون كينز

رغم قدراته الكلاميه والخطابيه العاليه (لقد كان استاذًا جامعيًّا) الا ان كينز ركّز في مفاوضاته مع الامريكان علي وضعهم في مواقف الضّعف مُستخدمًا نفس القدرات. لم يستخدم كينز مهاراته كدبلوماسي، لكنّه استخدمها كمناور يستهدف الوصول الي محفظه امريكا للحصول علي الاموال باقل نسبه خسائر خاصه بتبعيه الامبراطوريه البريطانيه للولايات المتحده الامريكيه.

كانت المُفاوضات علي مراحل، الاولي بدات بزياره فريق علي راسه كينز الي واشنطن، فيما عُرف ببعثه الاستجداء (1917). في السادس من مايو 1917 – وكان وقتها في واشنطن- كتب جون كينز الي والدته يُخبرها بانّ عمله هُناك ليس شاقًا، مبشرًا ايّاها بانّ المفاوضات مع الجانب الامريكي تسير بشكل جيّد جدًّا. هذه النظره وطريقه التعامل من طرفه، كانت علي نقيض نظره الامريكان بل ورفاقه في البعثه، الذين وصفوه بالعدوانيه والفظاظه وتسلّط اللسان.

هل ايّد كينز الثوره البلشفيه في روسيا؟

نعم، وقد يبدو ذلك غريبًا. ولكنّ ما حدث هو ان كينز كان في واشنطن حين انفجرت بُؤر الثوره الروسيه عام 1917. وكان كينز يُتابع بشغف تطورات الاحداث في روسيا. في رساله بعث بها الي والدته في 30 مارس 1917، قال كينز انّ “ما يحدث في روسيا هو النتيجه الوحيده ذات القيمه للحرب للعالميه الاولي”.

وفي رساله اخري بعثها في مايو من نفس العام، اعرب كينز عن استيائه من طبيعه العلاقات التي تتجه بها بريطانيا ناحيه روسيا، حيث كانت تدعم النظام القيصري. وصف جون كينز التعامل البريطاني في هذا الصدد بالمتخبط واليائس والمثير للسخريه. ثُم في ديسمبر من نفس العام، ارسل كينز رساله اخيره لامه، لم يخفِ فيها مخاوفه مما قد تؤدي اليه الثوره البلشفيه من “افقار عام”، وان كان قد اخبرها في البدايه بانّه لا يخشي من “تغيير نظام اجتماعي عرفناه، فعلي ايّ حال، الانتهاء من الاغنياء بدلًا من خدمتهم هو الحقّ”.

لوحه تعبيريه عن الثوره البلشفيه

بعد الحرب العالميه الاولي، نظّمت دول الحلفاء مؤتمر باريس للسلام في 1919. خرج المؤتمر بعدّه نتائج من بينها معاهده فرساي مع الامبراطوريه الالمانيه، حيثُ حُمّلت الاخيره كامل المسؤوليه عما افضت اليه الحرب، وفُرضت عليها مديونيه ضخمه كتعويضات عن الدمار الذي ادت اليه الحرب.

جون كينز الذي كان حاضرًا مؤتمر باريس، خرج منه غاضبًا بشدّه من العقوبات المفروضه علي المانيا، حتّي انّه استقال من وظيفته في وزاره الخزانه البريطانيه، وعكف علي انتاج كتابه الاوّل “العواقب الاقتصاديه للسلام”. في الكتاب عرض كينز – بغضب بيّن- لوجهه نظره بانّ التحامل علي المانيا سيكون سببًا في ظهور اسوا ما نتوقع. لقد اعتبر الاقتصادي البريطاني انّ العقوبات المفروضه علي المانيا غباءً اكثر منها غير اخلاقيه. وقد اعرب عن تعجبّه بان تكون تلك العقوبات في اطار السعي نحو السلام مع المانيا المنهاره.

المانيا اليائسه لن تُحافظ علي السلام في اوروبا، وبالتاكيد لن تُساهم في الازدهار (…) نحن كُلّنا في ذلك – جون كينز

كان كينز مُحقًا، وهذا ما ادركه منتقدوه وهؤلاء الذين راوا فيه مُتعاطفًا مع الالمان بشكل مُبالغ فيه. ادركوا ذلك حين ظهر لهم هتلر وحزبه النازي بعد 14 عامًا من معاهده فرساي، وحين اصبحت حرب عالميه ثانيه علي المشارف.

اقرا ايضًا: عندما اعفت اليونان المانيا من ديونها: كيف تُكرر المانيا الخطا الاوروبي التقليدي؟

الاب الروحي للاقتصاد المُعاصر.. وعقود من الرخاء والنمو المالي!

كما سبق وذكرنا؛ زياده العرض علي الطلب (وفائض الانتاج)، ادّت الي انهيار السوق المالي في امريكا فيما عُرف بالكساد العظيم. بدا الامر في 29 اكتوبر 1929، او ما عُرف بـ”الثلاثاء الاسود”، حيث طُرح في وول ستريت اكثر من 13 مليون سهمٍ للبيع مرّه واحده. هذا العرض الضخم لم يجد له في المُقابل طلبًا؛ لتفقد الاسهم قيمتها بانخفاض مهول ادّي الي تتابع الانهيار بسبب ما يُعرف بـ“الذعر المالي” حيث تهافت المستثمرون علي البيع لتوقعهم انخفاضًا حادًا في سعر الاسهم. ويُمكنك ان تتخيل ما وصلت اليه الامور حين تعلم انّه في اقل من شهر (22 اكتوبر- 13 نوفمبر) بلغ اجمالي الخسائر في السوق الماليه الامريكيه 30 مليار دولار، اي ما يزيد عن الميزانيه الفيدراليه انذاك بعشر مرّات!

كانت الدول قد عمدت الي سياسات وقائيه للخروج من الازمه، ولكنّها زادت الطين بلّه. علي سبيل المثال فرضت حكومه الولايات المتحده الامريكيه مزيدًا من التعريفات الجمركيه، علي نحو 20 الف صنف مستورد. دولٌ اُخري فرضت زيادات في الضرائب، او تعريفات تجاريه اخري؛ كلها في النّهايه ادّت لتفاقم الازمه ومواصله الانهيار بمعدّل ثابت.

هذا، وكان النظام الاقتصادي العالمي القائم علي نظريات ادم سميث، يعتقد بانّ السوق الحُره يضبط نفسه بنفسه، ما يعني رفض تدخّل الدوله علي مستويي الرقابه والتوجيه، ما يعني بدوره ان صاحب رأس المال حُر في استثمار امواله باي كم وفي اي نوع، هذا يستدعي فتح ابواب المنافسه بين اصحاب رؤوس الاموال علي انتاج نوع واحد واغراق السوق به بشكل يفيض بمقدار كبير علي الطلب علي هذا النوع، ما يؤدي الي تكدسه ثُم تلفه وفي النهايه الخساره التي تجرّ معها اغلاق الاستثمارات فمزيدًا من البطاله.. وهكذا تدور العجله.

من طوابير العاطلين عن العمل علي خلفيه الكساد العظيم

الافكار التي طرحها كينز في كتابيه “نظريه النقود” (1930) و“النظريه العامه للتشغيل والفائده والنقود” (1936) كانت بمثابه طوق النّجاه للاقتصاد العالمي للخروج من ازمته الطاحنه. طرح كينز نظريته التي تدعم تدخّل الدوله لضبط اقتصاد السوق بالتوجيه والمراقبه. وفي حالات الركود الاقتصادي الكبير كالتي كانت حادثه انذاك، وتكررت مع ازمه 2008، لا يُترك الامر للسوق لتحقيق التوازن واعاده تصحيح احوالها بنفسها، وانما تعمل الدوله علي الاستثمار وضخ الاموال في السوق، مع خفضها للضرائب، ما يُعطي الحيويه للسوق الخاصه ويؤدي الي انخفاض مُعدّلات البطاله.

علي سبيل المثال في بريطانيا، ورغم الازمه الماليه التي بدات في 2008، استثمرت الحكومه البريطانيه بضخ 2 مليون جنيه استرليني في احدي مصانع شركه بيريللي لتصنيع اطارات السيّارات. بهذا حافظت الحكومه علي عماله 750 فردًا، وانتاج 10 الاف اطار يومي تغطي السوق المحليه وتُصدّر الي الخارج. بهذه الطريقه يتحقق التوازن في السوق. فببساطه جزء من مسببات الركود حاله الذعر المالي التي تُؤدي الي الاكتناز والخوف من الاستمثار او تدوير راس المال. وباستثمار الدوله وضخها للمال مع خفض الضرائب والتعريفات؛ تُحافظ علي الحد الادني من توازن السوق، وتعيد الثّقه للمستثمرين/ الناس.

عندما يكون لدينا استثمار كبير، تزيد ثقه الناس لانفاق اجورهم، ما يُفيد الاقتصاد المحلّي. الامر ليس مُرتبطًا فقط بموظفي بيريللي، ولكن بمئات المُورّدين والمُتعاقدين الذين يعتمدون علي هذا المصنع، وهم يستفيدون ايضًا بزياده الانفاق في بيريللي، ثُم اعاده تدوير المال في الاقتصاد المحلّي – الان ويلسون، مدير هندسي في بيريللي

نظريه كينز تتلخص في مقولته: “هناك اوقات نحتاج فيها الي التدخل لجعل الراسماليه تعمل لصالحنا” وذلك بانفاق المال في السوق، وان عني ذلك الاستدانه لتحقيق معدلات الانفاق المطلوبه. هذا وقد وجدت افكار كينز تاييدًا كبيرًا من قبل الرئيس الامريكي روزفيلت الذي ذهب الي تبني سياسات اقتصاديه للخروج من الازمه الماليه قائمه علي افكار كينز، المتضمنه ايضًا تدخل الدوله للحفاظ علي حق العامل في التشغيل والائتمان الاجتماعي والصّحي وغيرهما.

خُطّه روزفلت المستقاه من نظريات كينز اخرجت امريكا من ازمه 1929 بمعدلات نمو مرتفعه. وفي مُختلف القطاعات تدخّلت الدوله؛ اما بتقديم سيولات ماليه للقطاعات البنكيه، او بتخفيض نسبه الفائده والضريبه، او بوضع حد ادني لاجور العاملين في القطاعات الصناعيه، او بتنظيم القطاعات الاجتماعيه بسن قوانين للتامين علي البطاله والتقاعد، او باستثمار الدوله في مشاريع عملاقه تستهدف اساسًا تشغيل العاطلين، وفي فرنسا علي سبيل المثال، اممت الدوله شركه المترو، كما اممت الحكومه الانجليزيه شركه انتاج الفحم، وضخّت حكومه كلتا الدولتين الاموال في كلتا الشركتين لدعم استمراريه الانتاج فيهما.

فرانكلين روزفلت، رئيس الولايات المتحده من 1933 الي 1945

أهم أخبار اقتصاد

Comments

عاجل