المحتوى الرئيسى

مذكرات ساراماغو.. الأدب لخدمة الإنسانية

07/09 12:33

ومن ذلك القبيل كتب الحوارات النهريه التي يدفع فيها المحاور الضيف ليتداعي ويروي افكاره، كما فعل الكاتب الاميركي هنري ميلر او بورخيس، وكذلك حدث الامر مع جوزيه ساراماغو (1922-2010) الذي سبق ان كتب سيرته الذاتيه، لكن مفكرته الصادره في نسختها العربيه مؤخرا عن "دار دال" كشفت لنا شخصيه هذا "الوحش السردي" اكثر من تلك السيره الصغيره.

جمع كتاب "المفكره" -الذي ترجمه عدنان حسن- مواد مدونه صاحب روايه "العمي"، وهي مدونه الكترونيه انشاتها له زوجته بيلار ديل ريو وصديقاه سرجيو وخافيير ليكتب عبرها افكاره وليتفاعل مع قرائه.

ويقول ساراماغو في مقدمه المدونه "لقد اخبروني انهم قد حجزوا لي فضاء مدونه وينبغي ان اكتب لاجلها تعليقات وتاملات، اراء بسيطه حول هذا وذاك، باختصار كل ما يخطر ببالي. لكوني اكثر انضباطا مما ابدو غالبا، اجبت بنعم، وبالفعل سافعل".

هكذا نبتت المدونه من رغبه شخصيه التزم بها الكاتب الانضباطي الملقب بـ"الشيوعي العنيد" لتكون فضاءه للتعبير عن ارائه في السياسه العالميه والادب والادباء، وفي التاريخ والامكنه.

ورغم انه سبق ان استجاب يوما لطلب زوجته في كتابه مفكره لتدوين افكاره، وهو ما عرف بعد ذلك بـ"مفكرات لانزاروتي"، فان المدونه الالكترونيه بفضائها الافتراضي المجاني، والتي تسمح للقراء بان يتابعوا تلك الافكار في صيغها الاولي المتوحشه، اغرت صاحب روايه "مسيره فيل"، وانطلق يدون فيها هواجسه منذ سبتمبر/ايلول 2008 الي اغسطس/اب 2009، فشملت مئات الافكار واحتاجت اكثر من 360 صفحه لتجمع في كتاب.

طغت علي المدونه، ودون قصد، المواقف السياسيه التي يعبر عنها ساراماغو يوميا، بحكم ثقافته السياسيه وايمانه بوظيفه الكاتب والكتابه ليكون له موقف والا يبقي في ربوه الحياد.

وقد اهتم ساراماغو خاصه بالسياسه الدوليه التي تقودها الولايات المتحده كقوه مهيمنه اقتصاديا وعسكريا واعلاميا، وانتقد صاحب "الطوق الحجري" السياسه الاميركيه تجاه العالم والشرق الاوسط خاصه، واستغرب بمناسبه وصول جورج بوش الابن للسلطه من قبول الشعب الاميركي برؤساء بذلك القصور الفكري والاخلاقي كما يراه "اتساءل لماذا كان للولايات المتحده، البلد العظيم في كل شيء، في غالب الاحيان مثل هؤلاء الرؤساء الصغار".

واعتبر الروائي البرتغالي ان جورج بوش الابن "اصغر الرؤساء علي الاطلاق"، ونعته بـ"الجاهل وبراعي البقر المثير للسخريه"، وانه "مدشن عصر الاكاذيب"، وانه نفذ حرفيا تعريف احد رؤساء البرتغال للسياسه باعتبارها "فن عدم قول الحقيقه".

واعنف ما كتب ساراماغو عن السياسيين كان عن رئيس الحكومه الايطاليه برلسكوني الذي اطلق عليه عباره "الشيء"، قائلا "لا يمكنني ان اجد اسما اخر يمكنني اعطاؤه اياه. شيء قريب بشكل خطر من الكائن البشري، شيء يقبض علي الاحزاب، يقيم حفلات العربده، ويحكم ايطاليا. هذا الشيء، هذا الداء، هذا الفيروس الذي يهدد بالموت المعنوي لبلاد فيردي هو مرض عميق يجب ان يقتلع من الوعي الايطالي قبل ان يسري سمه في الاورده ويهلك قلب احدي اغني الثقافات الاوروبيه".

كما لم يسلم اليسار الذي ينتمي اليه الروائي من النقد، بل لم يتردد في اعلان وفاته.

نادرا ما اهتم الكتاب الكبار ببعضهم، ولكن يبقي تاريخ الادب شاهدا علي ذلك السمو الذي يظهر به بعض العظماء من الادباء في تناول اعمال اصدقائه او شخصياتهم.

وقد كتب ماريو فارغاس يوسا العشرات من المقالات المهمه في روايات غيره من الروائيين، اما غابرييل غارثيا ماركيز فقد دفعه اعجابه بروايه "الجميلات النائمات" للياباني كواباتا الي كتابه روايه بنفس الموضوع ونفس الحجم بمناخاته الخاصه في روايته "ذكريات غانياتي الحزينات"، الي جانب مقاله الشهير عن روايه كواباتا.

وتكشف لنا مفكره ساراماغو انه لا يتردد في مدح زملائه وتقديمهم في بورتريهات عاشقه، فكانت المفكره فضاء قدم فيه رفيقه جورج امادو وكارلوس فوينتس وفرناندو بيسوا وبورخيس وكارلوس كاساريس وساباتو وجان جيونو ومحمود درويش وغيرهم من الكتاب الذين كان ساراماغو يقرا لهم.

ما يلاحظ في هذه المفكره الجامعه ان ساراماغو كان منشغلا بالاخرين اكثر من نفسه، فكلما دفعه الحكي الي ذكر نفسه او احد اعماله طلب من القرّاء في اسلوب لطيف مستسمحا اياهم ان يذكرها في جمل اعتراضيه قصيره لتبقي التدوينه خاصه بالاخر.

وانتزع محمود درويش في ذكري وفاته الاولي اجمل نصوص ساراماغو، فقد شبهه بالشاعر التشيلي بابلو نيرودا ووصفه بـ"العظيم"، واتهم العالم بالغباء لانه لم يعرف جيدا درويش.

قال ساراماغو "لو كان عالمنا اكثر حساسيه وذكاء، واكثر وعيا للجلال السامي للارواح الفرديه التي ينتجها، لكان اسمه الان معروفا علي نطاق واسع ومثار اعجاب مثلما كان، علي سبيل المثال، اسم بابلو نيرودا". هكذا اذا تنهض تدوينات ساراماغو في الادب والفن رقيقه وناعمه من ناحيه، وعميقه مقارنه بتلك التدوينات الساخطه في السياسه والسياسيين التي يظهر فيها ساراماغو بوجهه السياسي والمعارض الضاري الذي لا يتردد باسلوبه التهكمي في ازدراء خصومه والتنكيل بهم بالكتابه.

مثّلت فلسطين احدي اهم القضايا التي اهتم بها صاحب روايه "البصيره". فرغم رفضه من حيث المبدا للعمليات الانتحاريه/الاستشهاديه الا انه حمّل اسرائيل مسؤوليتها. وكتب ساراماغو "اسرائيل امامها الكثير لكي تتعلمه اذا كانت غير قادره علي فهم الاسباب التي يمكن ان تؤدي بكائن بشري الي ان يحول نفسه الي قنبله بشريه".

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل