المحتوى الرئيسى

كيف تكونت "الدولة الوطنية" فى جسد عالمنا العربى

07/09 12:13

قبل ايام، شهدت الاردن حدثًا كبيرًا حيث قام الملك عبد الله الثاني بتسليم رايه الثوره العربية الكبرى التي رفعها جده الشريف حسين لقائد هيئه الاركان المشتركه في الجيش الأردني وعهد الي الجيش بها في احتفاليه وصفت بالتاريخيه حيث استدعت مركبات قديمه للجيش الاردني تعود الي حقبه الحرب العالميه الثانيه.

في اتجاه استراتيجي اخر، تخوض قوات حزب الله "اللبناني" معارك شرسه في جبال القلمون "السوريه" منذ اسابيع تزامنت معها اخترقات عسكريه لمتشددين اسلاميين لمدن الحدود الشرقيه اللبنانيه مع سوريا في مناطق عرسال والهرمل.

فيما شهدت العاصمه التركيه انقره اجتماعات عسكريه وامنيه لبحث التدخل العسكري المباشر في سوريا لضمان عدم تغير الخريطه الديموغرافيه في محافظات الحدود السوريه التركيه بعد الانتصارات التي حققها الاكراد في الاسابيع الماضيه بالاضافه الي رغبه التحالف التركي السعودي القويه في حسم مصير الاسد او دفعه نحو الانهيار قبيل انتهاء مده الشهر ونصف المحدده لتشكيل حكومه ائتلافيه او الدعوه دستوريًا لانتخابات اخري.

ومن العراق الي سلطنه عمان، مرورًا بالكويت والمنطقه الشرقيه السعوديه، وصولاً الي اليمن ومرورًا بمدن الحدود السعوديه الجنوبيه التي تتعرض لقصف شرس من قوات الرئيس المخلوع صالح المتحالف مع الحوثيين، وغربًا الي الصومال التي تشهد معارك بالوكاله منذ سنوات،

ثم شمالاً حيث السودان الذي لم تندمل جراح انفصال جنوبه مع دعوات انفصال جديده في شرقه وغربه، وشمالاً حيث سيناء التي اعلنتها داعش اماره لها، ثم ليبيا التي تواجه معارك عسكريه شرسه منذ سنتين، وتونس التي ما تلبث ان تفيق من هجوم مسلح حتي يباغتها هجوم اخر، ووصولاً الي المغرب الذي لم يستطع الي الان تسويه ازمته حول الصحراء المغربيه مع جبهه البوليساريو وتفحل خصومته مع الجزائر.

وفي خضم موجات ثوريه عارمه تجتاح الافق العربي منذ اربعه اعوام وتحول دول عربية الي مصاف الدول الضعيفه وبعضها الاخر في طريقه للانضمام الي نادي الدول الفاشله او المنهاره يكون التساؤل: ما هو مستقبل تلك الدول في ظل حاله اللاعقلانيه التي تسودها الحاله العربيه بلا استثناء؟ وما هي قدرتها وقابليتها للبقاء في ظل حالات القصف العشوائي والانتحار الجماعي علي مذبح الطائفيه/العنصريه التي استعرت نارها في كثير من مجتمعات المشرق العربي؟ وما هو مستقبل دول المغرب العربي وشمال افريقيا في ظل تدني قدراتها علي حفظ السياده والمشروعيه بسبب تدني السلع السياسيه والخدمات العامه وانحسار التنميه وضعف السيطره علي المكونات الديموغرافيه في داخلها؟

بذلت الكثير من الجهود في تحليل تطور الدوله الوطنيه المعاصره في العالم العربى، لكن وصول زخم الاحداث لهذا المستوي يتطلب ما هو اكثر من ذلك بتحليل طبيعه نشاه هذه الدول قبيل النظر في تطورها. وفي هذا الاطار لابد من النظر في بعض الحقائق البسيطه عن طبيعه الاتفاق الاطاري بين الدول العظمي (تفاهمات سايكس بيكو وما تلاها) الذي تسير المنطقه وفق بنوده حتي الان:

في البدايه، يجب التنويه انه بغيه الوصول الي تحليل منطقي محايد يجب التخلي عن نظره المركزيه العربيه Arabic Centrism في تفسير الظواهر الدوليه والسياسيه. فالعرب لم يعودوا محورًا للتاريخ ولا مركزًا للكون ولا مقصد سياسات قواه الكبري، بل اننا قد لا نكون مبالغين ان قلنا اننا طوال القرن الماضي لم نكن سوي بند من بنود الاضرار المصاحبه Collateral Damage حيث سارت متون السياسه الدوليه وفق هياكل قوه ونفوذ لم يكن لنا فيها ناقه ولا جمل. وبقليل جهد يمكنك الوصول الي هذه النتيجه من خلال التفاعلات السياسيه الحاليه التي يمكن ان يقال عنها انها تشكل بيئه النظام الدولي الجديد في الباسيفيك وشرق اوروبا التي تبعد عنا سياسيًا اكثر بكثير من بعدها الجغرافي.

كما يمكن الغوص في التاريخ للتحقق من صلاحيه هذه الفكره من حرب الخليج الثانية ثم الاولي ونزولاً الي كافه مواجهات الحرب البارده في المنطقة العربية ثم مواجهات الحرب العالميه الثانيه التي لم تكن المنطقه فيها جميعًا سوي فناء خلفي لصراعات علي هامش الحرب.

هذا التصور مطلوب للانطلاق نحو تصور واقعي لتفاهمات سايكس بيكو التي اثرت ولا زالت ذات اثر فعال في تاريخنا وحاضرنا. فهذه التفاهمات التي تمت خلال الحرب العالمية الأولي لم تكن بندًا اساسيًا لدي الحلفاء الذين يوشكوا علي تحقيق فوز كبير، بل كانت خطوه طبيعيه لتقسيم تركه العرش العثماني المشرف علي الهلاك.

كما انها لم تعدو كونها خطاب نوايا من المنظور الواقعي والاولي بالاعتبار منها هو مؤتمر سان ريمو 1920 الذي عقد لفرض شروط الصلح علي تركيا ونص فيه صراحه وبدون مواربه علي نفس تفاهمات سايكس بيكو وكان التوقيع التركي علي الصلح بمثابه "نقل للتركه" ليس اكثر. كما ان هذا المؤتمر المخزي لم يكن سوي حدث جانبي علي هامش معاهده فرساي 1919 التي تم خلالها احتقار الملك فيصل بن الشريف حسين الذي ذهب (بتسهيل) من مدير مكتب المخابرات العسكريه البريطانيه في القاهره، حيث دخل من باب خلفي لقصر فرساي ولم يقابله اي سياسي في فرساي: لقد كانوا في انشغال كبير بعقد تسويات كبري ولم يكن لديهم وقت للانشغال بالهوامش.

حتي مجرد المراسلات السريه التي جرت بين الشريف حسين والمندوب السامي البريطاني في مصر هنري مكماهون حول منح الاستقلال للعرب مقابل اشتراكهم في الحرب العالميه الاولي ضد الاتراك وقيادتهم للثوره العربيه الكبري التي ظن فيها القوميين العرب خلاصهم لم يتم الاخذ بها مطلقًا وذبحت علي اعتاب اتفاق سايكس بيكو وخرج الشريف حسين وابنائه منها خالين الوفاض الا من الادوار التي رسمت لهم في باريس وسان ريمو. فقد تم اعلان عبد الله بن الحسين حاكمًا علي إمارة شرق الأردن وفيصل بن الحسين ملكًا علي العراق.

بالتوازي مع سايكس بيكو وسان ريمو، كانت هناك مشهدين موازين اثرا في المشهد الاقليمي حتي هذه اللحظه: الاول معاهده لوزان الثانيه 1923 الخاصه بتسميه الحدود التركيه، والاخر: وعد بلفور بوطن قومي لليهود في فلسطين 1917.

اما معاهده لوزان 1923، فقد بدات معها الماساه الكرديه التي اعتبرت لسنوات خنجر في خاصره ثلاث مناطق كبري: المشرق العربي واسيا الصغري واسيا الوسطي. وهذا يعني انه كانت هنالك رغبه كامنه لدي القوي الدوليه في "تفخيخ" استقرار تلك المناطق وقت ارادت ذلك بحيث تصبح منطقه كردستان "زر التفجير" لهذه المنطقه الملغمه سياسيًا وديموغرافيًا. ولا يعتقد اي تحرك عسكري تركي في المستقبل خارج هذا الاطار.

اما وعد بلفور فقد ادي بشكل شبه حتمي لتاسيس دوله اسرائيل واعلانها رسميًا في 1948 بعد ان مهد لها الانتداب البريطاني الاوضاع داخل فلسطين المحتله. ومع اعتبار محوريه ومفصليه معاهده لوزان واعلان بلفور في ترسيم خرائط المجال العربي باكمله، فانه يمكن الحديث عن ارتباط وثيق للمساله الكرديه بوجود اسرائيل وهو ما بدا متضحًا في الخرائط الامريكيه للشرق الاوسط التي ظهرت مبكرًا خلال الحرب البارده في كتابات بعض الاستراتيجيين الغربيين كبرنارد لويس في كتابه (الشرق الاوسط والغرب 1964) وتمت ترجمه بعضها فيما بعد علي ارض الواقع لاسيما في العراق والسودان.

لكن الحاله الكرديه علي صراحتها لم تكن الوحيده بالمنطقه، فقد تم تعميم اشكال مخففه منها لدي تقسيم دول المشرق العربي والخليج. حيث تم اقامه حدود سياسيه في مواقع تمركز الاعراق والطوائف لتفريق شملها بين الدول وفرض وضع وحاله جديده تقوم علي اساس التضارب وليس تحقيق الوئام بين هياكل الدوله الناشئه والمجتمع.

ففي الوقت الذي يتم فيه تعريف الدوله علي انها كيان سياسي وجيوسياسي تستمد شرعيتها السياسيه من منطلق كونها ذات سياده، فان الامه هي الكيان الثقافي والاثني والتي لا تكتمل سياده الدوله الا بها. لكن هذه المعادله التي يمكن ترجمتها بدون صعوبات في الدول غير متعدده القوميات تم غرس وتوطيد شطرها الاول (الدوله) بمنتهي القوه في المجتمعات العربيه متعدده القوميات (كسوريا والعراق وليبيا) مما اضر بالدوله والمجتمع علي حد سواء واثر علي هويته التاريخيه الي الابد.

تطرح اسئله سياسات الهويه تلك سؤالاً هامًا حول الغرض من تاسيس اطار سايكس بيكو: هل كان المراد تاسيس دوله فعلاً ام تاسيس سلطه؟

للاجابه علي هذا السؤال لا يمكن اصدار حكم عام وشامل علي جميع دول المنطقه. فالغالب ان فرنسا انشات سلطات محليه فقط ولم ترنو الي وضع اسس للدول التي وقعت تحت انتدابها لاسيما دول سوريا ولبنان والجزائر. وقد كانت تنظر الي تلك السلطات علي انها خطوه لازمه من اجل "فرنسه frenchization" المجتمعات قبل تاسيس الدول.

اما بريطانيا فقد كان مقتربها مختلفًا حيث قيمت حاله كل بلد علي حده تقييمًا انثروبولوجيًا (الارشيف البريطاني مليء بتلك التقييمات) ومن ثم قررت البلدان التي ستشكل فيها دوله او سلطه. فمثلا كان التعامل البريطاني مع مصر مختلفا لحد كبير عن تعاملها في العراق الذي كان مختلفا هو الاخر عن تشكيل مجتمعات الخليج العربي.

لكن المؤكد ان كل الدول التي قامت لم تراعي حتي ادق معايير هندسه الدول المنصوص عليها تاريخيًا في معاهده ويستفاليا (1648) التي تعتبر اول تدوين تاريخي لادبيات الدوله الحديثه. لم يكن مطلوبًا اكثر من "جلنزه Englishization" الدول علي مقاس مصالح حكومه صاحب الجلاله. حتي التناول الويستفالي الذي تلاحقه انتقادات جمه تم الاخذ منه بقدر ما يفيد ترسيخ المضمون التسلطي للدول مع تناسي او اغفال ان القمع السلطوي لا يعني فقط تكريس القوه الخشنه للدوله بقدر ما هو الابقاء علي موازنه القوي الخشنه مع الناعمه.

ففي الدول الشموليه تعتبر خدمات وتسهيلات الدول كالمرافق والخدمات والسيطره علي الاسعار والتنميه الاقتصاديه شكل من اشكال القمع المقنع، وقد تزيد اثارها في ترسيخ النظام الشمولي اكثر من لجوئه لاليات الدوله الخشنه. ربما يكون من المقبول تاريخيًا انشاء دول وبيروقراطيات "وظيفيه" للقيام بمهام السيطره السياسيه والديموغرافيه في اوقات ما ومن ثم القبول بها عضوًا في النظام العالمي، لكن الذي لا يغفره التاريخ تحديدًا هو اداره سلطات هذه الكيانات علي نحو غير عقلاني او راشد. فالبيئه الدوليه هي بيئه محفوفه بالمخاطر من كل جهه كما ان حاله الامن والاستقرار الدولي منذ الحرب العالميه الاولي وهي فوق فوهه بركان وان دفعت لفتره كلفه بعض التصرفات فانها لا يمكنها تحمل سلطه خاطئه للابد.

لقد فاقمت هذه اللاعقلانيه في استخدام السلطه من ازمات الافق العربي علي نحو تخطت فيه ازماته لتتجاوز ازمه الديموقراطيه او حتي معضله الحكم الرشيد. حيث ان الاستخدام المفرط للسلطه ادي بشكل او باخر الي تعميق هوه علاقه السلطه بالمجتمع. فمن السهل لدي تحليل عسكره الثورة السورية القول بان الثوار استبطنوا حمل السلاح منذ البدايه منذ ان دخل الاسلاميون بحابلهم ونابلهم علي خط الثوره، لكن الجدير حقًا بالتامل النظر في مسيره نظام الاسد في استخدام الته الخشنه منذ السبعينات ومرورًا باحداث تدمر وحماه في الثمانينات.

كذلك من السهل جدًا الحديث عن بذور التطرف الاسلامي التي تلبست بالمشروع الاصلاحي لجمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا لكنه ما يتوجب الوقوف عنده كذلك في هذا المطاف تكون ونشوء جماعات التطرف من رحم سياسات الانظمه. ان عدم التوازن في استخدام ادوات الدوله ووضع الخشن موضع الناعم والعكس يؤدي بلا شك الي حدوث خلل عميق قد تنطرح اثاره بعد عقود لكن ستكون بكل تاكيد مدمره. كل هذا ناهيك عن ان تقويض دوله القانون التي يفترض ان ترعاها الدوله لصالح شبكات الفساد والمحسوبيه واستخدامها بشكل طائفي او عنصري او مسيس قد اثمر عنه دمار هائل بمفهوم وفكره المواطنه لدي الكثيرين.

في هذا الاطار يعتبر الحديث عن عقد اجتماعي بين السلطه والمجتمع امر غير معتبر واقعيًا حيث السلطه والمجتمع في تناحر وصل اليوم في بعض المجتمعات للمواجهات المسلحه. كما انه كذلك من نافله الحديث ذكر ما يمت للمواطنه وتعميق معانيها بصله حيث لم تعترف السلطه اصلا في كثير من الدول بالهويات الثقافيه والاثنوغرافيه المتمايزه بداخلها فضلا عن صيانه حقوقها. وهذا ادي علي نحو بارز للعيان في احباط كافه محاولات بناء هويه جامعه لكافه اطياف المجتمع الانساني داخل تلك الدوله تجسد المصالح المشتركه وتكون متكئًا للاداره العامه.

كما تم تمكين الاقليات العرقيه والهوياتيه في بعض الدول من سده الحكم مما اثمر عن خلل في ميزان العلاقه بين الدوله والمجتمع ولجوء الدوله في بعض الحالات الي ارتكاب جرائم اباده جماعيه واباده ثقافيه cultural genocide (حسب تعريف الامم المتحده). الانكي من ذلك ان قامت كثير من الانظمه العربيه باضعاف والقضاء علي اجنحتها الاصلاحيه التي تدعو الي عقلنه مسار السلطه وهي ضربه كان اشد علي مسيره ومسار الدول كرست المزيد من التنافرات بين المجتمع والدوله.

هذه البيئه شديد التنافر انتجت متناقضات جمه كان من بينها ان الدول العلمانيه الاشتراكيه (التقدميه) تمحورت حول الجيوش، اما الدول الاخري الاسلاميه التقليديه (الرجعيه) تمحورت حول القبيله. وقد كان الرجعي هذا حليف للتقدميين في الولايات المتحده واوروبا الغربيه، اما النظم العربيه التي ادعت لنفسها التقدميه كانت تسيرها بيروقراطيه عسكريه اشد رجعيه من بيروقراطيه روسيا السوفييتيه التي دعمتها. كذلك فانه من قبيل التناقض الجم ان بعض الدول الاشتراكيه ذات الصبغه العلمانيه كانت عدوًا مخيفًا لاسرائيل في حين راي البعض في الانظمه القبليه ذات الصبغه الاسلاميه اشد حلفاء اسرائيل بالمنطقه.

لكنه من بين الاخطاء الكبيره التي وقعت فيها الدول الغربيه انها مع بدايه الحرب البارده لم تستطع الحفاظ علي بعض الدول وتحالفاتها الاستراتيجيه معها (مصر علي سبيل المثال) فخرجت ميممه الاتحاد السوفييتي علي اثر مشكلات بسيطه كان من الممكن تفاديها. لكن دخول هذه الدول في المعسكر الاشتراكي كان له اثار تتعدي فكره الاضرار بالحليف الي مشكلات اخري بنيويه في صلب الدوله العربيه الحديثه. في مصر قام نموذج الدوله الحديثه فيها علي اسس ليبراليه راسماليه، لكنها لدي تحولها للنموذج الاشتراكي ومع موجه التاميم الواسعه المؤيده شعبيًا تم بناء جهاز دوله جديد نسبيًا عن الجهاز الذي هندسه البريطانيون علي انقاض بيروقراطيه محمد علي التي انتهت بالوجود البريطاني في مصر.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل