المحتوى الرئيسى

لماذا نستمتع بلحم الحمير؟

07/09 11:07

تجمعني بالحمير علاقه محبه قديمه، ليس لوجود علاقه نسب او قرابه بعيدا عن السامعين، وانما لان ارتقاء ظهرها والصياح فيها بان "شي حا" والسير بها علي جانب الترعه دون السقوط، كان واحدا من كبري احلام الصغر، قبل ان يشب المرء وتشيب احلامه معه وتنحصر في الظفر برغيف عيش ربما ترفض الحمير ان تاكله لانه غير صالح للاستخدام الادمي او ما دونه.

ولعل هذا يكشف لك درجه التاثر، بعدما عرفت اخبار التطور الذي ادخله نفر من المصريين علي الحمير، لتصبح وسيله لاطعام الافواه بعدما كانت وسيلة مواصلات يستخدمها الواحد سعيا وراء الرزق والطعام، وهو تطور للخلف ان صح التعبير، يذكرنا بعصور المجاعات والغلاء والفقر التي حلت بالبلاد في ازمان فائته فطفق المصريون فيها ياكلون بعضهم البعض، مثلما اورد "المقريزي" في كتابه الشهير "اغاثه الامه بكشف الغمه" عن تلك المجاعه التي وقعت في عصر الخليفه "المستنصر" عام 457 هجريه، وقال فيها ان المصريين - من هول الجوع - بداوا في اصطياد القطط ثم الكلاب ثم انطلقوا يصطادون بعضهم البعض من اجل اعداد طعام يسد الرمق -لاحظ انهم لم ياكلوا الحمير وقتها!.

الغريب في امور الحمير المصريه المذبوحه علي انها بقر "كده وكده"، وبيعها للغلابه علي انها لحوم "كده وكده برضه"، انها خدعه او جريمه "بين الشعب ونفسه"، صحيح ان هناك كما هائلا من المخالفات والتواطؤ والاستعباط من المسئولين - خليك فاكر ان الامر انكشف لما مر ضابط شرطه بالصدفه علي المكان الذي يتم جمع الحمير منه - وصحيح ان تراخي الرقابه الجاده والمستمره والحقيقيه سبب رئيسي في حدوث مثل هذه الفاجعه، لكن في الاول وفي الاخر فان من باع هو الشعب ومن اشتري هو الشعب لانه اكيد ومؤكد مفيش حد من المسئولين اشتري لحمه حمير.. ليه هو حمار؟!.

واذا كان للواحد ان يري في الجزار الذي باع الحمير للناس انه منتسب زورا للانسانيه لانه تجرد من كل ما يربطه بالبشر من مشاعر ودم، فلا احد يمكنه تخيل او تصور حقيقه مشاعر الذين اكلوا الحمير ثم اكتشفوا انها كذلك بعد حين.. يا نهار اسود!، كيف سيواجه ذلك الاب- الذي اطعمها لاولاده فرحا- نفسه؟ كيف ستبتسم الام التي "سوتها" علي النار في وجه اطفالها من جديد؟ وما نسبه المهانه والشعور بانهم "ولا حاجه" بعد ان اكتشفوا ان اكلهم وطعامهم مجرد بضعه حمير شارده؟!.

المشكله هنا ليست في خدعه اكل الحمير، وانما في ان هذه الخدعه حدثت من قبل وستحدث من بعد لان لا شئ يتغير باستثناء وزن الحمار المذبوح، بينما نفس الضمير الغائب، ونفس الاكتشاف القائم علي الصدفه للجريمه، او في احسن الاحوال القائم علي المجهود الفردي وشطاره واحد بطوله، انما "سيستم" مفيش.

تعال ثانيه لنفس الكتاب "اغاثه الامه بكشف الغمه" - معلش اصلي لسه قاريه قريب!، وتعال لنفتح نفس الصفحات التي تتحدث عن تلك المجاعه الرهيبه التي حدثت في عهد الخليفه "المستنصر"، وقتها الامور وصلت - كما قلنا- الي حد ان اكل المصريون بعضهم البعض، لكنهم مع هذا وقفوا وقفه رجاله جدا، وهذا هو الدليل حسب عمنا "المقريزي" الذي يقول انه من فقر الحال وشدته وقتها، باعت امراه مصريه عقدا يبلغ ثمنه الف دينار الي تجار الدقيق، الذين كانوا من الفساد والتوحش لدرجه انهم اعطوها في مقابل العقد حفنه قليله من الدقيق - واضح ان الاستغلال مش مستحدث!، وهو الامر الذي فاق فيما يبدو قدره المراه علي الاحتمال، فعجنت الدقيق وخبزته حتي انتج اخيرا "قرصه" صغيره الحجم، امسكت بها ثم ذهبت - في شجاعه الرجال- الي باب زويله حيث يسكن الحاكم "المستنصر" - الذي طالته المجاعه ايضا ولم يكن ياكل وقتها الا ما ترسله اليه سيده برا وصدقه! ونادت باعلي صوتها: "يا اهل القاهره، ادعوا لمولانا "المستنصر" الذي اسعد الله الناس بايامه، واعاد عليهم بركات حسن نظره حتي تقومت علي هذه "القرصه" بالف دينار"!.. ماستر سين.

ما الذي حدث بعد هذه الجدعنه الستاتي؟! سخن "المستنصر" طبعا وعرف ان هذا هو اخر صبر المصريين، فاحضر الوالي وهدده وتوعده واقسم بالله جلت قدرته انه ان لم يظهر الخبز في الاسواق -يعني موجود بس مختفي بيفكرك ده بحاجه؟!- وتقل الاسعار - هي نفس الاحوال بغباوتها!- لقتله واستولي علي ماله، هب الوالي طبعا من مكانه واستدعي تجار الغله والخضروات والطحانين والخبازين قبل ان يقتل -علي الملا- اثنين من تجار الدقيق المحتكرين - يا جدعان ده التاريخ بيعيد نفسه وربنا!- فخاف الباقون من التجار واقسموا باظهار الغلال المختفيه وتقليل الاسعار وبيع الرطلين من الخبز بدرهم واحد! -شوف ازاي -، يقول "المقريزي" بعدها: "وتدارك الله الخلق وجري النيل وسكنت الفتنه وزرع الناس وتلاحق الخير وانكشفت الشده وفرجت الكربه".

اقرا القصه مره اخري لو سمحت، ثم اجب علي السؤال، لماذا اصبح هناك بيننا من يستمتع باكل لحم الحمير؟. بالهنا والشفا.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل