المحتوى الرئيسى

أين المنفى؟

07/03 14:57

ربما لا تكون الهجره بالنسبه للمثقف خاصه -اكان فنانا او كاتبا او عالما- محنه شديده الوطء علي حياته، وظلا ثقيلا علي انتاجه الادبي والفني والعلمي، بحسب ما يبدو لنا من اماكننا، نحن سكان البلد الأم الذين لم نهاجر.

معظم الدراسات التي تناولت موضوع الهجره رسمت اطارا نمطيا ساكنا للمهاجرين بدوا داخل مُحدداته غرباء، معلقين علي جدران المنافي، بلا لون، ولا انتماء، ولا انسجام، كاشجار اقتلعت من تربتها وغُرزت في اراض اخري.

وقيل في لعنات الغربه ما قيل، حتي بدا اي بلد اخر، بالنسبه للبلد الام، مكانا لا يُطاق وجحيما لا يُحتمل، يغترب فيه الكاتب والفنان والعالِم عن نفسه وعن ابداعه، فاذا ما انتج كان نتاجه كئيبا، موشحا بالسواد، بل ومهيض الجناحين.

تم الحديث عن التغرب من حيث المبدا: ترك المرء بلده وهجره الي بلد اخر، فاذا ما كان المهاجر مثقفا مبدعا راح الحديث يتضخم، شاملا المحن الروحيه الكبري التي يتعرض لها وهو يُنتج خارج بلده وارضه وناسه، في مناخ اخر غير الذي نما فيه وترعرع، وعبر لغه اخري وثقافه اخري غير التي رضعها وشب عليها وشكّلته.

اما اذا ما كانت الهجره قسرا واكراها لاسباب سياسيه او ضغوط اقتصاديه واجتماعيه او حروب، مما يحول دون استمرار المبدع في بلده جراء مخاطر جسيمه تحيق به؛ فحينها حدّث ولا حرج عما سيُكتب ويُقال عن الاثار السلبيه المروعه، والكوارث الروحيه التي ستلحق به وبابداعه جراء تهجيره.

هل الامر حقا كذلك علي الدوام، ام علي الاغلب، ام احيانا؟

نظريا، ما كُتب عن هجره المبدعين صوّرهم وكانهم يسبحون خارج مياههم الاقليميه الدافئه، وفي ظل ما يشبه التشرد والنفي، وتحت وطاه قهر مستدامٍ وظلم مُبين ومحنه ابداعٍ يعيشون كابوسها.

عمليا، فان تجارب المهاجرين -خارج التنظير لها- تنوعت وتباينت وتلونت بحسب كل مهاجر وخصوصياته النفسيه والتفاعليه، وظروف هجرته، وطبيعه البلد الاخر الذي عاش فيه، بحيث وَجَدَ بعضُهم في بلدان المهجر جنه عدن، وبعضُهم مَنْ كانت لهم كجحيم دانتي.

علي سبيل التمثيل، فقد هاجر الشاعر السوري عادل قره شولي الي المانيا في مطلع الستينيات من القرن الماضي، واستقر فيها وشارك في مختلف الانشطه والامسيات مشاركه فعاله، مما لم يمنحه صفه الشاعر السوري الكبير لدي الالمان فقط، وانما صار احد ابرز مثقفيهم وشعرائهم، حتي انه انتُخب رئيسا لاتحاد الكتاب الالمان في لايبزغ.

وبهذا المعني، لم ينسب الالمان الشاعر العربي اليهم فحسب، بل وبات الشاعر نفسه ايضا يري نفسه ومشاعره وثقافته موزعه هنا وهناك علي قدم المساواه والتعادل والتناظر.

يقول في حوار معه "عندما اكون في لايبزغ اشتاق الي دمشق، وعندما اكون في دمشق اشتاق الي لايبزغ"، وكذلك ينظر الي ثقافته وشعره "لا احب كثيرا من قصائدي العربيه، ولا احب كثيرا من قصائدي المكتوبه بالالمانيه".

وبما يشابه هذا، يمكننا ان نحصي العديد جدا من الادباء والفنانين والمفكرين والعلماء العرب الذين هاجروا لاسباب وبدوافع متعدده، متنوعه، ومتغايره، ثم وجدوا في بلدان المهجر مناخاتهم الابداعيه، وافاق تطورهم، وفضاءات حريتهم، فاثمر ما كان يشتغلون في حقوله وميادينه، حتي صاروا نجوما كبارا، بحيث نستطيع من خلال تحقق وعلو منجزهم في بلدان المهجر ان نستدل علي استقرارهم وهنائهم وتوفر الامكانات لهم، وانفساح الافاق امامهم خارج اوطانهم.

لنتذكر في هذا السياق مواقع ومنجزات وشخصيات مثل مروان قصاب باشي، وصلاح فائق، ونصر حامد ابو زيد، وابراهيم الكوني، والطيب صالح، ونجمي السكري، وامين معلوف، وفاروق الباز.. والمئات غيرهم ممن شكل المهجر لهم الفضاء الرحب، والوسط الصحي المعافي، والمكان المثالي للعيش وللابداع في ان.

لنتذكر هؤلاء، ولنستعد ما ابدعوه في مهاجرهم او منافيهم، وما قالوه بانفسهم وهم في مغترباتهم، ثم لنعاود التامل في مفاهيم الوطن والمهجر، البلد الام والمنفي، وفي كل ما يتعلق بـ"هنا"و"هناك" مما تعلمناه في المدارس، وشاع في افكارنا وكتاباتنا ومفاهيمنا وثقافتنا.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل