المحتوى الرئيسى

مفارقات الخطاب

07/03 10:47

«ولا يزعم بي ان اقول ما اقول ايهامًا وتمويهًا فمعاذَ اللهِ الاّ ان اشكرَ لاهلِ فضلٍ وعلمٍ همّهم كشفُ الحقائقِ واجلاؤها حقَّ الجلاء من اينَ اتت. واحسبُ لهم عليّ في ذلك منّهً لا يُستطاعُ ايفاؤها لانّي عالمٌ بقصورِ باعي وامكان تطرّق الخطا والخللِ الي ما كتبتُ او ذهبتُ اليه...».

ما اتوخّاه من الردّ علي الشاعر والكاتب ادونيس، لما ورد في مقابله اجرتها معه جريده «السفير»، يوم الجمعه الواقع فيه 19 حزيران 2015، هو محاوله تسليط الضوء علي بعض النقاط التي اعتبرتها، من وجهة نظر القارئ الموضوعيه – قدر الامكان – ومن منطلق تحليل الخطاب ذي الاواليات المعروفه ا(للسانيات، المدوّنه، علم الاجتماع، علم التداوليه، الخ )، مفارقات واشارات دالّه علي تصوّرات غير موضوعيه او مجانبه لما يمكن ان يكون عليه الواقع ــ اعني به الواقع السوري الذي نعترف بدايه انه شانٌ سوريّ بامتياز، ما دام السوريون ادري بشعابهم منّا او من القائل المردود عليه علي السواء ــ كما يحدده علماء المجتمع بانه مجموع الطبقات واللهجات والمشارب والاحداث والمناسبات ومظاهر السلطه فيه ومجموع المصالح التي تتوزّع هؤلاء، وتجعلهم في تصارع او تعاون.

واولي هذه المفارقات استناد المتكلّم الي مسلّمه اولي وعريضه، وهي انّ «الانفجار كان محمودا ومطلوبا في تونس او القاهره او في البلدان العربيه الاخري»، ثم لم يلبث ان بيّن بطلان صلاحيه هذه التحركات الشعبيه بحجّه «خلوّها من ايّ مشروع يشكّل خطوه نحو التغيير». نعم، لقد اوهنت السلطاتُ الحاكمه، علي مدي اربعين عاما من الارهاب والتطويع والتفسيد، كلّ نخبه او جماعه يمكن ان تحمل اوزار الشعب المصري واحلامه، لا سيّما حلمه في الحرّيه وكفاف الخبز وشيء من العافيه. والحال انّ الثورات في العالم لم تكن جميعها مسبقه التخطيط، ولا وجدت لها، في الغالب، نخبهً عالمه ولا تنظيمات ذات رؤيا او «مشروعا لتغيير المجتمع»، ومع ذلك لا تجرّدها عفويّتها او سذاجتها من شرعيّتها ومشروعيّتها.

ولئن كنا نوافق الشاعر ادونيس في تفضيله ان تبقي التحركات الشعبيه، ببلده سوريا، في اطار من السلميه واللاعنفيه، ونوافقه في وصف التحوّل العنفي الذي اصاب هذه التحرّكات، فاننا نودّ الاشاره الي مسببي العنف ومالكي زمامه ومموّليه، من طرفي السلطه والمعارضه، وهو امر يدركه اهل الراي، اذ يتبيّنون كيف استسهل استدراج الاحتجاج وتحويله الي صراع مسلّح، يكاد يجعل من البلاد ارضا محروقه، لا ربح صافيا فيها للسلطه، ولا سيطره حاسمه فيها لمعارضه تتلوّن بالوان مموّليها والاعداء المتحيّنين فرص الانقضاض علي سوريا دولهً وشعبا ومكوّنات وعشائر وارثا حضاريا، ليس بالضروره رديفا للسلطه ولا متنسّما انفاسها ذات الحقبه المحدوده بنصف قرن، وهي بحساب الامم المندرجه في باب السياسه الحديثه والديموقراطيه زمنٌ يُترك للسوريين توصيفه او تدبّره.

اما المفارقه الثانيه البلقاء التي نربا بالشاعر والمثقّف ادونيس ان ينزلق اليها فهي قوله بانّ «النهضه نفسها كانت شكلا من اشكال العوده الي الماضي»، وكان يعني بذلك النهضه التي يؤرّخها دارسو الفكر العربي ومحللو مظاهر المجتمع ابان اواخر عهد العثمانيين، في بلاد مصر والشام (سوريا، لبنان، العراق، فلسطين). لا، استاذي ادونيس، لقد كانت النهضه الاولي، التي كان اربابها الشوامّ، علي تسميه ذلك الزمان، اللبنه الاولي، بل حجر الزاويه في بناء الحداثه التي نعِم اجدادنا بانوارها، منذ اوائل القرن العشرين، ولا نزال نتابع السبل التي اختطّها روّاد هذه النهضه، اقلّه علي صعيد تطويع اللغه العربيه، وتحديثها، بل عصرنتها وجعلها جديره بمحمولات الحضاره الحديثه، و «الشعر الحديث»، والفكر الحزبي الحديث، والعلوم والفكر وفلسفه اللغه، والاخبار والكتابه الديوانيه والطبيه وغيرها مما لا يحصي من مظاهر التقدّم التي لولاها لما كان ثمه حداثه نكمل بها بنيان حضارتنا، رغم الحروب الاخوانيه والاهليه وحروب الاستعمار والجهل والتخلّف وغيرها. لا لم تكن النهضه، استاذ ادونيس عوده الي الماضي، انما كانت سعيا دؤوبا، وتحرريا، لربط الاصاله بالحراك الاجتماعي – الاقتصادي المتواصل ما بين الشرق والغرب. وما كانت لغه الصحافه العربيه لتكون لولا جهود كتّاب النهضه الجباره، والتي صيّرتها، في لبنان وبلاد الشام ومنها الي مصر، منابر للوعي السياسي والتقدم والتمدّن ؟ وما كانت لتكون لغه المرسح والترجمه والتعليم والاداره العربيه وغيرها لولا جهود اربابها في النهضه، تدقيقا وتطويعا وترهيفا؟

وقد يلزم، ههنا، تمرين الذهن علي فقدان معالم النهضه من عالمنا العربي، كان تزول الادارات والمرافئ والمسارح (المراسح ) والمتاحف والمقاهي والجرائد والمجلات ودور الاوبرا والمكتبات الكبري ومجالس الامه والدساتير والجامعات والمشافي غيرها مما حرّضت علي بنائها النهضه سالفه الذكر. في هذه الحاله، اللامنطقيه والمعاكسه مسار الزمن، تصير العوده الي الماضي، غير المتمدّن، ممكنه. ولعلّ هذا ما يفعله داعش لزعمه بانّ مظاهر الحداثه هذه لا تتناسب مع النصّ ولا يُستدلّ عليها منه.اما حصره نماذج الشعر العربي النهضوي في احمد شوقي وحافظ ابراهيم واطلاقه تعميما مجحفا في حقّ كلّ الشعر وكلّ النثر، بل كلّ ما كُتب في عصر النهضه بانه انحطاط فامر ننسبه الي قله الموضوعيه، وابتسار الامثله ولدينا ادلّه علي مئه، واكثر، من شعراء الشعر العصري، من اواسط القرن التاسع عشر ممن اغفلهم الحديثون، ليحتكروا لانفسهم فضل الحداثه. وكان هؤلاء جرّبوا باناشيدهم وصف كل ما هو عصري، بينما بدا ادونيس حياته الشعريه بقصيده عصماء (الارض)، في حين (خليل الخوري مثلا) كان هؤلاء باواخر القرن التاسع عشر وشاعرنا في اواسط القرن العشرين. وعلي ما اظنّ لم يتناهَ الي ادونيس ان خليل الخوري السابق ذكره كان اول من رسم للروايه العربيه الحديثه او المعاصره سبيلا، في روايته «وي اني لستُ باجنبيّ» الصادره عام 1865! النهضهُ الاولي والثانيه محطّاتٌ زمنيه في مسار بنيان الذات الانسانيه والادبيه، اما النكوص والتراجع في المكتسبات العقليه والعلميه، فلا نردّه سوي الي الفساد الذي نخر انساننا «الجماعي» الذي بقي بلا محاسبه، سواء كان في السلطه ام في المجتمع. ولا اصلاح في ذلك الاّ في فلسفه تربويه جديده تعيد الاعتبار للفرد، كائنا جديرا بالحياه والتعلّم والابداع. نعم، بصوغ رؤيه جديده، فكريه تراثيه وادبيه وعلميه عربيه وانسانيه، تستمدّ من خير ما في الماضي القريب والبعيد معايير للحياه والتعلّم والانتاج في كلّ ميدان، مع اقرارها بفضل تراكمات الماضي وتجاربه في التمهيد لانجاز الحاضر.

المفارقه الثالثه التي يمكن الكلام عليها في منطوق أدونيس الشاعر، هي انطلاقه من مسلّمه انّ الاسلام دينٌ عنفيّ من اجل ان يسوّغ اخراجه من المعادله السياسيه التي تشكّل ميدان المنازله في سوريا. ولكنّ هذه المسلّمه، وان ساندها في الواقع العسكري – السياسي الكثير من الامثله مما تحفل بها حياتنا في المشرق، فانها تواري، الي حين، طابع الاستبداد الذي ايقظ، لطوله وشموله حياه البشر والجماعات، الدين الذي لطالما قمعته الايديولوجيا الاشتراكيه ثم القوميه، ورتّبت علي هذا القمع قدرا هائلا من الحقد علي القامع، حتّي يحين انفجاره واستثماره، تاليا، في حسابات اجنبيه. نعم، انّ «الدين لا يمكن ان يشكّل مرجعا للقيَم» التي يفترض ان تُبني الدوله عليها، باعتبار ان الدوله هي «مجموع الشعوب المقيمه علي ارض معيّنه، وحكومه ترعي شؤون مواطنيها وتقيم صلات مع دول الجوار» بحسب ما وصفها فلاسفه الانوار اواخر القرن الثامن عشر. ولكن الصحيح ايضا ان الدوله لا يمكن ان تقوم الاّ علي اساس من الحرّيه، وصنوها العدلُ، والتي تكفل، علي ما يعلم الشاعر ادونيس، تكوين المجتمعات وتخالطها وتكامل المسؤوليات علي نحوٍ مطّرد، وصولا الي الابداع في كلّ مجالاته. ومن هذا المنطلق يكون الاعتراف بالاخر، المبدا الذي يطالب به ادونيس شرطا لتحقق الديمقراطيه، منبثقا من مجتمع الحرّيه، الذي يقرّ بالدين علي انه مصدرٌ لتراثٍ شرعي وطقوسيّ خاصّ بجماعه وبفردٍ ينتمي الي هذه الجماعه روحيا، بعد ان رسّخ انتماءه وطنيا الي اطار اشمل هو الوطن والدوله.

اما اشاره ادونيس الي لبنان و «الذي يدور في حلقه مفرغه من الطائفيه» مطالبا بتغيير في التربيه وفي المدرسه، فنظنّها من باب استباق الردّ عليه؛ ذلك انّ لبنان الذي غرق واُغرق في حرب اهليه وخرج منها دامي الاطراف، هذا اللبنان الذي يتهكّم عليه ادونيس قد انتج ما سمّاه «الفرد»، وهو البزره الاولي لشجره الدوله الحديثه التي استغرق نماؤها حوالي الثلاثمئه عام، اي منذ اول بيان بلزوم تعليم الصبيان الصادر عن مؤتمر اللويزه اوائل القرن الثامن عشر الي اوائل القرن الواحد والعشرين. ولا باس بمئه سنه اخري من التجارب الناقصه والناجحه جزئيا لتتبلور صوره الدوله المعاصره علي صوره الدوله الغربيه، الحديثه العهد نسبيا ايضا. وما الصراعات الكلاميه الدائره بين اطراف السلطه والمجتمع سوي مظاهر لهذا النضوج الاضطراري الذي انتهي اليه المجتمع اللبناني ومفاده ان الحرب بين الاخوه عبث، وان اللعب السياسي ايا يكن لن يعادل شيئا من كلفه الحرب الاهليه المدمّره. اما التغيير، اعني تغيير الانظمه وفصل الدين عن الدوله واحقاق دوله المواطن فما علي الساعي اليها الا الاستئناس بالتاريخ؛ اذ لم يتحقق فصل الدين عن الدوله قانونيا في فرنسا، بلد الثوره الفرنسيه العلمانيه للعام 1789، الا عام 1905، اي بعد اكثر من مئتي عام من الانقلابات والمجازر والحكومات الفاشله والاستعماريه والاصلاحيه وغيرها، وما لازمها من تهيئه تربويه وحقوقيه واجتماعيه وثقافيه متماديه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل