المحتوى الرئيسى

القاهرة: مدينتى وثورتنا (٢٣)

07/02 11:10

التاسعه والنصف ولم يجد جديد

وبينما كنا، نحن الشعب، ننتظر في التحرير، كان الرجل المُصِر علي ان يظل رئيسنا، وهو علي المنحدر الذي سيصل به للخَلْع بعد يوم واحد، يتحدث عبر الهاتف مع صديقه وزير الدفاع الاسرائيلي السابق، بنيامين بن اليعازار‪.‬ عشرون دقيقه يشكو لصديقه هجران الولايات المتحده، وخذلانها له، ويتنبا بان الاضطرابات والقلاقل المدنيه لن تتوقف عند حدود مصر بل سوف تمتد الي الشرق الأوسط كله، ثم ايضا الي الخليج ذي النفط.

يد علي كتفي: علاء سويف. كيف وجدني وسط الالاف؟ اُمسك بذراعه حتي نصل الي سهير فنجلس انا وهي نرتعش علي حرف الرصيف نواجه تمثال عمر مكرم وياتينا احد الكرام بالشاي فنمسك بالاكواب بامتنان، نُعَرِض اكفنا للدفء بقدر ما نستطيع. يقف علاء مع مجموعه من الاصدقاء تناقش الطرح: هل نحن في الحقيقه نعيش انقلابا عسكريا سوف يُحوِل ثورتنا الي عرض هامشي؟ نحن بحاجه الي شخصيه، او مجموعه من الناس، تتقدم لتُمثل هذه الثوره وتعبر عنها، تعلن هذا التمثيل في التحرير‪،‬ وبالتحرير من حولها يؤازرها. يبدو ان الوحيد الذي باستطاعته ان يقوم بهذا الدور الان هو الدكتور محمد البرادعي، لكنه يوم اتي الي التحرير لم يبق اكثر من نصف ساعه وغادر. يقولون انه لا يحب الزحام.

الشباب يحاولون منذ ايام ان يُكَوِنوا تحالفات، ائتلافات، حكومات. يستشيروننا، نحن الـ«عواجيز»، فنجلس في عرض الشارع في التحرير المعتصم نشكِل وزارات وحكومات. لكننا في مفرق صعب: لا نمتلك اليه تُمَكِن الميدان من انتقاء من ينوبون عنه للتفاوض باسمه ــ او بالاحري، هناك اليه تتشكل لكنها سوف تاخذ وقتا اكثر بكثير من المتاح لنا. ولذا تاخذ اللجان، والشخصيات، والقيادات القديمه علي عاتقها ان تقوم بهذه المهمه، فيذهبون الي مجلس قياده القوات المسلحه يحادثونه، والمحادثات ــ لا نقول انها سريه، لكنها ليست علنيه، فصار كل من يتصل بالمجلس الاعلي للقوات المسلحه او يتحدث معه يفقد مصداقيته اليوم في الميدان.

نقوم، انا وسهير، من علي الرصيف، نتمشي. تقترب منا ثلاث شابات، يسالن ان كنت انا انا، شاهدوني في التليفزيون ويرونني «محترمه» ويردن الحديث. احداهن طبيبه، والشابتان الاخريان في الثانويه العامه وتنويان العمل بالصحافه. الثلاث يسكن المعادي ولهن ايام يجمعن المعلومات والملفات حول الشهداء الذين قتلوا هناك يوم ٢٨. يردن الوصول الي الاعلام الـ«نظيف». والطبيبه تريد ان تعرف طريق هيئه او جمعيه تمكنها من خدمه المصابين. يقلن ان عدد الذين قتلوا في المعادي يصل الي اكثر من عشرين، وان الشرطه كانت بالغه القسوه، وانها اطلقت المسجلين الخطر ضد الناس، وانها استخدمت الرصاص الحي من البدايه. ويقلن ان قناصا تمركز بالقرب من البيت الذي يسكنه السفير الاسرائيلي، وان هذا القناص كان يقتل اي شخص يدخل في مجال رصاصه. دُرْن يجمعن الشهادات والمعلومات من اسر الشهداء والمصابين. يقلن ان المنطقه حول شارع الجمهوريه امتلات بملصقات الشهداء وكاننا في نابلس او بنت جبيل. نتبادل ارقام الهواتف بينما تتصاعد اصواتٌ تطالب بالصمت: «بس! بس يااخواننا! سكوت عشان نسمع!»

ثم لا نكاد نصدق: هو لا يتنحي. لا نكاد نصدق: هو لم يفهم. لكننا نصدق تماما: لم يتمكن من التغيير، لا من تغيير الدور، ولا من تغيير اللعبه.

نقف بالملايين في طول البلاد وعرضها نستمع اليه وهو يحدث الشباب من علٍ: «احدثكم كاب». يؤكد لهم ان دماء «شهدائكم»ــ اي الشباب الذين قتََلَهم، قتلهم جهازه وشرطته وبلطجيته ــ ونعتقد انهم اكثر من ثلاثمائه الي الان ــ ان دماءهم لن تذهب هباء. يعدنا انه سيتحرك الي الامام كي يحقق الطلبات الشرعيه. يبدا البعض في اطلاق الهتافات الغاضبه لكن الميدان يسكتهم. نستمع اليه باهتمام بالغ. يطلق تلك الجمله المرهَقه: «لن تملي علينا جهات خارجيه ــ » فنحدِق في بعضنا غير مصدقين، هذا الرجل كان طوع اشاره امريكا واسرائيل لمده ثلاثين عاما والان وفجاه لن تملي عليه قرارات من الخارج! حين يعلن اصراره علي ان يستمر في خدمه بلاده ننفجر «ياللي ما بتفهمشي: ارحل يعني امشي!» يعدنا بالحوار، بالتعديلات الدستوريه، يتحدث عن روح الفريق وعن حمايه الاقتصاد فتصيح الجموع «حرامي! حرامي!» ثم يبدا في مقطوعه «كنت شابا مثلكم» فتضج السماء باهات ملل عظيمه من شباب مصر كلها، وحين ينتهي بتفويض سلطاته الي نائبه تنفجر الميادين «لا مبارك ولا سليمان/ دول عملا للامريكان!».

الميدان هو الغضب والثوره والدموع. ماذا علينا ان نفعل لنزيح الرجل؟ اكتب للـ«جارديان»: «باختياره لهذا الطريق يتعمد مبارك دفع مصر اكثر واكثر في اتجاه الازمه. هو يدفع بالقوات المسلحه الي موقف سوف تضطر فيه قريبا ان تواجه اما الشعب او الرئيس وحرسه الرئاسي. ونتيجه موقفه هذا انه حين تاتي لحظه انتصار الثوره سوف تكون القوات المسلحه في وضع اقوي بكثير من وضعها في ٢٥ يناير. لكننا في الشوارع، وسنظل في الشوارع، لن نعود الي البيوت».

بدا الناس في التحرك. تحركت جموع نحو ماسبيرو، لكنها فقط تحاصر مبني الاذاعه والتليفزيون ولا تحاول اقتحامه. وتبدا جموع اخري المسيره الطويله نحو مقر مبارك في القاهره: قصر العروبه.

«هو لسه مش فاهم»، اقول للحاج اشرف.

يجيب: «لا هو فاهم. بس هو عنيد».

اتصل بليلي واسالها عن الاخبار. تقول ان الناس، ملايين الناس، ناس لم ينزلوا الي الشوارع والي المظاهرات من قبل ــ يتحركون، يتوجهون نحو الميادين. وان التحرير مليان عن اخره.

«النظام ده عنده يخرب البلد ولا انه يمشي»، يقولها الحاج اشرف ثم ينزل من السياره ليفتح بوابات الارض.

حين اكون هنا اكون بعيده تماما عن العالم، لبرهه.

اتسلق السلم الخشبي واجلس علي السطوح. الاهرامات هناك، وراء هذه الاشجار. في طفولتي كنا نزورها علي الاقل مره في الشهر، نجري ونرمح علي الرمال، نقيس اطوالنا المتغيره ونقارنها بارتفاع احجار المصطبه الاولي في هرم جدنا خوفو، ثم نحاول ان نتسلق مصطبتين او ثلاث.. او اربع، واخيرا نتناول الشاي في استراحه الملك (كان للملك فاروق استراحات في الهرم وحلوان والفيوم وكل المناطق الجميله في مصر، فلما جاءت ثوره يوليو حولتها كلها الي استراحات للشعب)، ودائما دائما كنا نقف عند حافه الهضبه، ننظر نحو القاهره، ونعجب للخط الفاصل بين الصحراء والوادي الاخضر؛ كم هو محدد قاطع لا لبس فيه ــ ذلك الخط الذي تقع عليه هذه الجنينه الصغيره، الخط الذي اقف عليه انا الان.

انا بحاجه الي ان اذهب الي مدفننا. لم ازرهم منذ فتره: امي طوفي وخالي، جدي وماما حاجه؛ كلهم هناك.

عم حامد، الذي يعني بالجنينه وزراعتها، يدعوني ان اتمشي معه الي الجدار المتاكل الذي يحدد احد جوانبها. الاطفال يقفزون علي هذا الجدار ويسرقون الفاكهه، وهو يريدني ان اعيد بناءه. كيف اقول له ان الفاكهه التي يرسلها لنا هي من الكثره بحيث اننا ــ وبعد ان نوزع منها علي الاهل والاحباب ــ نجد بعضها تزوي في قاع درج الثلاجه؟ فلماذا لا نترك الاطفال ياخذون بعضها؟ اقول «نستني شويه علي الحيطه، كفايه مصاريف تصليح البيت».

نمشي في الارض ونلتقط حبات الليمون ويريني عم حامد نخله تهاوت؛ طولها الفارع يرقد الان علي الارض.

«طب ــ ايه اللي وقعها؟»

«شوفي فضل ربنا سبحانه وتعالي ــ » يقول الحاج اشرف، «النخله، حتي لما تقع، تقع في مكان فاضي، ما تقعش علي حاجه ولا علي حد».

ويتفق معه عم حامد: «النخله ما تاذيش ابدا، حياه وممات».

سلسله من الوداعات. الابواب تُغلَق بدرجات متفاوته من العنف والرقه. تخرج سهير ثم علاء ثم سلمي ومريم وتشكيله من الاصدقاء والاقارب الذين كانوا في البيت. الكل ذاهب الي التحرير وانا جالسه الي مائده السفره في بيت اخي لاعمل علي النص الذي عليَ ان اتِمُه وارسله الي الجريده في اللحظه التي ينتهي فيها مبارك من خطابه. هل سيرحل؟

انا جاهزه للخروج حالما ارسلت المقال. شنطه يدي علي كرسي الي جانب الباب والبطاقه والمفاتيح في جيبي. المحمول لا يكف عن الرنين: لندن، مونتريال، دلهي، دبلن، العالم يريد ان يعرف كيف نشعر ونحن في التحرير، واضطر الي القول والتكرار: لا اعرف لانني لست في التحرير. لكن التحرير مليان عن اخره، الملايين في التحرير.

اكتب واقوم اخطو. ذهابا وايابا. اكتب واناور. هل سيكون نصا يحتفي بحريتنا؟ ام سيكون نصا يصر علي المثابره، الاستمرار؟ جيئه وذهابا وارد علي الهاتف وعيني علي شاشه التليفزيون. التحرير هو مركز الكون، وهو علي بعد عشر دقائق وانا لست هناك. اخرج الي الشرفه. الشارع مهجور. الخفافيش تلهو مرحه في اشجار المانجه. اكتب فقره جديده. جيئه وذهابا. اراجع اشيائي في جيوبي وفي حقيبتي.

انتهي الامر. بيان مقتضب يلقيه عمر سليمان وهو يبدو ميتا اكثر حتي من المعتاد، وخلفه في الكادر رجل ثقيل البنيان مقطب الجبين. حسني مبارك تنحي والقوات المسلحه هي حاكم البلاد. قلبي يدق يدق يدق ويداي قطعتان من الثلج. المشاعر تتدفق داخلي. سانفجر واتناثر علي السقف والجدران. اجري الي المائده واقرا ما كتبت. اكاد لا استطيع القراءه لكن من الواضح ان هذا النص لن ينفع. اجلس. اغمض عينيَ واجبر نفسي علي الابطاء، علي اخذ عدد من الانفاس العميقه. ثم ابدا من جديد:

«في ميدان التحرير وفي شوارع مصر اصر الشعب علي استعاده نفسه وانسانيته. والان سوف يستعيد دولته. منذ هذه اللحظه ليس لنا رئيس سارق، ولا نائب رئيس يؤجر بلادنا مقر تعذيب لاستعمال الاداره الامريكيه، لا وزاره فاسده ولا برلمان مزيفا ولا قانون طوارئ. رحل النظام وبدانا مرحله جديده. علي مدي اسبوعين كانت الناس تهتف «الشعب! الجيش! ايد واحده!» سوف نعمل الان علي ان نجعل هذا الهتاف يعكس حقيقه ايجابيه الي اقصي حد: القوات المسلحه ستضمن امن البلاد وسلامتها بينما نحن نشكل ونبني المؤسسات المدنيه التي ستعمل علي بلوره خطتنا ــ خطط الشعب لهذه البلاد.. في التحرير التقيت سيده في المراحل الاخيره من الحمل، كانت بانتظار الولاده بين يوم واخر وتريد لمولودها ان ياتي الي مصر حره. الان يمكنها الوضع.. راقَب العالم هذه المعركه بين ــ من ناحيه ــ حكومه فاسده عنيفه متسلطه متشبثه، تحت يدها كل ادوات الدوله، ومن الناحيه الاخري تكوين عضوي هائل متنوع من المواطنين، ادواتهم هي اجسادهم ــ والكلمات والموسيقي والمشروعيه والامل. وصلت الينا مسانده شعوب العالم صادحه عاليه لا تُخطا، وما حدث هنا عبر الاسبوعين الماضيين سوف يمد المواطنين والمدنيين في كل مكان بالصوت وبالقوه.. يبدا عملنا الان: ان نعيد بناء بلادنا علي شكل مثالي، جميل كجمال الثوره التي قمنا بها لاسترجاع الوطن. ان نتذكر دائما شبابنا الذين استشهدوا في سبيل ان يحدث ما حدث الليله، وان نحملهم معنا الي مستقبل يليق بهم وبنا، يليق باصدقائنا، يليق بالعالم.. انظروا الي شوارع مصر الليله: هكذا يبدو الامل».

انطلق في شارع الدقي ثم شارع المساحه فاجدني في زنقه مرور في ميدان الجلاء: الكل يحاول الوصول الي التحرير. اجلس فاتحه النوافذ ليدخل منها صوت الطبل، صوت الفرح. الناس يرقصون، يتقافزون علي الجزيره في وسط الميدان، يرقصون علي السيارات، يضحكون، يوزعون الحلوي. يمر رجل باكواب من الشربات. الاطفال والشباب يتسلقون اعمده النور لكي يلوحوا باعلامهم من اعلي موقع ممكن. اهاتف ليلي، ابي، علاء، عمر، اسماعيل، لولي. اهاتف الحاج اشرف: مبروك، مبروك، مبروك. لا نتحرك سوي بضعه سنتيمترات من حين لاخر. ليست مشكله، المهم اننا نتحرك، واننا خلعناه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل