المحتوى الرئيسى

من أجل رواية بصوت الشعب

07/02 10:50

هذا حديث عن علم من اعلام الثقافه التنويريه المعاصره، ممن رفعوا الروايه الي مصاف الفعل الثوري المحرض، وحولوا الكلمه الي طاقه مجابهه، وذوبوا احلامهم الفرديه في حلم الانسانيه الكبير بمستقبل اوفر سلاما وانسانيه.

عبد الرحمن منيف (1933ــ2004)، الذي سعي لابتداع جماليه روائيه وصفها بـ«علم جمال المضطهدين»، واسميها علم جمال المقاومه. جماليه تحاكي ما تقول، وتفي بما تعد به، ويسعي معها صاحبها الي ارساء قواعد الديمقراطيه في بنيه دولته الروائيه.

في دوله عبدالرحمن منيف الادبيه، يقضي المرسوم الاول باسقاط ديكتاتوريه البطل الاوحد، ليختفي من ثم البطل المحوري من «مدن الملح«و من ثلاثيه «أرض السواد» من بعدها. لتتوزع البطوله علي حشود من الشخصيات المنوط بها جميعا الامساك بزمام سلطه النص. وهو قرار اتخذه منيف عامدا، وعبر عنه في كتابه القيم «الكاتب والمنفي» بقوله: «ان بطل الروايه الفرد، الذي يملا الساحه كلها، وما الاخرون الذين يحيطون به الا ديكورا لابرازه واظهار بطولاته، ان هذا البطل الوهمي الذي سيطر علي الروايه العالميه فتره طويله، ان له ان يتنحي، وان لا يشغل الا ما يستحقه من مكان وزمان».

هكذا اسندت البطوله في «مدن الملح» الي ملح الأرض، بمثل ما ستسند من بعدها في «ارض السواد» الي سواد الناس. الي عامه الشعب من البسطاء الذين اراد منيف ان يستنهضهم فاعطاهم حق الكلمه، وحق المساءله، وحق الاحتجاج، ايمانا منه بالقيم المناهضه للاستبداد والخضوع. وهو التزام تمليه الواقعيه السياسيه للمرحله قبل ان يكون خيارا ادبيا حداثيا. ففي رساله الي الدكتور فيصل دراج يكتب عبدالرحمن منيف: «ان الابطال والبطوله لا تظهر ولا تتجسد الا في اوقات الهزيمه، اما في زمن الانتصار، فهناك دائما بطل واحد، ولا يهم ان يكون الشخص او الفكره، او ربما الاثنان يصيران واحدا في وقت لاحق. اما اذا جاءت الهزائم، فهناك الاف الضحايا».

وعلي الضحايا ان يرووا قصتهم.

فلما كان الزمان في «مدن الملح» زمانا موغلا في الهزيمه، قرر منيف ان يُنَحي بطله المحوري العملاق «متعب الهذال»، مع اول شجره تقتلعها التراكتورات من وادي العيون، تمهيدا لاقامه حقول النفط. فاختفاء المجتمع التقليدي يؤذن بالضروره باختفاء البطل التقليدي. ويلقي بمسئوليه المقاومه علي عاتق الجماهير الغفيره. فنراهم يصوغون الرفض حوارات، وتساؤلات، وانين، ونبوءات، وصرخات، وضحكات، واهازيج.

فلا صوت يعلو علي صوتهم.

لكن المدهش ان صوت الجموع المقاومه يستحيل في كثير من المواضع في «مدن الملح» الي اناشيد. فمن اقوي جماليات بلاغه المقاومه عند عبدالرحمن منيف، هو ذلك الصوت الجماعي المنغم الهادر الذي ينبثق فجاه في لحظات التصدي للقمع، هو صوت الامواج البشريه المنتشيه في «غناء يعرفونه منذ ايام بعيده، وياتي هكذا تلبيه لحاجه يحسونها تطفو وترتفع علي كل ما عداها من الاصوات والعواطف والاحاسيس». هو صوت الاشواق الثاويه في قلوب الرجال في قلب الصحراء، التي ترثي اياما خلت، وتستشرف وجه مستقبل غائم، حافله بين الاوج والقرار بـ«عذوبه جارحه» تقول، ان الالم قد وصل حد الحرقه، وان بلاغه الصمت لم تعد مجديه.

فاي دور يرتجي من البطل المحوري وسط هذا الصخب الجارف؟

متعب الهذال، كبير قبيله العتوم في روايه «مدن الملح»، المرتبط بوادي العيون «بعلاقه عشق من نوع لا يتكرر كثيرا»، الشيخ العادل الشجاع الذي يملا الفلاه بوجوده، الذي «اذا غاب شعر الناس انه لا غني عنه وانه وحده القادر علي ان يقول كل شيء..و ان يعبر عن افكارهم وما يدور في عقولهم ونفوسهم».. سليل الرجال الاشداء الذين قاوموا الاتراك بضراوه.. وصاحب الوعي المبكر بحقيقه الغزاه.. والمجالده العنيده في مواجهه الطغاه.. ها هو يختفي في الصحراء بعد نحو مائه صفحه من الجزء الاول في روايه «مدن الملح».

وهو اختفاء يذكر باختفاء عاشور الناجي، الشيخ العادل الشجاع بعد نحو مائه صفحه ايضا من الحكايه الاولي في روايه «الحرافيش» لنجيب محفوظ.

الناجي والهذال، كلاهما فتوه الضعفاء، كلاهما يعشق الاناشيد ويقضي ليله في الخلاء، عاشور يرقب باب التكيه المغلق، ومتعب يرصد معسكر العفاريت الامريكيين، كلاهما سيثير اختفاؤه جزع الناس، وسيراه اقرباؤه ويناجيه محبوه في اليقظه وفي المنام، وستلتمس ذكراه العامه كلما اشتد الحال او استشري البلاء، كلاهما يظل حيا في الوعي الجمعي مهما انقضت السنوات، وكلاهما يعاود الظهور حين يقرر البسطاء الثوره علي الظالمين، يعود عاشور متجسدا في حفيده فتوه الحرافيش، ويعود متعب معتليا ظهر ناقته العمانيه البيضاء مقاتلا وسط العمال واهل حران الغاضبين.

ذلك ليس تناصا بالضروره، او لعبه تاثر وتاثير في عقل اديب رحال كان نجيب محفوظ بالنسبه له «مرفا الروايه الاساسي». لكنه مال البطل الفكره في الروايات التي تحمل هم البحث عن العداله، منتهيه الي انها كامنه في حكم الشعب بواسطه الشعب. فالبطل، الفكره لا يستعاد الا حين يستعيد الناس الوعي. وينشدون معا اناشيد الثوره الخالده.

هكذا يحقق الكاتب حلما قديما كان قد عبر عنه بطله منصور في «الاشجار واغتيال مرزوق»، الذي تجرع الهزيمه امام العدو الصهيوني في حرب 1948، فاراد ان يدرس التاريخ، «تاريخ الناس الذين مروا دون ان يذكـر اسمهم كتاب او قطعه من الرخام». فكانت «مدن الملح»، وكانت الروايه السياسيه القائمه علي الحس الديمقراطي، كتبها منيف بلغه سماها «وسطي»، تحتفي بصوت الشعب، وتحفل بمفرداته، لتقدم مزاجا من الشاعريه والبساطه. فهي لغه تحفز علي تعميم فعل الكتابه بين الناس، وعلي تيسير سبل التدوين عليهم، وذلك قبل عشرات السنوات من ظهور المدونات الالكترونيه، وفضاءات شبكات التواصل الاجتماعي.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل