المحتوى الرئيسى

العلاقات بين الصين والعالم الإسلامي بالحقبة ما قبل الحديثة

06/19 19:28

لا نعتقد انّنا نبالغ حين نقول ان العالم القديم كان عالما بلا خرائط تقريبا، وحتي ان وُجِدَ البعضُ منها هنا او هنالك، في هذه الحضاره او تلك، فانها لم تكن متداوله علي نطاق واسع بل هي محفوظه بكامل العنايه في خزائن الملوك جنبا الي جنب مع مراسيم ولايه العهد ووثائق المعاهدات الدوليّه وشجره انساب السلالات الحاكمه.

وليس من الغريب ان تحظي الخرائط -علي قلتها- بمثل هذه المكانه الرفيعه في الحضارات القديمه فهي في نظر أولي الأمر كـنز حقيقيّ لا يقدّر بثمن، واداهٌ لا يمكن الاستغناء عنها.

- العنوان: رَسْمُ خرائط العالَمَيْن الصينيّ والاسلامي: المبادلات الثقافيّه في اسيا خلال الفتره ما قبل الحديثه

- الناشر: منشورات جامعة كمبردج، المملكه المتحده

انّها -باختصار شديد- تجسيد علي الورق لحصيله المعرفه بالمكان واختبار حقيقيّ لمدي تمكّن الحكّام من بسط سلطتهم والمحافظه عليها وادامتها عبر الازمان.

ومن منطلق الاهميّه التي تختزلها خرائط الجغرافيا في تعبيرها عن الوعي بالذات والصله بالاخر، اصدرت منشورات جامعه كمبردج كتابا للباحثه هيونهي بارك، هو في الاصل اطروحه دكتورا وضعتها صاحبتها تحت عنوان: "رَسْمُ خرائط العالَمَيْن الصيني والاسلامي: المبادلات الثقافيّه في اسيا خلال الفتره ما قبل الحديثه".

ومن اهمّ ما يشدنا الي هذا الكتاب/الاطروحه ويوقفنا علي طابعه الاستثنائيّ ثلاث خصائص نعتقد انّها مميزه له دالّه علي قيمته:

اُولاها: انّ صاحبته تنطلق فيه من مدوّنه قليلا ما اعتمدها الباحثون وعولوا عليها واستثمروا المعطيات الوارده فيها، ونعني بذلك خرائط العالم القديمه.

واطرف ما في الامر انّ هيونهي بارك لم تنشغل بمدي صحّه هذه الخرائط وصدقيّتها ومطابقتها للواقع الموضوعي، بل انها تعاملت معها علي اساس انها تعكس تصورا ما للعالم ولجغرافيته، وتموقع الانا والاخر فيه.

ومن هذا المنطلق، اعتبرت انّ "تحريف" الخرائط للجغرافيا و"تزييفها" للتضاريس ابلغ دلاله من وفائها لها، وارفع قيمه من مجرد نقلها كما هي نقلا حرفيا.

ثانيتها: انّ هيونهي بارك لم تتعامل مع خرائط العالم القديمه علي اساس كونها صـورا ساكنه ثابته او مجرد مسرح تجري في نطاقه وقائع التاريخ واحداثه بشكل محايد.

صحيحٌ انّ الخرائط القديمه تقدّم لنا في معظم الاحيان صوره "محرفــه" عن المجال الذي يُنجز ضمنه الفعل البـشري بسبب قصورها عن نقل الواقع الجغرافي الموضوعي وعن رسمه وتجسيده كما هو، ولكن الباحثه هيونهي بارك استثمرت الهنات الكامنه في الخرائط وتجاوزت النقائص الظاهره فيها.

فقد استفادت ايما استفاده من شهادات الرحاله ومن ملاحظات الجغرافيين، واعطت بذلك للخرائط قيمه مضافه بان اخرجتها من حاله السكون والثبات الي وضعيه التحول والحياه.

لقد ذكرتنا بحقيقه غالبا ما تغيب عن اذهاننا: حقيقه ان الجغرافيا هي مسرح التاريخ، وانّ التاريخ انما يُنجز في حدود الجغرافيا ويتاثر بها ايما تاثر.

ثالثتها: ان هيونهي بارك بعدما اتخذت الخرائط مدونه مركزيه تـنـطـلق منها وتستند اليها (مستثمره ما فيها من "قصور" ومعيده الاعتبار لما فيها من "هنات")، وبعدما اَحـيـتـها بان نزّلت التاريخ الديناميكي الحي في صميم الجغرافيا الستاتيكيّه الثابته (من خلال اعتمادها شهادات الرحاله وملاحظات الجغرافيين، لـم تـقـتـصـر علي وجهه نظر واحده، ولم تَكـتـف بدراسه الخرائط التي انجزها الصينيون لمجالهم الجغرافي ولما ظنوا انه العالم، او بدراسه الخرائط التي انجزها المسلمون لما اعتقدوا انّه هياه الارض، كل الارض، بل تجاوزت هذا وذاك بان وقفت علي النقطه التي تتقاطع عندها رؤيتا الحضارتَـيْـن الصينيّه والاسلاميّه، تلك النقطه التي تؤشّر في انٍ للاتفاق والافتراق، وللائتلاف والاختلاف.

وعلي هذا النحو، امكنها ان تعيد تركيب العالَـمَـيْـن الصينيّ والاسلاميّ، او بالاحري الصوره التي ابتناها كلٌّ من العالَـمَـيْـنِ عن الاخر قبل ان يهتدي الغربيّون الي الطريق التي ستفتح امامهم دروب الشرق البعيد، ودروب الحداثه من بعدها.

وعلي امتداد فصول الكتاب الخمسه تقصّت الباحثه هيوني بارك اطوار العلاقه بين الصين والعالم الاسلامي وتتبّعت التحوّلات التي طرات عليها مدا وجزرا، ضمن رقعه جغرافيه شاسعه تشمل جزءا كبيرا من القاره الاسيـويـه -برا- والمحيط الهندي -بحرا- علي امتداد ما يناهز الثمانيه قرون بدءا من سنه 750م، وانتهاء الي سنه 1500م، مرورًا بسنَـتَـيْ 1260م، و1368م.

اختارت الباحثه هيوني بارك سنه 750م، منطلقا لدراسه العلاقه بين العالم الاسلامي والعالم الصيني، ومن اسباب اختيارها لهذه السنه، تحديدا، انّها شهدت حدثا هامّا تمثّل في سقوط الدوله الامويّه وارتقاء العباسيّين لسده الخلافه.

فبعد عام واحد من حصول هذا التحول السياسي، وجه العباسيون مجهودهم الحربي نحو حدودهم الشرقـيّه المنفتحه علي اسيا الوسطي والمتاخمه للمجال الصيني، فحصلت اوّل واخر مواجهه عسكريّه بين الفريقين، مواجهه لم تدم الا يوما واحدا دوّنت وقائعه المصادر التاريخيّه الصينيّه والاسلاميّه علي حد سواء.

وقد كانت هذه المواجهه الخاطفه وحاله السلم التي اعقبتها ايذانا باستعاده طريق الحرير البريه بعضا من امجادها الضاربه في القدم تلك التي ترجع الي العهود الرومانيه والبيزنطيّه.

ولكنّ التمرد الذي استمر من سنه 755م، الي سنه 763م، والذي تزعمه القائد العسكري ان لوشان (An Lushan) في وجه سلاله التانغ (Tang) الصينيه الحاكمه (618م.-907م) دفع المسلمين والصينيّين علي حدّ سواء الي الاستعاضه عن طريق الحرير البريّه باخري بحريه.

ونتيجه لذلك انبثق مسار جديد في تاريخ العلاقه بين الطرفين، مسار صار البحر فيه حلا دائما صمد طيله ثمانيه قرون، بعدما كان حلا ظرفيا ليس له من هدف الا تجاوز الاثار السلبيه لتمرد ان لوشان الذي لم يدم الا ثماني سنوات.

ولعلّ اهم نتيجه افضي اليها هذا الوضع الجديد انّه فتح امام الصينيّين افاق معرفه جغرافيه متناميه بالعالم الاسلامي، معرفه لم تكن قائمه علي الخرائط والرسوم بل علي الحكايات والمرويات والامثال الرائجه في اوساط التجار وعموم الاشخاص المعنيين بالتواصل والتبادل والتفاعل بين الفريقين.

وخلافا لما كان عليه الامر مع الصينيين في هذه الفتره، لم يكتف العرب المسلمون بما ورد في ادبهم التخييلي كقصص "الف ليله وليله"، وفي ادبهم التوثيقي الذي زخرت به كتب الرحلات بل انهم استثمروا المعارف الجغرافيه التي ورثوها عن الاغريق والفرس والهنود، وقاموا بتحيينها اعتمادا علي شهادات البحاره والتجار من معاصريهم.

وقد تمكنوا بذلك من صياغه صوره حيه عن العالم الصينيّ الذي صار اكثر جلاء ووضوحا كما تشهد بذلك اعمال ابن خرداذبه (ت.299هـ./ 912م) وابي زيد البلخي (ت.322هـ./ 934م.) والمسعودي (ت.346هـ./ 957م.) والادريسي (ت.559هـ./ 1166م.).

ولكنّ العالـمَـيْـن الصينيّ والاسلامي سيتعرضان -بالرغم من تفاوت معرفه كل منهما بالاخر- الي نفس الحدث العميق العنيف: حدث الغزو المغولي.

وقد كان للباحثه هيوني بارك -في هذا السياق- فضلُ تَـنْـبِـيـهِـنَا -نحن العرب المسلمين- الي جمله من الحقائق التي ربما غابت عن اذهان الكثيرين منا، وهي حقائق تتلخص في النقاط التاليه:

- انّ الغزو المغولي -خلافا لما نظنّ- لم يستهدف العالم الاسلامي وحده ولم يُـطِـحْ بالخلافه العبّاسيّه (658هـ./1258م.) وبحاضرتِـها بغداد، فحسب، بل انّ اثاره "المدمره" قد امتدت لتشمل العالم الصيني ايضا، وذلك ما تجلي من خلال ازاحه المغول لسلاله السونغ (Song) عن حكم الصين سنه 1279م، عقدَيْن من الزمن بعد احتلال بغداد واسقاط الخلافه العبّاسيّه.

- انّ استيلاء المغول علي المجال الجغرافي/السياسي للخلافه العباسيه ولامبراطوريه "السونغ" الصينيه اتاح الوصل بين طرفـي القاره الاسيويّه.

فانبثقت نتيجه لذلك حركه تبادل كبيره لا نظير لها في السابق، وهي حركه لم تقتصر علي البضائع فحسب بل شملت ايضا الاشخاص والمعلومات، بدليل ظهور اقلّيات مسلمه استوطنت الصين، وحدوث تغير لافت في الذهنيه الصينيه التي اضحت اكثر انفتاحا ومرونه وقبولا بالتعدد العرقي مقارنه بما عليه الامر في القرون السابقه.

- انّ المغول كانوا براغماتيّين تماما في صلتهم بالعالـمَـيْـن الصيني والاسلامي فقد يسـّروا المبادلات بين الطرفَيْن وشجعوا علي تنميتها وتمتينها وتنويعها.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل