المحتوى الرئيسى

رواق البلقاء للفنون... كيف تتكوَّن اللوحة تحت أبصارنا

06/19 00:37

(الفن التشكيلي تقدم علي الشعر وبقيه الفنون، ربما لانه من دون مرجعيات) عباره «رؤيويه» قالها ادونيس خلال حديثه الشيق مؤخراً في مقر «السفير». استلُّ هذه الرؤيه الادونيسيه لافتتح ما اود ان انقله لكم عن مشاركتي وحضوري لنشاطات فنيه مكثّفه نظمها رواق البلقاء للفنون في الفحيص قريباً من العاصمة الأردنية عمان. فوسط هذا الركام، الخراب، الاندثار، التدمير، واغتيال التاريخ بكل ما للكلمه من معني.. هنالك من يثق بالادب والفن، ويصرف من وقته وجهده وماله لتوفير الجو اللائق بالفن والفنانين.

منزل ال داوود، العائله التي تحمل ارثا كبيراً، في مجال تشجيع الفن وتنظيم المعارض التشكيليه، سواء في الاردن او خارجها. حوّلت منزلاً، حديقته مزروعه بالزيتون والفل والورد الي خليه نحل تضج بالابداع، بالكلام، بالضحك.

لان الفنان لا يبتدع اسلوب حياته، بل يعيش بالاسلوب الذي يبدِع به، فقد شاركنا فنانون من جنسيات مختلفه يومياتهم. انها شراكه الفنان والاديب، الفنان يرسم، والاديب يراقب ويساله ويدوّن.

عادل السيوي تسيّد المشهد بلوحات جداريه، بدات ملامحها الاولي مع لون رملي، مستمد من ضياء شمسي يحيط بالمكان، شيئاً فشيئاً بدات تتضح المعالم، انه بورتريه، احد بورتريهات السيوي الشهيره: وجه بملامح بالكاد محدده، بالكاد العيون تنظر او تُري، لكنه في نهايه الامر وجه يبغي التحقق علي ارضيه قرمزيه اختارها السيوي ليغطي علي وجهٍ، ملامحه تمارس هجره خفيه الي المجهول.

في اليوم الرابع، هرع الجميع، توقفت الثرثرات والكلام والضحك والاكل والشرب، وحدها ام كلثوم صَدَحَ صوتها فيما تحلّقنا جميعا حول السيوي، وهو لا يشعر بوجودنا، بيدهِ تتنقل ريشته بحسم لا يقبل الجدال، لينهي اللوحه ونشرب نخبها.

شخوص سعد يكن المتعدده المهندَسه ببراعه اتقنتها دائما ريشه سعد يكن، وابهرنا بتلك الشخوص المؤطره باللون الاسود، جميع شخوص «يكن» متجاورون يتشاركون انجاز شيء، احياناً يعزفون واحياناً اخري ينصتون، اخمِّن ان «يكن» يحمل طبعاً اجتماعياً يدفعه الي ان يدجج لوحاته بشخوص ينساب حضورهم سلساً بفضل ريشه محترفه وموهوبه.

ولحمود شنتوت حصه جميله في الملتقي، اختار لونه المضيء الشمسي الذي يوحي بافاق مفتوحه لا نهائيه، واحياناً تبدو شجره وحيده وكانها «في انتظار غودو» منتظره احداً ما لا ياتي، بينما اللون الاحمر، يدسّه حمود شنتوت، كما لو انه اختلسه من مكان قصي، فيضنّ بالاحمر، ليشكل حضوره نقطه لافته في عالم فسيح من دون تضاريس تؤرق المساحات.

الجميع انفتحت شهيتهم علي الاكل والضحك والكلام، جميعنا لبسنا لبوس النقاد ونحن نراقب مراحل رسم اللوحات، كنا نقاداً متواطئين، نرفع شعاراً: لا للحياد، امام هذا الكم الجميل من اللوحات. فجاه سيسرق بنطلون ميساء سلامه الشهير، عليه تواقيع لرسامين عالميين، باختصار البنطلون يساوي ثروه، وتم اختلاسه عده مرات وميساء استعادته باصرار ومباهاه كبيرين، ستخبئه في مكانٍ امين وتحدثنا عن تجربتها الثريه بتنظيم المعارض وتسهيل عرض اعمال الفنانين السوريين في المانيا.

للفنان والممثل الاردني زهير النوباني نجم المسلسلات البدويه، حضوره الخاص والجميل، كان دائما اول الحاضرين، مشاركاً علي طريقته الخاصه سواء باغناء الجلسات بالحديث عن تجربته كفنان، او باستقباله اللبق واللافت للضيوف الذين ضمتهم بوتقه متنوعه بين ادب وفن وشعر، عمل الرواق علي استضافتها.

شهوه القمه.. زياره الي جبل نبو

في البعد تتراءي وكانها قمه تبحث عن الارض كلها، قمه جبل نبو. قمه تكاد ترفع يدين غامضتين وتنتزع قبضه من ازرق السماء. يا لولع البشر بالقمم، نحن العرب تحديداً، لم تنجُ من معتقداتنا اي قمّه، زرعنا القمم بالاضرحه، البعض اولياء الله الصالحين في الارض والبعض انبياء، ونحن ليس امامنا خيار غير التضرّع؟! لا عجب ان تتنازع الاسماء هذا المكان، الغارق بالميثولوجيا، والتصورات الدينيه. التاريخ الوثائقي المنطقي يقول ان الجبل سمي باسم اله التجاره البابلي «نابو او نبو»، بينما المعتقد الشعبي يصرّ علي انه مقام للنبي موسي حيث استقر هنا لينظر الارض الموعوده، برغم ان التاريخ المتوفر يقول ان النبي موسي توفي قبل خروج اليهود من سيناء؟! علي قمه هذا الجبل الاسطوري، بناء انشاه رهبان الفرنسيسكان لحمايه لوحات الفسيفساء الرائعه، التي تعود الي القرنين الرابع والسادس بعد الميلاد.

يقولون لك: هناك القدس، وببصري اكتسح الافق وبحلقي مراره كُتبت علينا نحن: «العرب».

القدس التي يخلسها التاريخ منّا تاره وتاره اخري نفرّط بها، والقدس تبقي القدس.

امشي في المكان واخفف الوطء ويخطر لي ان اخلع نعليّ.. اتذكر ما قاله يوماً نيكوس كزانتزاكيس في كتابه تقرير الي غريكو، عن الصحراء العربيه:

(لقد عبرت الصحراء العربيه التي ابدعت الرب، وكانت كل الام الانسان المعاصر تضرب بعنف في صدغي. كيف نجونا نحن ايضاً، وكيف خلقنا المخلّص المعاصر، الذي لحمه من لحمنا، ذلك البطل الذي يقودنا الي الارض الموعوده المعاصره؟)

انتشل نفسي من سحر كلمات كازانتزاكيس واحوّم ببصري صوب الصدع الجميل حيث يستلقي البحر الميت، كضريح مائي مفتوح يعكس سماءً صافيه.

اي زلزال احدث هذا الجرح البحري في جسد الصحراء الرملي الهاجع منذ الازل؟

مدينه مادبا، محطتنا التاليه خلال طريق العوده الي عمان، مادبا المدينه التي اشتقت اسمها من سوره المائده الوارد ذكرها في القران الكريم. مادبا عاش الانباط فيها، وازدهرت بسبب موقعها علي الطريق التجاري الممتد من بصري الشام والبحر الاحمر، ووصل ازدهارها التجاري الي سك نقود خاصه بها يحمل قسم منها اسمها، وقسم اخر اسم الهه مادبا «عشتاروت». يُضنيني التفكير بتاريخ كانت فيه المراه ربّه، واليوم تُباع المراه سبيّه بسوق النخاسه؟!

اغادر، وقد مسّني السحر، السحر الذي جعل البرتو مورافيا يعلن يوماً ان الصحراء، سواء اكان فيها الحنين ذو الطابع الديني ام لم يكن، تبقي مكاناً ميتافيزيكياً..

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل