المحتوى الرئيسى

لمياء نايل تكتب: مرآتي يا مرآتي، من أكون أنا؟! | ساسة بوست

06/18 21:30

منذ 6 دقائق، 18 يونيو,2015

ذلك الشعور المُبهم الذي يعتريك حينما تنظر الي المراه، اهذا انا الذي اري؟ من المؤكد انك قاومت احساسك المُلح بانك لست وحدك، يهيئ اليك عقلك ان انعكاسك يمتلك إرادة حرة، لا يتقيد بحركاتك، لا يتبع ايماءات جسدك! ذلك الشعور، بان المراه ما هي الا بوابه مؤديه الي عوالم اخري مجهوله!

يُقال انهم دخلوا الغرفه طواعيه، كانت الاضاءه خافته، والهدوء يغمر ارجاء المكان، هناك وجدوها قابعه في انتظارهم، مراه تبدو عاديه، بريئه المظهر، ولكن ما عليك سوي ان تقف في مواجهتها لمده دقيقه واحده حتي تغير رايك!

وقف وحيدًا يحدق في انعكاسه علي صفحه المراه، وفجاه حدث شيء لم يكن يتوقعه علي الاطلاق، ملامحه تتبدل، وقف يراقب وجهه يتشوه امام ناظريه، ما يحدث يخرج عن سيطرته، ما من شيء يسعه فعله ليوقف ما يجري.

جاء دورها لتقف في مواجهه المراه، مرت وهله قبل ان يظهر لها وجه تعرفه جيدًا، يكاد يشبه وجه والدتها المتوفاه ولكن ليس تمامًا، لم يزد الامر عن تبادل صامت للنظرات، نظرات مفعمه بالتساؤل والشك.

من بين هؤلاء الذين واجهوا المراه، كان هو احد التُعساء الذين كانوا علي موعد مع ظهور هذا “الشيء”، بشع المنظر، مشوه الخلقه، لا ينتمي الي عالمنا بالتاكيد، تسارعت نبضات قلبه بشده، وتدفقت الدماء في عروقه، لم يكن في حسبانه انه سيواجه كائنًا اتيًا من الجحيم.

علي خلفيه الاحداث المحيره المرتبطه بتلك المراه، لم يعد هناك مجال للشك في ان تكون “مسكونه”، وتتحقق من خلالها اشهر اساطير الرعب الشعبيه التي تتوارثها الاجيال، ظاهره ماورائيه Paranormal مُلغّزه يستعصي علي اهل العلم تفسيرها. لكن لا ينبغي الانخداع سريعًا بالمظاهر والانجراف خلف التكهنات، فان قصه تلك المراه لا تتعدي كونها تجربه علميه اجراها عالم النفس الايطالي “جيوفاني كابوتو” ليدرس “وهم الوجه الغريب Strange face illusion”!

ان مراتنا الغامضه، هي في واقع الامر مراه عاديه بطول نصف متر وعرض نصف متر، اما المشاركون “السُذج” – علي حد تعبير “كابوتو”- في التجربه وعددهم 50 مشاركًا، فقد طُلب منهم الوقوف علي بعد 40 سنتيمترًا من المراه والتحديق في انعكاسهم لمده لا تقل عن 10 دقائق ورصد حدوث اي ظواهر او تغييرات. بعد انتهاء مده الرصد قام كل مشارك بوصف ما راه، وكانت النتائج مذهله! لاحظ 66% من المشاركين حدوث تشوهات بالغه في وجوههم، وابلغ 18% منهم عن رؤيته لوجه احد والديه مع تغيرات في الملامح، 8% منهم ما زالوا علي قيد الحياه و10% رحلوا عنا! كما نالت وجوه الحيوانات نصيبًا في الظهور امام 18% من المشاركين، اكان وجه قطه او خنزير او حتي اسد. ولا تتوقف نتائج هذه التجربه عن ابهارنا، حيث ابلغ 48% منهم (اي نصف المشاركين تقريبًا) عن رؤيتهم لوحوش وكائنات خياليه! وتُدعي تلك الظاهره المُدهشه باسم “وهم الوجه الغريب”.

ثمه فرضيات عديده مقترحه لتفسير ذلك الوهم، تذهب احداها الي ان الوجوه الغريبه هي ببساطه نتاج لافراغ محتويات “العقل الباطن” علي صفحه المراه! يُعرف عالم النفس الشهير “سيجموند فرويد” العقل الباطن بانه ذلك الوعاء الذي يحوي كل المشاعر والافكار والرغبات والذكريات التي تقع خارج نطاق العقل الواعي، بمعني اننا لا نعيها ولا ندرك وجودها ومع ذلك فانها تكون المنبع الذي تاتي منه الماده الخام لاحلامنا ومستودع للذكريات المنسيه ومركز للمعارف والمهارات التي تعلمناها ونستطيع ان نؤديها دون تفكير مثل قياده السياره او النقر علي لوحه المفاتيح. في العقل الباطن تجد مخاوفنا ومعتقداتنا الخفيه لها مسكنًا ايضًا وكل ما له مضمون غير سار كالشعور بالالم او القلق او الصراع.

لذا فان الفرضيه تقول بان رؤيه ملامح مشوهه او وجوه الاباء او وحوش اسطوريه مخيفه لا بد ان يكون له مغزي ويرتبط بما يتضمنه العقل الباطن من افكار وذكريات، ان تلك الافكار المتواريه بدورها يكون لها التاثيرالاكبر علي شخصيتنا والطريقه التي نتصرف بها وفق نظريه فرويد. وفي هذه الحاله يعتبر اصحاب الفرضيه المراه كاداه فعاله لـ “تصوير” العقل الباطن ومعرفه مكنوناته، من ثم يصبح في مقدورهم تبرير تصرفاتنا التي تكون مدفوعه من قِبَله.

اما الفرضيه الثانيه فتُرجع سبب وهم الوجه الغريب الي “تاثير تروكسلر Troxler effect”. هل انت في العاده تكون واعيًا بوجود حذائك في قدميك علي مدار 16 ساعه يوميًّا؟ ليس بالضروره، لان دماغك غير قادر علي ملاحظه وتحليل كل المؤثرات المحيطه بك ومن ضمنها حذائك طوال الوقت – الا اذا كان الحذاء ضيقًا بالطبع!- وذلك نتيجه لظاهره تُدعي “التكيف العصبي Neural Adaptation”. فمثلًا عندما يتعرض النظام البصري لمشهد ثابت الاضاءه والسمات، تنشا عنه استجابه ضعيفه بالمخ ويكون الثمن هو تلاشي سمات المشهد الخارج عن اطار اهتمامك من امام عينيك! لكن بمجرد تحريك عينيك يعود المشهد الي الظهور، تمامًا كما تحرك اصابعك داخل حذائك فتستعيد احساسك بوجوده في قدميك من جديد. يمكنك ان تجرب تاثير تروكسلر بنفسك اذا نظرت للصوره المتحركه بالاسفل. عليك ان تركز بصرك علي علامه + في منتصف الحلقه وشاهد النقاط البنفسجيه الثابته المحيطه بها تتلاشي بالتدريج مخلفه وراءها نقطه وحيده متحركه، لكنك اذا حولت بصرك بعيدًا تعود الحلقه البنفسجيه الي الوجود!

في تجربه المراه، يحدق الاشخاص المشاركون بالتجربه في انعكاس وجوههم حتي يبدا تاثير تروكسلر في الاتيان بمفعوله، فتبدا سمات الوجه بالتلاشي تاركه اياهم في مواجهه وجوههم الغريبه! بالرغم من ان فرضيه تروكسلر معقوله علميًّا غير انها لا تفسر ظهور وحوش اسطوريه او وجوه اقارب متوفيين!

امام المراه الخاصه بتجربه “كابوتو” يستعصي التمييز بين الحقيقه والخيال، حيث تلاشي الحاجز بين العقل الواعي واللاواعي، واعمي التكيف العصبي الابصار عن رؤيه الحقيقه. اذا كانت هذه التجربه مثالًا علي تشوه الحقيقه، فهل يمكن اعتبار ما نراه في المراه بشكل يومي هو الحقيقه فعليًّا؟ اهكذا يكون شكلك حقًّا؟ ام ان المراه لا تخبرك بالحقيقه؟!

ثمه فرق كبير بين صورتك في المراه و”انت” الحقيقي، ربما لا تنتبه لهذا الامر غير انه لا ينفي حقيقه ان المراه تكذب عليك، في كل مره! يعود هذا الامر الي عيب متاصل في المرايا، فما عليك سوي ان تكتب جمله علي ورقه وترفعها في مواجهه المراه، حتي تري هذا العيب بوضوح، الجمله معكوسه! قد تعتقد انك لا تكترث لهذا الامر، لكن صدقني انك تكترث!

هل تذكر اخر مره وقفت في مواجهه الكاميرا كاشفًا عن اسنانك في انتظار التماع الفلاش، ولكن عندما نظرت الي الصوره لم تالفها، وشعرت بغرابه وجهك فيها بل وربما كرهتها بشده؟ هذا ببساطه لانك لم تنظر الي نفسك من المنظور المعتاد اليك، منظور المراه.

في سبعينات القرن الماضي، اجريت تجربه علميه وطُلب من كل مشارك بها الاختيار بين صورتين فوتوغرافيتين لوجه المشارك نفسه، الصوره الاولي هي “الصوره الحقيقيه” كما يراها الناس، اما الصوره الثانيه كانت “صورة المرآة” اي كما يراها المشارك في المراه. وكانت النتيجه لصالح اختيار “صوره المراه” في معظم الحالات، بينما عند عرض الصورتين ذاتهم علي صديق مقرب لكل مشارك، كانت الغلبه لتفضيلات الصوره الحقيقيه! تسمي تلك الظاهره بـ”تاثير التعرض المجرد Mere-exposure effect”، بمعني ان المرء يتكون لديه تفضيل تجاه مؤثر معين نتيجه للتعرض المتكرر له. ان تعرض كل منا لصورته في المراه بشكل دائم يجعل صوره المراه هي الاكثر تفضيلًا لديه، علي عكس من هم حولنا الذين يتعرضون دائمًا للصوره الحقيقيه لذا لا يمكن ان نلومهم اذا كانوا يفضلون الحقيقه بخلافنا وهو ما يفسر كرهيتنا للصور الملتقطه لوجوهنا علي الرغم من تقبل الاخرين لها.

بالرغم من ان المنظور الشخصي لانفسنا بالمراه لا يعبر عنا امام الاخرين، غير انه ليس ثمه شك في كونه يعبر عنا امام انفسنا، ام انه ثمه شك؟! هل انت علي يقين من انك تحدق في انعكاسك الشخصي ام تواجه شخصًا اخر سواك؟

في اختبار اُجري عام 1969 وُضع حيوان الشمبانزي في مواجهه المراه. في البدايه تعامل الشمبانزي مع صورته بالمراه باعتبارها شمبانزيًا اخر بل وابدي سلوكيات اجتماعيه تجاهه! لكن مع مرور الوقت بدا الشمبانزي في استخدام المراه في استكشاف اجزاء من جسمه، لكن لم يكن ذلك دليلًا كافيًا علي قدرته علي تعرف الي نفسه بالمراه. لذا تم تخدير الشمبانزي ووُضعت علامه حمراء في ما مكان بوجهه. وحينما افاق، نظر الشمبانزي الي انعكاسه ووجه اصبعه الي العلامه الموجوده علي وجهه والتي لم يكن ليستطيع رؤيتها سوي باستخدام المراه. كانت نتيجه التجربه ان الشمبانزي “واعيًا بذاته”، ويُعرف علماء النفس “الوعي الذاتي” في هذه الحاله بانه المقدره علي ادراك ان من يقف في مواجهتك هو انت وليس شخصًا اخر.

فيما بعد تمكن علماء النفس من تطوير ذلك الاختبار لقياس الوعي الذاتي لدي الاطفال، في اختبار شهير يعرف اليوم باسم “اختبار العلامه Mark test”. يُجري الاختبار بوضع علامه باستخدام طلاء شفاه احمر علي انف الطفل الرضيع وملاحظه رد فعله تجاه صورته في المراه. وجد العلماء ان الاطفال في نهايه عامهم الاول يقومون بابداء ردود افعال كالابتسام او اصدار اصوات تجاه انعكاسهم من دون ادراك وجود العلامه، وببلوغ الثانيه من العمر يتمكن اغلبهم من ادراك وجودها ومن ثم بلوغهم مرحله الوعي الذاتي.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل