المحتوى الرئيسى

الفن في مواجهة الاستبداد

06/18 18:42

لطالما ارتبط الفن بمختلف صيّغه واشكاله بالانظمه السياسيه علي مر التاريخ. فغير انه يستجيب ويحاكي الاحداث المعاصره له، استخدمت العديد من الانظمه الفن للحد من او زياده الابعاد السياسيه والاجتماعيه لاحداث بعينها. علي سبيل المثال، في الأتحاد السوفيتي وفي الصين الماويه استخدمت الانظمه السياسيه نظاما فنيا شاملا ممنوع الخروج عنه لتعزيز فكره الثوره ووجوب تلبيه نداءها في اذهان الناس. علي نفس المنوال، في المانيا النازية وإيطاليا الفاشية استخدمت الانظمه انساق فنيه بعينها لحشد الجماهير لصف النظام او الهائهم تمامًا بعيدًا عن اي ممارسات سياسيه. في النهايه اصبح فنانيين باعينهم واعمال فنيه بعينها اسلحه في ترسانه القمع، فاخضعت ملايين الناس لسلطه الحاكم، مخلفه وراءها عشرات الاف القتلي بعد ان اباحت القضاء علي كل من يخرج عن حظيره النظام.

في نفس الصدد، يقول فلاديمير نابوكوف[1]: "ادركت الانظمه السياسيه في روسيا القيصريه في فترات حكم نيكولا الاول والثاني في القرن التاسع عشر ان اي ابداع وتميز من شانه ان يحفز من التفكير الخلاق الذي يكون بدوره مسمار في نعش القيصر وخطوه نحو الثوره". ربما لهذا السبب اعتبرت روسيا القيصريه بوشكين[2] احد الاخطار المُحدقه بها لان اشعاره ورواياته اتخذت منحني من حريه الفكر والابداع والنظره النقديه ما جعله يُمثل خطرا علي القيصريه. ومع ذلك يري البعض ان الفن ليس بقوه محركه تستطيع ان تنقذ العالم او تغير من احداث التاريخ شيئا. لكن بوريس جرويس[3] يري ان للفن قدراته الخاصه في هذا العالم، وهو اليوم احد القوي المحركه علي المسرح السياسى العالمي، تمامًا كما كان ابان الحرب البارده. وهكذا، ظلت العلاقه بين الجماليه بتعدد صيغها الفنيه والسياسي بتعدد ايديولوجياته متشابكه، تساهم احيانًا في ايقاظ ملكه النقد او وادها.

لكن هل يستطيع شخص او مجموعه موغله في عباده صنم فكري او سياسي ما ان تقدم عمل ابداعي متميز؟ الا يتطلب العمل الابداعي موهبه كبيره وروح "حره"؟ هذا بدوره يطرح سؤالا اخر: هل الجماهير المطلوب ضمها لحظيره النظام تحتاج لعمل فني غير عادي لاقناعها ضمن الوسائل العديده التي سيستخدمها النظام؛ ام ان الغايات الرديئه والمظلمه تحتاج بالضروره لاعمال فنيه ضيقه الافق؟ هل الفن الذي يخدم الفكر الشمولي يكون بالضروره قبيح؟ هل يكون متميزا ومبدعا علي الرغم من لااخلاقيته؟ هل يمكن ان تُقدم الافكار الاجراميه في قوالب فنيه براقه وغير تقليديه؟

بلا ادني شك الغايات الغير نبيله لا تنتج الا فنا مُنحطا؛ لان ببساطه تسخير الابداع يؤدي لواده. تماما كما حدث في الحقبه الستالينيه عندما طُلب من جميع الادباء والفنانيين ان يقدموا "انجازات الثوره" ضمن اعمالهم! تسبب هذا ليس فقط في تشويه "النظريه الواقعيه" في الفن، بل علي المستوي الفردي اودي قمع الافكار الابداعيه بحياه بعض الفنانيين وهجره بعضهم هروبًا من القمع والشموليه. مثال ذلك، الشاعر الروسي فلاديمير مايكوفسكي الذي انتحر عام 1930 بعد ان فشلت الثوره في تحقيق المباديء التي اقنع بها الناس في العديد من اعماله الادبيه. قِس علي ذلك ما شهدته مصر في الخمسينات والستينات حيث تناولت العديد من الافلام والاغاني افكار ما يقول عنه النظام انه "ثوري واشتراكي".

بشكل عام، بدا جليًا منذ النصف الثاني من القرن العشرين ان الفن لن يكون ابدًا بمعزل عن التغيرات السياسيه والتحولات المجتمعيه. واصبح لزامًا علي كل نظام سياسي تجهيز قواعده الاعلاميه في معركته لبسط نفوذه. ادي هذا بدوره لبروز اشكاليه الفن والسياسه اكثر فاكثر، سواء من خلال اعمال فنيه منحطه او اعمال فنيه استثنائيه متجاوزه. احد اولئك مِن مَن يعبرون عن الوجه السلبي للعلاقه بين الجماليه والايديولوجيا هو الكاتب والفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي (مواليد 1948) الذي تدعم مواقفه سياسات الكيان الصهيوني، كما يؤكد علي ان تدخل القوي الاستعماريه الكبري في العالم الثالث ليس مؤامره امبرياليه بل امر مشروع تمامًا! يؤكد ليفي كذلك ان النزعه الاسلاميه المعاديه للغرب ليست بسبب سياسات الدوله الغربيه، بل ناجمه عن مشكله في الاسلام ذاته، كما انها لا تقل خطرًا عن الفاشيه والشيوعيه.

اذا كان ليفني احد الاشكال السلبيه للعلاقه بين الفلسفة والسياسة في العالم الغربي، فواقعنا العربي قد حبل بالعديد والعديد من النماذج من متملقي السلطه لحجز مكان لانفسهم في احضانها عوضًا عن شق طريق طويل من الكد والكدح يعتمد فيه المفكر او الفنان علي نفسه وقد لا يحقق اي شيء في النهايه اذا كان عديم الموهبه. في مصر، علي سبيل المثال، فاروق حسني، الذي ما كان ليبيع اي من لوحاته ولو بجنيه واحد لولا منصبه السياسي وعلاقته باسره المخلوع مبارك.

||من الافضل لنا ان نبحث عن اجابات للاسئله الوجوديه بين ضفاف الفن والادب، بعيدًا عن مستنقعات السياسيه والسياسيين||

تاريخ الفن حافل بنماذج انطمست فيها الحدود بين الشخصي والعام حتي اصبحت اعمال بعض المفكرين والفنانيين تعبير شخصي عن الهم العام؛ امثال هؤلاء: ناعوم شومسكي الكاتب واللساني الامريكي، جان بول سارتر، بابلو بيكاسو، فرانثيسكو جويا[5]، جورج ارويل، جان جينيه[6]، امل دنقل، محمود درويش، نجيب محفوظ، غسان كنفاني، ناجي العلي... وغيرهم.

ربما تبرز اشكاليه الفن في مواجهه الاستبداد اكثر ما تبرز في اغتيال ناجي العلي. ما هي اسباب اغتيال ناجي العلي؟ الاسباب كلها تدور في افق "حنظله"!

ظهرت شخصيه حنظله في لوحات ناجي العلي لاول مره عام 1969 في جريده السياسه الكويتيه. يظهر حنظله دائمًا مديرًا وجهه للقاريء. عرف حنظله نفسه في هذا الظهور الاول كالاتي:

||عزيزي القارئ: اسمي حنظله، اسم ابي مش ضروري، امي اسمها نكبه. نمره رجلي مبعرف لاني دائما حافي.. ولدت في خمسه حزيران 1967، جنسيتي انا مش فلسطيني، مش اردني، مش كويتي، مش لبناني، مش مصري، مش حدا.. انا بختصار معيش هويه، ولا ناوي اتجنس، محسوبك انسان عربي وبس، التقيت بالرسام ناجي صدفه، كاره شغله لان مش عارف يرسم.. عرفتو علي نفسي، واني انسان عربي، واعي معاشر كل الناس، المليح والعاطل، واللي هيك وهيك، ورحت الاغوار، وبعرف مين بيقاتل ومين بيطلع بلاغات بس.. وقلتلوا اني مستعد اِرسم عنه افكار الكاريكاتير كل يوم وفهمته اني مبخاف من حدا، غير من الله، و اللي بدو يزعل، يروح يبلط البحر، قلتلوا علي اللي بيفكر بالكنديش بالسياره، وشو بيطبخوا اكثر، ما بيفكروا بفلسطين، و يا عزيزي القارئ، انا اسف لاني طولت عليك وما تظن اني قلت هالشيء عشان عبي هالمساحه.. واني، بالاصاله عن نفسي و بالنيابه عن صديقي الرسام اشكرك، والي اللقاء غدا||

يحكي الراحل محمود درويش عن ناجي العلي قائلا:

||كنت اكتب وكان يرسم.. جميع الذين عملوا معه كانوا يقولون انه اصبح جامحًا وان النار المشتعله فيه تلتهم كل شيء، لان قلبه علي ريشته ولان ريشته سريعه الانفعال والاشتعال لا تعرف لاي شيء حسابًا.. ولانه يحس بان فلسطين ملكيته الخاصه التي لا يحق لاحد ان يجتهد في تفسير ديانتها.. فهي لن تعود بالتقسيط.. لن تعود الا مره واحده.. مره واحده من النهر الي البحر والا لن يغفر لاحد.. واعلن الخلاف مع الجميع وخدش الجميع بريشه لا ترحم ولا تصغي للاصدقاء||

ربما في هذه القطعه ما يكفي لمعرفه لماذا تم اغتيال ناجي العلي في لندن في 22 يوليو 1987.

(احدي اعمال الفنان ناجي العلي)

لعل من اشهر الاعمال الادبيه ذات البعد السياسي التي تجسد شعور الفنان والمبدع بالمسئوليه تجاه العالم هي روايه "1984" للروائي الانجليزي جورج ارويل (1903- 1950). قدمت 1984 صوره شديده الرمزيه عن المستقبل الشمولي الذي ينتظر العالم. هاجمت الروايه النازيين والشيوعيين كانظمه استبداديه تحاول فرض صوره مثاليه عن نفسها بالقوه. جورج ارويل الذي اعلن ولاول مره عن وصول "الاخ الاكبر" الامر الناهي في دوله بوليسيه شموليه اكد انه قريبًا سيكون حاصل جمع 2 + 2 = 5، وسيصدق الجميع بشكل دوجمائي صارخ. جدير بالذكر ان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي في فتره حكم ستالين استخدم شعار 2 + 2 = 5 بالفعل!

(جورج اورويل وروايته الشهيره 1984)

تاتي كذلك لوحه الغيرنيكا للرسام الاسباني بابلو بيكاسو (1881 - 1973) كاحد اشهر واهم الاعمال الفنيه السياسيه في التاريخ. في عام 1936، اندلعت حرب اهليه في اسبانيا بين الحكومه الديمقراطيه والقوي الفاشيه بقياده فرانكو، نتج عن ذلك، ان قام سلاح الجو الالماني تحت حكم هتلر في 27 ابريل 1937 بقذف قريه الغيرنيكا لمسانده القوي الفاشيه. علي الرغم من ان القريه ليس لها اي ثِقل سياسي او استراتيجي. قُتل سكان جرنيكا بدم بارد وببطء شديد، حيث كان سلاح الجو الالماني يختبر تكتيك جديد لترهيب وتخويف المقاومه ضد القوي الفاشيه. علي مدار مدار ثلاث ساعات تقريبًا سقط علي هذه القريه الصغيره والمدنيين فيها 50 الف كيلو من المواد المتفجره الحارقه والتي ابادت القريه بالكامل.

(اطلال قريه غرنيكيا الاسبانيه بعد العدوان الفاشي)

ليس هذا كل شيء! كل من نجا وحاول الفرار في فتره الثلاث ساعات تلقفته المزيد من الطائرات التي هاجمت المدينه وقتلت ما تطاله من المدنيين الفارين. ترك هتلر القريه في حاله من الدمار الشامل. قُتل اكثر من ثلث سكان القريه (حوالي 1600 مدني) واشتعلت النيران فيها لمده ثلاثه ايام. في اليوم التالي للقصف كتبت جريده التايمز النص التالي:

||دمّرت بعد ظهر امس بلده غيرنيكا القديمه عن بكره ابيها بفعل غارات جويه كاسحه. وقد استغرق قصف المدينه المكشوفه ثلاث ساعات وربع ساعه بالضبط، كان في اثنائها اسطول ضخم من الطائرات الالمانيه من طراز ’’يونكر‘‘ والقاذفات المقاتله من طراز ’’هينكل‘‘ يلقي علي المدينه بصوره متواصله قنابل من زنه الف رطل، وكانت المقاتلات في هذه الاثناء تحلق علي ارتفاع منخفض من مركز المدينه لتطلق النار علي المدنيين الذين التجؤوا الي الحقول. وبعد ذلك تحوّلت غيرنيكا برمتها الي شعله من النيران||

"ان الرسم اقوي مِنّي. انه يحملني علي ان افعل ما يريد" يقول بيكاسو. وهذا ما فعله تحديدًا رسم الغيرنيكا ببيكاسو. يقول بيكاسو: "انّ اللوحه هي جمله من التدميرات" يورد ايضا: "لم يُخلق الفن من اجل تزيين العمارات بل ان الفن سلاح هجومي ودفاعي معا". لم تعد لوحه الغيرنيكا رمزا لقريه الغيرنيكا وحدها، بل لكل الضحايا والابرياء مِن مَن ماتوا تحت اقدام الثيران، والثور الذي يبزغ في اللوحه هنا رمز للكوارث عند الاسبانيين، فلا تكاد تنتهي مصارعه الثيران الا بكارثه.. اقول: لم يعد ثور الغيرنيكا نفسه رمزًا فقط لقوات فرانكو الفاشيه او قوات هتلر النازيه، بل رمزا لكل الانظمه السياسيه الشموليه الاستبداديه.

كل المدن غيرنيكا. الغيرنيكا هي غزه، سوريا، العراق، مصر، ليبيا.. وغيرها من البلاد، كل البلاد الغارقه في الالم، الموت، الخراب والدمار هي غيرنيكا.

لا يمكن تناول اشكاليه الفن والسياسه دون الدخول في عالم "فن الشوارع".. كيف تعامل بعض الرساميين مع العالم كانه لوح رسم كبير مفتوح لمن يشاء ليعبر عن ما يشاء؟

يُعتبر فن الشوارع احد ابسط الوسائل في اثاره اكبر الاشكاليات الفلسفيه والاسئله الوجوديه تعقيدًا. قد لا يدرك المار علي اللوحات البسيطه المرسومه علي الجدران او الجرافيتي كل التحليل الفلسفي الذي يتناول تاثيره علي الجداريه وتاثير الجداريه عليه. وهذا ما يميز فن الشوارع عن محاضرات الفكر والفلسفه ومعارض اللوحات. فن الشوارع ببساطه يذهب للناس بنفسه. في مصر، انتشر فن الجرافيتي بشكل كبير بعد ثوره 25 يناير 2011، صحيح انه لا يكاد يمر اسبوع علي جداريه ما الا ويتم مسحها، لكن لا ينفك الرسامون بان يعيدوا الرسم ويعيدوا الحكايه من اولها.

خارج مصر، يُعتبر بانكسي، رسام الجرافيتي الانجليزي المشهور والمجهول في نفس الوقت، هو ابرز من قدم ما تنطوي عليه الاحداث السياسيه والاجتماعيه حول العالم من كوميديا سوداء. تميزت معظم اعمال بانكسي بالنقد الساخر للحداثه والعولمه والراسماليه ومناهضه الامبرياليه.

هناك العديد غير بانكسي حول العالم يُقدِمون علي الجداريات والتي يكون محتواها في الغالب سياسيا ساخرا، وقد وصلت الجداريات للناس اكثر مما وصلت محاضرات الفلسفه وكتب الفكر ومواعظ المثقفين النخبويه، وكثيرًا ما يكون تاثيرها اعمق.

ختامًا، قد لا يتمكن الفن من الوقوف في وجه الاستبداد. بالاحري، سينتصر الاستبداد في جولات وجولات علي الفن. لكن الفن لم يكُن يومًا وعدًا بالانتصار ولكنه وعد بالحقيقه! كما يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. في مُقدّمه كتابِه الكلمات والاشياء، يقول ميشيل فوكو: "اليوتوبيات تعزّينا.. لانّها تفتح مُدنًا ذات جادّات فسيحه وحدائق حافله بالزرع وبلدانًا سهله حتي وان كان دخولها وهميا" انتهي كلامه. يوتوبيات كتلك التي يخلقها الرسَامون، لربما ينقذهم الفن وينقذنا معهم.. يوتوبيات تعزّينا امام الصمت المطبق الذي تفرضه عدميّه كل شيء، تعزي وطاه ادراكنا بانَّ الظلم دائم لن يتوقف، وان مَنْ مات كان حقًا الاكثر حظًا. يوتوبيات وهميه يا فوكو نحتمي بها مِن كوابيس الحقيقه. "يوتوبيات تعزّينا".

[1] فلاديمير نابوكوف (1899- 1977) كاتب روسي امريكي، صُنفت روايته "لوليتا" ضمن افضل 100 روايه عالميه حديثه.

[2] الكسندر بوشكين (1799- 1837) روائي وشاعر روسي، لُقب بامير شعراء روسيا.

[3] بوريس جرويس (19 مارس 1947) فيلوف وناقد فني روسي.

[4]  هاورد جاكوبسون (25 اغسطس 1942) صحفي وكاتب انجليزي مشهور بروايته الكوميديه.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل