المحتوى الرئيسى

بيشوى القمص يكتب: من ثورات المصريين – ج1 ثورة البشموريين | ساسة بوست

06/18 16:55

منذ 3 دقائق، 18 يونيو,2015

مع بدايه العقد الثالث من القرن التاسع للميلاد، كانت مصر علي موعد مع ثوره كبري كادت ان تطيح بالمحتل والغازي العربي الي شبه الجزيرة العربية مره اخري وتغير من خريطه المنطقه لولا الخيانه.

في عام 641م، احتل العرب مصر بعد طرد المستعمر البيزنطي، ومثلما فعل الروم والبيزنطيون بأهل مصر فعل العرب بالمثل، واستمروا في نهب خيرات مصر وثروات المصريين عن طريق فرض الضرائب والمكوس الجائره، واهمل الفلاحون اراضيهم الزراعيه بسبب عجزهم عن دفع الضرائب الظالمه فانهار الاقتصاد تمامًا، ومات منهم اعداد ضخمه بسبب الجوع والوباء.

وفي عام 41هـ/ 662م اعتلي الامويون سده الخلافه، واستمر النهب والتعسف والاضطهاد ضد الاقباط طوال العصر الاموي، وظل يتصاعد حتي وصل الي ذروته في زمن ولايه الخليفه الاموي “عبد الملك بن مروان” (65هـ : 86هـ/ 685م : 705م)، فثار الاقباط في تنديمي وقربيط والحوف الشرقي في الوجه البحري، وامتنعوا عن دفع الضرائب، وقتلوا عمال الخراج في البشمور وقاوموا سلطته في براري الدلتا وبحيراتها في المنزله ودمياط، وانتصر الاقباط علي عساكر الحاكم مرتين بقياده “مينا بن بقيره” فارسل الوالي العسكر لتاديبهم فقتلوا منهم الالاف.

وفي عام 132هـ/ 750م ارسل “ابو مسلم الخرساني” جيشًا بقياده “قحطبه بن شيب” الي العراق، فاستطاع هزيمه الامويين وضم العراق لدوله بني العباس الوليده، ثم زحف العباسيون نحو دمشق مقر الخلافة الاموية، والتقوا بجيش الامويين بقياده “مروان الثاني بن محمد بن مروان” الملقب بـ”مروان الحمار”، الذي خرج لهم عند نهر الزاب في شمال العراق، وانتصر العباسيون، وفر “مروان بن محمد” الي مصر، ولكنه وقع في يد العباسيين الذين قتلوه في بلده بوصير بالفيوم ومثلوا به، وبذلك زالت الدوله الامويه وقامت الخلافه العباسيه.

في بدايات الاحتلال العباسي تحسنت احوال الاقباط نسبيًّا عما كانت عليه في عصر الامويين الذين ارهقوهم بالمظالم والضرائب، لكن بعد مرور اول ثلاث سنوات من حكم الخليفه “ابي العباس عبد الله” الملقب بـ”السفاح” عاد المحتل الي استنزاف بقرته الحلوب ونهب ثورات الاقباط، وادرك الاقباط انهم بالغوا في تفاؤلهم، لان الحكومه مهما كانت متسامحه لا تستطيع ان تعيش دون جبايه الضرائب، وزادت خيبه املهم عندما ادركوا ان الفاتح الجديد كان يريد ان ينعم بثمره انتصاره، لذلك لم يلبثوا ان وضعوا نصب اعينهم هدفًا واحدًا هو تغيير حكامهم الجدد والتحرر من ربقتهم، فيقول د. جاك تاجر في كتابه “اقباط ومسلمون” نقلًا عن المؤرخ ابن المقفع: “ولما كان في ثالث سنه من مملكه الخراسانيين )العباسيين) اضعفوا الخراج واكملوه علي النصاري ولم يوفوا بوعدوهم”، وتدهورت احوال المصريين بشكل مريع بسبب قله الزراعه وكساد التجاره وموت اعداد كبيره من المصريين بسبب الاوبئه والقمع عقابًا علي عجزهم عن اتيان الجزيه والمكوس، ويصف المؤرخ ابن اياس الحال المزري الذي الت اليه الاوضاع في مصر قائلًا: “قد ال امرها الي الخراب”.

في العقد السادس لحكم الامويين اصبح “عبد الله المامون” خليفه المسلمين عام 813 م بعدما قتل اخاه “الامين” بعد صراع دام لاربع سنوات علي عرش الخلافه، وبعد اعتلائه سده العرش عين اخاه الاصغر “المعتصم” وليًّا للعهد الذي عين بدوره اثنين من الولاه لجبايه الخراج تسببوا في زياده ثوره الاقباط في الوجهين البحري والقبلي، وفي عام 829م عين المعتصم “عمير بن الوليد” واليًا علي مصر، ولكن كثر الظلم في عهده، ورفض اهل الوجه البحري دفع الخراج، وانتشرت دعاوي الاضراب كالنار في الهشيم، وامتدت لنواحي كثيره في مصر، وقامت ثورات متفرقه شارك فيها مسيحيون ومسلمون علي حد سواء في اماكن عديده في الوجه البحري مثل ثوره اهل رشيد وثوره اقباط الحوف وانتشرت حتي الصعيد، وشجع الثوار علي التمرد المناخ العام في الولايات المحتله من العرب في هذا الوقت والحركات الاستقلاليه التي بدات تنتشر بضراوه في زمن واحد في جميع الانحاء، فقد اعلن “نصر بن شبث” الثوره علي الخليفه العباسي، وقامت دوله “الرستميين” بالجزائر ثم “الادارسه” بالمغرب في بلاد فارس في جبال شمال غرب ايران بزعامه “بابك الخرمي”، وتصاعدت الاحداث بسرعه وقتل المصريون “عمير بن الوليد” وتولي مكانه “عيسي بن يزيد الجلودي”، وبدلًا من ان يترفق “المامون” بالمصريين، صب الزيت علي النار بتوليه “عيسي بن منصور الرافقي” حكم ولايه مصر عام 216هـ/ 831م، فضاعف من زياده ظلم جباه الخراج وولاتهم وضوعفت الجزيه، وعني باضطهاد البشموريين في شمال شرق مصر تحديدًا واحرق منازلهم وكنائسهم.

البشموريون هم اقباط منطقه شمال الدلتا بين فرعي رشيد ودمياط المسماه بالبشمور او البشرود، واطلق علي البشمورين ايضًا اسم “البياما”، او “البيامي” كما ذكر المؤرخ ابو المكارم قائلًا: “هي لفظه قبطيه وتعني اربعين وذلك ان الروم لما خرجوا من مصر في وقت دخول المسلمين تخلف منهم اربعون رجلًا فتناسلوا وكثروا وتوالدوا باسفل الارض من مصر فسموا بالبياما، وكونوا جيشًا وقاتلوا المسلمين بعدما فتحت مصر بسبعه سنين كامله”، وقد شكلت المستنقعات والاحراش والارض الموحله – نتيجه اختلاط مياه البحر الرومي (البحر المتوسط) بمياه النيل العذبه التي كانت تحيط بالبشمور- حمايه طبيعيه لها، فتميزت اراضيها بالسيوله التي تغوص فيها اقدام السائر، واقل اهمال او عدم احتراز قد يؤدي الي الغوص والتهلكه لان كثيرًا من مواضع تلك السيوله ليس له قرار، ويمكن ان يبتلع الانسان ويحتويه داخل الطين مثلما هو الماء الخالص.

وكان البشموريون قد تمرسوا عليها منذ صغرهم، وقد بنوا كورهم وقراهم علي ما بها من مواضع راسخه التربه، تلك الاحراش والمستنقعات ستعيق لاحقًا حركه العرب الغزاه الذين لم تكن لهم الدرايه بطبيعه المنطقه، وكان الشموريون يعملون بالصيد وتصنيع ورق البردي في سلام وطمانينه، حتي تولي الرافقي ولايه مصر فارهقهم بالضرائب واثقل كاهلهم، فيقول ابن المقفع: “عامل العرب البشموريين علي الاخص في غايه القسوه، فقد ربطوهم بسلاسل الي المطاحن وضربوهم بشده ليطحنوا الغلال كما تفعل الدواب سواء بسواء، فاضطر البشموريون ان يبيعوا اولادهم ليدفعوا الجزيه ويتخلصوا من الام هذا العذاب، وكان يعذبهم رجل من قبل الوالي اسمه غيث”، وايد المؤرخ “ميخائيل السوري” سبب ثورتهم الذي ذكره ابن المقفع وزاد عليه فقال: “وقالوا ان الوالي كان يرغمهم علي دفع الجزيه وكانوا لا يستطيعون تحملها، فكان يسجنهم ويضربهم ضربًا مبرحًا ويضطرهم الي طحن الحبوب كالدواب تمامًا، وعندما كانت تاتي نساؤهم اليهم بالطعام كان خدمه ياخذونهن ويهتكون عرضهن، وقد قتل منهم عددًا كبيرًا وكان عازمًا علي ابادتهم عن بكره ابيهم حتي لا يشكوه الي الخليفه، ولما اقتنعوا نهائيًّا ان هذا الظلم لا يحده الا الموت وان بلادهم كلها مستنقعات تخللها الطرق الضيقه التي ينفردون بمعرفتها، وانه يعد من المستحيل علي جيوش المسلمين ان تغزوها فقد اتفقوا علي اعلان الثوره ورفضوا دفع الجزيه” وتزعمهم القبطي يحنس الطوبي، وقاموا بطرد عمال الدوله ورفعوا رايه العصيان ورفضوا دفع الجزيه، وتواصلت الاحتجاجات الي ان عم الغضب جميع انحاء البلاد وقد اسفرت هذه الثوره عن هزيمه جيش الغزاه (العرب) هزيمه منكره في المره الاولي، وفرّ امامهم الوالي يتبعه جُباه الضرائب.

وكتب المقريزي في هذا الصدد: “لما كان في جمادي الاول سنه 216هـ، انتفض اسفل الارض باسره، عرب البلاد وقبطها واخرجوا العمال وخلعوا الطاعه لسوء سيره عمال السلطان فيها فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب”، وتقول بعض الروايات الضعيفه انه امام هذا الغضب تنصل الخليفه العباسي المامون مما فعله واليه وقال: “انا غير مسئول عن سياسه ولاتي لاني لم امل عليهم هذا الموقف الذي اتبعوه، انا لم افكر قط في ارهاق الناس واذا كنت اشفقت علي الروم اعدائي فكيف لا اشفق علي رعيتي”، وقال للوالي المسئول عيسي بن منصور: “لم يكن هذا الحادث العظيم الا من فعلك وفعل اعمالك، حملتم الناس ما لا يطيقون حتي تفاقم الامر واضطربت البلاد” واكتفي الخليفه العباسي بتوبيخ الوالي والبسه ثوبًا ابيض وامر ان يطاف به في الشوارع، لكن تلك الروايه محل شك لان المامون نقل الوالي عيسي بن منصور علي افريقيا (تونس) بعد استنزافه لمصر، فحاول فعل نفس الشيء هناك ولكن شعب تونس قاموا بخطف زوجاته وجواريه وجميع ابنائه وقطعوا رؤوسهم وارسلوها له في عده اشوله فارتعب، يزيد من ضعف مصداقيه الروايه السابقه ان هذا الموقف السلبي للخليفه المامون لم يستمر طويلًا بعدما شعر بمدي خطوره البشموريين وتهديد ثورتهم للحكم العربي في مصر، فارسل اخاه المعتصم علي راس جيش قوامه اربعه الاف جندي لاخماد ثوره الاقباط ببر مصر فهاجم المعتصم بعساكره منطقه الحوف في الوجه البحري وقتل اعدادًا من سكانها، وعلي الرغم من وحشيه الحمله وذبح الاطفال والشيوخ وانتهاك الحرمات، لكن الثوره لم تخمد ولم يهدا اهل بشمور، وبالفعل توالت هزائم الجيش العربي علي يد المصريين في اغلب انحاء مصر ما عدا العاصمه (الفسطاط) والاسكندريه، وهنا شعر المامون بالخطر، لم يفكر في الامر مرتين.

فمع خروج الجزائر والمغرب عن سلطانه وتمرد مصر وفارس اصبح بذلك حكمه في مهب الريح، وشعر بعرشه يهتز بشده ووجد نفسه مضطرًا ان يامر افضل قواده العسكرين المدعو “افشين” التركي – الذي يقود جيشًا من الاتراك- بالعوده من برقه ليخمد الثوره في مصر بدلًا من فتح المغرب، والذي كان لتوه نجح في قمع ثوره “بابك الخرمي” في اعلي جبال ايران بعد فشل الجميع في قمعه، وهاجم الافشين البشموريين وكان ذلك في ليله الجمعه الليله التاسعه من محرم، فحاصر منطقه البشموريين فلم ينجح معهم لانهم قاموا بتكتيك جديد بالنسبه لعصرهم فقد كانوا يهاجمون الجيش ليلًا بجماعات صغيره فيقتلون وياسرون الجنود ويعودون الي داخل المستنقعات وهكذا، وحاربوه وقتلوا من جيشه عددًا وافرًا، ثم جرد عليهم عسكرًا اخر فكسروه، وفشل افشين تمامًا في اخماد ثورة البشموريين فلم يقدر عليهم لمناعه منطقتهم المحاطه بالمياه، وكانوا يقتلون كل يوم عددًا كبيرًا من جنوده، مما اضطره ان يكتب الي المامون الخليفه العباسي في هذا الوقت طالبًا امدادات للقضاء علي الثوره التي اندلعت في كل مكان في محاوله للتخلص من نير الطغاه، فتركهم الافشين وذهب ليخمد التمرد في الشرقيه وهناك احدث فيهم مقتله ومذبحه ضخمه قدرها المؤرخون بالمئات ولكنهم لم يذكروا الاعداد بالتحديد، ولكن هذه المذبحه ادت الي استسلام عرب الحوف الشرقي وسكوتهم وانسحابهم من الثوره، ولكن الاقباط بقياده ابن بقيره لم يستسلموا وكبدوا القوات العربيه التركيه خسائر فادحه.

كان المامون في دمشق عندما وصله خطاب الافشين، فقرر الذهاب الي مصر، وكان بطريرك الكنيسه المليكانيه الانبا ديونسيوس الانطاكي في دمشق، فارسل اليه المامون خطابًا يقول فيه: “امكث هنا لتاتي معنا الي مصر لاننا نريد منك ان تذهب كسفير عند البياماي (البشمورين) في مصر السفلى، وتقنعهم بالكف عن القتال والعوده الي الطاعه”، وزحف المامون من بغداد الي مصر علي راس قوه حربيه ضخمه مكونه من ثلاثه جيوش ليحاصر البشموريين وليخمد الثوره التي فشل في اخمادها كل قواده، ووصل الي الفرما (العريش) وهناك قابل ديونسيوس، ويقول ديونسيوس ان الخليفه قال له: “لقد علمت ايها البطريرك بنبا ثوره النصاري المصريين المعروفين باسم البياماي وانهم لم يكتفوا بالخراب الذي اصابهم من جراء هجومنا الاول عليهم، ولولا تسامحي وعدم تفكيري في القضاء عليهم لما ارسلت اليهم رجلًا مثلك، خذ معك المطارنه الذين بصحبتك وسائر المطارنه المصريين واذهب الي مقابلتهم وفاوضهم بشرط ان يسلموا الثوار وياتوا معي ومع جيشي الي المكان الذي اعينه فاسكنهم فيه، فاذا رفضوا فاني ساقتلهم بالسيف.

ولما حدثت الخليفه طويلًا علي اساس ان يخضع البشموريين لحكمه ويتركهم في بلادهم اجاب قائلًا: لا! فليخرجوا من البلاد او يتعرضوا للقتل”، واستدعي المامون الانبا يوساب الاول بطريرك الاقباط، وطلب منه ان يتعاون معه ومع الانبا ديونسيوس الانطاكي في اخماد الثوره، وان يكتب للثوار والمتمردين منشورًا ينصحهم ويحذرهم فيه من مغبه التمرد، فحرر الاثنان رساله للثوار بها نصائح ومواعظ، حثا فيها الثوار ان يلقوا بسلاحهم ويسلموا انفسهم لولاه الامير، محاولين اقناعهم بعدم قدرتهم علي مقاومه الخليفه بالسلاح، ووصفا لهم المصائب التي ستحوق بهم، ونصحاهم ان ينصرفوا عن عزمهم في مواصله الحرب، فاستجاب الاقباط في الوجه البحري لرسائل النصح، لكن البشموريين رفضوا الاستسلام وعقدوا العزم علي مواصله الثوره والقتال، واخذوا يصنعون لانفسهم الاسلحه وحاربوا الخليفه علانيه، ولما اتضح ان هذا الخطاب لم يؤثر فيهم، ارسل لهم يوساب الخطاب تلو الخطاب ملحًا في رجائه، ولكن علي الرغم من كل هذا فقد رفض البشموريون هذه النصائح الاستسلاميه.

وفي الوقت الذي كان الثوار في امس الحاجه للمعونه الماديه والمعنويه حتي يتمكنوا من التخلص من الظلم والاستبداد الاجنبي، اذ بالقاده الروحيين يدعوهم الي الاستسلام، ولا شك ان هذا الموقف من طرف القاده الروحيين كان له اثره البالغ علي الاقباط اكثر من كل جحافل المامون وطواغيته، وكان المشهد مثيرًا للتامل، ففي الوقت الذي كان الافشين يحرق بلاد البشمور ولا يبقي فيها علي احد حيًّا، كان الراهبان الكبيران يحثان الناس علي طاعه الراعي والخليفه تجنبًا للهلاك.

ولما بلغ الياس بهما مداه، ذهب البطريركان بانفسهما الي البشمور، وطلب منهم بطريرك الاقباط يوساب عدم الخروج عن طاعه السلطان والعوده الي الاستكانه، بينما استمع بطريرك الكنيسه الميلكانيه ديونسيوس الي شكواهم من ظلم العمال والتنكيل بهم بدون سبب ونهب محاصيلهم ومتاعهم، وعاد البطريركان الي الخليفه المامون، واقرا بفشلهما في اقناع الاهالي البشموريين بالعوده الي الطاعه، ووصف ديونسيوس مكان البشموريين وحالهم، ونقل اليه شكوي اهالي البشموريين من ظلم العمال ونهب اموالهم ومحاصيلهم قائلًا: “لقد وجدناهم مجتمعين وقد احتموا في جزيره محاطه بالمياه والخيزران والغاب من كل جهه، فخرج الينا رؤساؤهم وتقدموا نحونا، ولما وجهنا اليهم اللوم علي الثوره التي اشعلوها، والمذابح التي اقترفوها، انحوا باللائمه علي من كان يحكمهم، الا انهم عندما علموا بوجوب الخروج من بلادهم، حزنوا حزنًا شديدًا ورجونا ان نبعث الي الخليفه برساله نطلب اليه يسمح لهم بالمثول بين يديه ليقصوا عليه كل ما احتملوه من الهوان”، فطلب منه المامون العوده الي الشام وعدم ذكر هذه الشكوي مره اخري حتي لا يسمعه اخوه المعتصم المتكفل بمصر والشام قائلًا: “لا تفه بمثل هذا الكلام، لان متولي الخراج عينهم اخي المعتصم، ولو سمع ما قلت لما ابقاك حيًّا بمصر ساعه واحده”،، لانه هو الذي يختار متولي الخراج ويحصل ايضًا علي الجزيه والخراج، اي انه المسئول عن المذابح التي ارتكبوها، ولو سمع ذلك من بطريرك الشام ربما قام بايذائه، هكذا تكلم الخليفه المامون، ويبدو ان المعتصم كان الرجل القوي في دوله المامون ولذلك هو الذي تولي الخلافه بعده، واسرع ديونسيوس ليودع البابا القبطي يوساب وعيناه تفيض بالدموع قائلًا: “فلا مكان لقول الحق مع هؤلاء الناس”، ثم سافر عاجلًا، وبعد رحيله بلغ المعتصم الخبر فارسل وراءه من يقتله، ولما لم يتمكن من العثور عليه غضب جدًّا، ولاحقًا بعد ان توفي المامون وملك المعتصم هرب ديونسيوس من انطاكيه حتي عاهده الخليفه الا يقتله فرجع اليها.

اما في مصر فلم يكن الامر يحتاج للكثير من ذهب المعز وسيفه حتي بدا الاساقفه الاقباط التابعون للبطريرك يوساب في ارسال رسائل الحث علي ترك السلاح للثوار، بل وتهديد بعض الاساقفه المؤيدين للثوار والثوره بالحرمان مثل الانبا اسحاق اسقف تنيس بشمال شرق الدلتا، وكان هذا يحدث في الوقت الذي كان الثوار لا يزالون يسيطرون علي اغلب شمال الدلتا وكانوا في حاجه للدعم وليس التثبيط، وفي النهايه لما قدم الاساقفه بانفسهم حاملين معهم هذه الرسائل، انقض عليهم البشموريون وجردوهم من ملابسهم وامتعتهم وطردوهم بعد ان اوسعوهم سبًّا وشتمًا، ولما عاد هؤلاء الاساقفه الي البطريرك وقصوا عليه ما حدث، قرر البطريرك ان يترك هذا الشعب الي مصيره وقد ادي تصرفه هذا الي اعطاء الضوء الاخضر لتعاون بعض الاقباط في العمل كمرشدين في جيش العرب.

فامر المامون ان يجمعوا كل من يعرف طرق ومسالك مناطق البشموريين، فجاء عدد من اهل المدن والقري المجاوره لهم، ومن كل الاماكن ومن اهل تندا وشبرا وسنباط وعملوا مع المسلمين كدليل ليرشدوا جيش الخليفه للوصول الي البشموريين دون المستنقعات التي عجز الجيش علي الدخول اليهم في الغزوات السابقه، فدارت الحرب الضاريه بين جيش المامون واهل بشمور، ويذكر كتاب “الخريده النفيسه” ذلك الحدث فيقول: “واستعدوا لمقاومه من يقصد سلب استقلالهم واذلالهم، وبعد حروب دمويه بينهم وبين عساكر المامون كان النصر دائمًا في جانب الثوار، وقاد الخليفه الجيش باجمعه الي حومه الوغي واصلي نار الحرب.. ولم يدخر من قوته وسعًا حتي اضعف الثوار”، وركز المامون جميع قواته ضدهم واعمل فيهم الجند والسيف واحرقوا مساكنهم وهدموا كنائسهم وقتلوا صغارهم وسبوا نساءهم، وخلال ثلاثه اسابيع كانوا قد سلم لهم البشموريون فهلكوهم وقتلوهم بالسيف، وسالت بحور من الدماء ونهبوهم واخرجوهم من مساكنهم واحرقوها بالنار، فقتل من الرجال ثماني مائه الف وسبي الاطفال والنساء، واما تقي الدين المقريزي فيقول: “انتفض القبط فاوقع بهم الافشين علي حكم امير المؤمنين عبد الله المامون فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذريه، فبيعوا وسُبي اكثرهم، حينئذ ذلت القبط في جميع ارض مصر”، ويضيف: “ان المذبحه كانت عبره لمن لا يعتبر، ولم يجرؤ المصريون بعد هذه المقتله علي الثوره ضد الخلافاء والسلاطين حتي وقتنا هذا”.

ولما راي المامون كثره القتلي امر جنوده بان يتوقفوا عن قتلهم، وامرهم بالبحث عمّا تبقيَ من البشموريين وقادتهم، وامرهم ان يغادروا بلادهم، غير انهم اخبروه بقسوه الولاه المعينين عليهم وانهم اذا غادروا بلادهم لن تكون لهم موارد رزق، فلم يعبا بالامر، وارسلهم علي سفن الي انطاكيه حيث ارسلوا الي بغداد – عاصمه الدوله العباسيه انذاك- وكان يبلغ عددهم نحو ثلاثه الاف، مات معظمهم في الطريق، ومن نجا منهم مكث في سجونها، اما الذين اسروا في اثناء القتال فقد سيقوا كعبيد ووزعوا علي العرب، وبلغ عدد هؤلاء خمسمائه، فارسلوا الي دمشق وبيعوا هناك.

وعندما احرز المامون النصر سنه 832م مكث شهرين في مصر، وقام بجوله استعراضيه بعد قضائه علي الثوره في كل انحاء مصر، وفرض علي القري والمدن ما يسمي بضيافه السلطان وحاشيته، مما كبد فقراء القري المصريه فوق احتمالهم وقدراتهم المنهكه بفعل الجزيه والخراج واستضافه الجند والعمال، لم يكتف المامون بهذه الجوله بل ذهب الي الهرم العتيق محاولًا هدمه حتي يترك ذكري لا يمحوها الزمن، ولكنه لم يستطع بجنوده وعماله الا ان يفتح طاقه صغيره اقل من الشباك.

وقبل ان يغادر مصر قام بمكافاه البابا يوساب بان قلده منصب الرئيس الروحي لجميع كنائس مصر واعطاه سلطات علي كل الكنايس القبطيه في مصر وعلي كل ما يعملون بها، وقد حاولت بعض الكتابات المعاصره تبرير موقف يوساب بقولها ان البطريرك يوساب كان يذوب حسره علي رعيته التي تحالف علي افنائها الطاعون والمجاعه والحرب، وقد تحسر البطريرك علي البشموريين لانهم خاضوا غمار الحرب ضد عدو يفوقهم في العدد والعتاد وتعرضوا للموت بحكم ارادتهم، لكن يبدو ان الامر لم يتعد مجرد الكلام وفقط.

ولم يكن ذلك بالامر الغريب علي رؤساء الاقباط الروحيين، فقد سبق وان حدث الامر ذاته تقريبًا بين عمرو بن العاص والبابا بنيامين الاول، الامر الذي يفسره د. جاك تاجر في كتابه اقباط ومسلمون قائلًا: “ان الاقباط لم يحركوا ساكنًا بعد مقتل عثمان والانشقاق الذي حدث بين انصار علي بن ابي طالب واعدائه، وقد اثار هذا الموقف دهشه المستشرقين، ولكن الاكليروس القبطي – وكان وقتئذ هو الذي يمكنه اشعال نار الثوره- كان راضيًا كل الرضا عن الاحتلال العربي، لان عمرو اكرم بطريركهم كل الاكرام واحاطه بالاجلال والاعتبار وطلب اليه نصائحه وبركته، وامر باعفاء رجال الدين من الجزيه”.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل