المحتوى الرئيسى

اليسار الديمقراطي العربي وبيارق الثورات الملونة

06/17 21:55

اليسار العربي.. التباس في التعريف

برنامج اليسار.. قوه تغيير ام اعتراض؟

يتوالي بشكل لافت بروز "احزاب يساريه ديمقراطيه" علي المسرح السياسى العربي, ومنذ اواسط العقد الاخير من القرن الماضي بدات هذه الظاهره تتوسع نتيجه انشقاق احزاب شيوعيه عريقه، او توحد تنظيمات ماركسيه، او حتي تجميع انصار في بوتقه علاقات عامه ترفع رايه اليسار الديمقراطي. ومبرر الالتفات الان نحو هذه الظاهره، استعجال الولايات المتحده تشكيل موازين قوي داخليه ترفع بيارق "الثورات الملونة" في الدول العربية، وتفتح الباب امام مشروع الشرق الأوسط الكبير الاميركي.

اليسار العربي.. التباس في التعريف

عندما بدانا في استعمال مفهوم "اليسار" في مطلع التسعينات، كانت دلاله المفهوم تضمر احساسا بخطوره التغير التاريخي الذي اصاب النظام الراسمالي الدولي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وزوال الحكومات الشيوعيه في وسط اوروبا والبلقان.

وكذلك بعد نشوب حرب الخليج الثانيه وانطلاق "مؤتمر مدريد", كان الازدهار السياسي/الايديولوجي لـ"اليسار" الذي ميز مرحله الحرب البارده، قد ولي مع سقوط "النموذج الاشتراكي"، وامست نهايه تلك الحرب/المرحله منعطفا فاصلا في تاريخ احزاب وتنظيمات اليسار العربي.

لم يكن ثمه اهتمام حينذاك، باعاده تعريف ماهيه "اليسار" في الظروف الدوليه والعربيه الجديده, كانت الاسئله المطروحه تعبر عن الصدمه من هول التغير التاريخي، اكثر ما تشكل علامه وعي بطبيعه التغير ومعرفه باسبابه وتحوطا لنتائجه.

عندما بدانا في استعمال مفهوم "اليسار" في مطلع التسعينات، كانت دلاله المفهوم تضمر احساسا بخطوره التغير التاريخي الذي اصاب النظام الراسمالي الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق 

"في تلك اللحظه الانتقاليه، طوي مفهوم "اليسار" رغبه غامضه في تجاوز الخلافات الحزبيه القديمه بين الاحزاب والتنظيمات الشيوعيه: الماركسيه و"المتمركسه"، ناهيك عن تجاوز الخلافات الايديولوجيه مع بعض القوي القوميه وحتي الاسلاميه ايضا. لكن ايا من تجمعات "اليساريين" السالفين لم يك بقادر علي ادعاء تصور عن خطوط برنامج المستقبل.

ان قسطا من ذاك الغموض كان حميدا بالفعل, فقد نشب الجدل الفكري/السياسي في اوجه الرؤيه "اليساريه" كافه، بما فيها المحظورات "الصنميه" المعروفه.

في هذا الجدل، كان ثمه من راي ان الشيوعيه، بخلاف الاشتراكيه، هي مجرد نظره خلاصيه لا تمت بصله الي الفكر المادي التاريخي، ولا يمكن ان تشكل مشروعا تاريخيا يمكن بلوغه. بالمقابل، ثمه من تمسك بـ"التمذهب" المالوف، حتي عجز عن اتخاذ صفه ليطلقها علي تنظيمه الحزبي، غير الصفه الشيوعيه (نقلا عن منشورات حزب العمل الاشتراكي العربي والحزب الشيوعي اللبناني).

ما بين هذين الاتجاهين غرق الكثيرون في التفكير باجتراح "حلول نظريه" خامده لازمه سياسيه لاهبه، وراحوا يبحثون عبثا، في اسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، واستكمال تاصيل الماركسيه، بحثا دفع ببعضهم الي مماهاه صوره ابن خلدون بصوره كارل ماركس. (نقلا عن منشورات "الحزب الشيوعي السوري").

في عتمه هذا الغموض، لمع قدر من الثبات الفكري/السياسي في رؤيه عدد من القوي اليساريه العربيه. هذا اللمعان تمثل في تاكيد هذه القوي علي عجز النموذج الراسمالي عن حل التناقضات الاجتماعيه/الدولتيه في الأقطار العربية.

وتعرض سياسه التبشير بالالحاد الي نقد عاجل، لم يعترف بالمكانه المركزيه للاسلام الحنيف في الاجتماع السياسي العربي وحسب، بل صار يفتش عن القواسم المشتركه مع الاسلامية العربيه. في تلك العتمه ايضا، نودي باولويه الروابط القومية العربية ضد مشاريع الشرق أوسطيه والمتوسطيه، وظهر التزام واسع برفض التطبيع مع اسرائيل، ودعم الانتفاضه الفلسطينيه.

كان الجدل "اليساري" حول هذه الثوابت حيويا وواعدا, فالسياسي اخذ يتقدم علي الايديولوجي، تقدما كان سيقود حتما الي اعاده تعريف "اليسار" العربي علي ضوء المهام التي تفرضها المرحله الجديده. بيد ان هذه القفزه النوعيه لم تحدث.

برنامج اليسار.. قوه تغيير ام اعتراض؟

العلاقه بين "التحرر" و"التحديث" يمكن ان تفشي سر التحالفات المبكره التي عقدت في الاربعينات بين الاسلاميين والشيوعيين في مصر وسوريا وغيرها

"طيله المرحله السابقه علي ولاده "النظام الدولي الجديد" في جحيم حرب تحرير الكويت عام 1991، كان "اليسار" العربي يستفيد من خاصتين وسمتا الاجتماع السياسي العربي، وعبرت عنهما الحركه القوميه العربيه، انذاك، وهما: اراده التحرر الوطني واراده التحديث الاجتماعي.

وهاتان الخاصتان هما اللتان جعلتا من احزاب وتنظيمات "اليسار" قوه تحديث اجتماعي/دولتي علي المستويين الوطني والقومي. وانه لمن قبيل التبسيط الساذج تفسير الازدهار او الانحسار السياسي/الايديولوجي "اليساري" في تلك المرحله، بالعلاقه او "العماله" التي جمعت "اليسار" العربي الي الاتحاد السوفياتي السابق.

بهذا المعني، كان "اليسار" العربي في تلك المرحله وطنيا ديمقراطيا، اذ كانت مهام التحرر الوطني -ولا زالت- موثوقه الي مهام التحديث الاجتماعي/الدولتي.

وفي هذه العلاقه الجدليه (الديالكتيكيه) بين "التحرر" و"التحديث"، تحدد، دائما، جوهر البرنامج "اليساري" العربي، بغض النظر عن الاداء الهامشي لدي احزاب وتنظيمات "اليسار" وارتباطها الدوني بالمرجعيه السوفياتيه السابقه.

وللاحاطه، فان هذه العلاقه بين "التحرر" و"التحديث" يمكن ان تفشي سر التحالفات المبكره التي عقدت في الاربعينات بين الاسلاميين والشيوعيين في مصر وسوريا وغيرها.

هذه الطبيعه الوطنيه-الديمقراطيه المركبه لدي "اليسار" العربي، لتوضح ان الجدل الفكري/السياسي الذي اندلع في اوساطه مع ختام الحرب البارده، كان متحدرا من صميم برنامج المرحله السابقه.

سوي ان عاملا جديدا كان قد بدا يشق طريقه في وقت ما من اواسط التسعينات ببطء، ليحيل صدمه سقوط الشيوعيه الي زلزال فكري/سياسي/تنظيمي بعثر الصفوف "اليساريه" وشرذمها. هذا العامل تمثل في تحلل معظم النخب "اليساريه" القديمه من التزاماتها السياسيه/الايديولوجيه السالفه.

ويوفر لبنان "مختبرا" جيدا لمعاينه هذا التحلل، الذي تلاقي مع ظروف دوليه وعربيه -ولبنانيه طبعا- جديده، حولت "اليسار" القديم الي ضرب من الرميم السياسي/التنظيمي الهامد.

منذ بدايه عقد التسعينات بدا الاجتماع السياسي العربي يهتز بعنف امام رياح العولمه العاتيه: ادماج الاقتصادات العربيه وتكييفها وفق شروط القوي الراسماليه المهيمنه في السوق الدوليه. تخلع الفضاء العربي امام ضغوط الاعلام والمعلومات والاتصاليه. فشل "عمليه مدريد" في تهدئه نيران العولمه العسكريه التي تديرها اسرائيل في فلسطين ولبنان، ووقوع العراق تحت الحصار المميت.

زاد من شده اخطار العولمه توجه الولايات المتحده انئذ للتفتيش عن "عدو بديل" يبرر الهيمنه الاميركيه علي النظام الدولي بعد تلاشي "امبراطوريه الشر" الشيوعيه. كان الظلاميون الجدد الاميركان يروجون لنظريات هنتغتون وفوكوياما عن "صراع الحضارات" "ونهايه التاريخ"، ممهدين السبيل لاصطناع "العدو البديل" في الوطن العربي والعالم الاسلامي.

في هذه الظروف الجديده بالفعل سارعت اكثريه النخب "اليساريه" الي التخلي عن البرنامج الوطني ـ الديموقراطي برمته، ودفعه واحده، قبل معاينه طبيعه المرحله الجديده، وما اذا كانت قد القت بهذا البرنامج وسط انقاض التاريخ.

منذ بدايه عقد التسعينات بدا الاجتماع السياسي العربي يهتز بعنف امام رياح العولمه العاتيه, وزاد من خطورتها توجه الولايات المتحده انئذ للتفتيش عن "عدو بديل" يبرر الهيمنه الاميركيه علي النظام الدولي

"ويبين "المختبر اللبناني"، ان هذا التخلي، الذي لم يات دفعه واحده، اظهر اندماج النخب "اليساريه" النشطه في ثنايا المنظمات غير الحكوميه، الدوليه اوالمحليه ذات البرنامج الدولي، وان هذه النخب قد دخلت في سياق سياسي/ايدولوجي، مؤسسي، اخذ في تحويلها الي عناصر اعتراض علي النظام الدولي وتفرعاته الاقليميه، ينحصر "برنامجها" السياسي/الايديولوجي في تخفيف اثار العولمه العسكريه والسياسيه والاقتصاديه، خصوصا برامج التكييف الهيكلي التي كانت تنفذها الحكومات اللبنانيه في ذلك الحين، بالتوافق مع، او بالاذعان لمؤسسات العولمه الماليه الدوليه.

ونتيجه هذا التحويل تكف تلك النخب "اليساريه" السابقه عن كونها عناصر تغيير لهذا النظام وتفرعاته، اذ انها تنقطع عن دورها في انجاز مهام التحرر الوطني ومهام التحديث الاجتماعي/الدولتي، وتصبح "شريكا نقديا" في المؤسسات المختلفه لقوي العولمه الراسماليه.

(راجع مقال Yves DEZALAY et Bryan GARTH، عن تواطؤ النخب المعولمه في جريده LE Monde Diplomatique، عدد يونيو/حزيران 2005).

وسط هذا السياق التكويني الجديد، الذي تضافرت لاطلاقه قوي دوليه وقوي عابره للدول جباره وهائله، ظهر البرنامج "اليساري الديمقراطي" العربي.

من ناحيه الجوهر تم في هذا البرنامج استبدال "الايمان" الشيوعي بـ"الايمان" الديمقراطي، من دون تحييث القطيعه العبثيه التي حدثت مع برنامج المرحله السابقه.

كان "اليساريون الديمقراطيون" قد بادروا علي الفور الي التاكيد، ان انشطتهم في مواجهه "اليات نظام السوق المنفلته" لا يمكن ان "تنتهك ضرورات النمو الاقتصادي" الذي تتطلع اليه الراسماليه النيوليبراليه ومؤسسات العولمه الماليه (راجع "مشروع الوثيقه التاسيسيه لحركة اليسار الديمقراطي" في لبنان).

وهذا التعهد السياسي/الايديولوجي بالحرص علي "النمو الاقتصادي"، تقاطع مع ايديولوجيا "الامركه" المطالبه بتطبيق نموذج "دوله القانون والديمقراطيه والسوق"، كقيمه اميركيه تروج دوليا من بين قيم اميركيه اخري تخدم استراتيجيه الامن القومي الاميركي، كما كشف عن رفض "يساري ديمقراطي" واضح لمناهج وخطط التنميه الشامله الدولتيه/الشعبيه.

هذا التقاطع لم يقتصر علي المستوي الاقتصادي وحده، بل شمل الجانب السياسي ايضا. اذ قرن "اليسار الديمقراطي" دعوته لمواجهه "خطر النيوليبراليه" بالدعوه لمواجهه خطر "التيارات الماضويه" الدينيه في البلدان العربية ايضا (راجع ايضا "مشروع الوثيقه التاسيسيه لحركه اليسار الديمقراطي" في لبنان).

هذه الازدواجيه في تعريف الخصوم السياسيين كانت تلائم ايديولوجيا الامركه بالفعل، لا سيما بعد 11 سبتمبر/ايلول. اذ ان قيام "يساريين ديمقراطيين" بتعبئه الراي العام في مواجهه "الهجوم الاصولي الظلامي" (نقلا عن منشورات لـ"حزب الطليعه الاشتراكي الديمقراطي" في المغرب)، كان يعزز، بوعي او من دون وعي، مطلبا ملحا للسياسه الاميركيه الحاليه.

وهذا المطلب يتمثل في رغبه اداره جورج بوش الابن والظلاميين الاميركان في تهميش النزعه الاصلاحيه في الاسلاميه العربيه، وفي الحركه القوميه عموما، مقابل تضخيم قوه تيار التكفير في المجتمعات العربيه، بشكل منافق، يجعل من دور هذا التيار ارهابا دوليا فظيعا، يبرر ظلاميه المحافظين الجدد وطغيان النظام الامبريالي الاميركي.

تواطؤ النخب المعولمه مع ديناميات الامركه يشرح معني "تصنيم" بعض "اليساريين الديمقراطيين" لـ"الديمقراطيه السائده في العالم الراسمالي"، مقابل ادانه مجتمعاتنا لانها "لم تلج" الديمقراطيه الراسماليه حتي اليوم

"هذه التقاطعات بين "اليسار الديمقراطي" العربي وديناميات الامركه، ليست عرضيه، ولا تشكل تكرارا لاخطاء "اليسار" القديم وبقيه اجنحه الحركه القوميه التي كانت تقدم الخلاف الايديولوجي علي الانسجام السياسي، بل هي جزء من "تواطؤ النخب المعولمه" مع ديناميات الامركه، رغم ما كان لبعض هاتيك النخب من ماض "يساري" ناصع ونظيف (راجع ايضا مقال DEZALAY et GARTH المشار اليه اعلاه).

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل