المحتوى الرئيسى

حمّور زيادة يكتب: حكاية حُسنة بنت قنديل وما جرى بسببها (5-6)

06/16 11:41

(ترجع خصومه الشيخ محمد ود دياب والشيخ القريشابي الي خمسين عام مضت. حين استفتاهما – وهما بعد شباب – ملك سنار في امر جاريه طلقها.

افتاه القريشابي بالفقه، ونطق له ود دياب بحكم اهل الباطن.

ثم اصبح القريشابي بعد سنوات فقيهاً ثرياً من أهل الظاهر، بينما صار ود دياب ولياً شهيراً.

وتباعد الشيخان حتي اتت حُسنه بنت قنديل، بعد ان طلقها القريشابي، فوهبت نفسها للشيخ ود دياب. مقابل ان ينتقم لها من القريشابي الذي رفض ان يدفع لها صداقها.)

قالت ميمونه بنت الشيخ خوجلي لنفسها:

– ماذاك الصداق الذي سيضيع مهابه الشيخ محمد؟ اهو ذقن الباشا؟

بثت سؤالها للشيخ محمد ود دياب لما رجع بعد ساعات. امسكت به ميمونه قبل ان يدخل حجره حُسنه بشوقه. دخلت به حجرتها واغلقت الباب. كان قلقاً مما تريد. لا يقدر ان يسمع اي شكوي من سلوك زوجه الصغيره. يريد ان يدخل اليها فيطفئ شوقه الملتهب. كان متلهفاً كصبي. حبها به كهوس اجرب بالهرش. قال لميمونه بصبر نافذ:

– اجلي ما لديك للصباح. جئت من سفر طويل وانا متعب.

– يا سيدي اتي المضوي وانت غائب.

– نعم. جاء يحمل اليك رداً من الشيخ عبد المحسن.

– لم يكتبه يا سيدي. بل القاه اليه شفاهه.

– اخبرني اولاً بصداق حُسنه الذي كتمته عني.

– ما كتمت عنكِ شيئاً. انا اخبرتك كل خبرها.

– لكنك لم تخبرني بقيمه صداقها الذي سيجر علينا ما نحن في غني عنه. كم هو؟ ان كان شيئاً يمكننا دفعه لها فلنفعل ونتقي شر النزاع.

– الحق حق يا ميمونه. كثر او قل.

– اخبرني فقط كم هو، ثم نقرر بعد ذلك.

– وحق ابيك، وحق الشيخ الجيلاني لا عرفت ولا سالت. انما هو حق حُسنه اجبرها ان تنزل عنه ليطلقها. وما كنت لارد صاحب مظلمه ولو في خيط دمور.

– بل ما كنت تترك حق حُسنه ولو كان بصقه في كف.

– لا احب ان اسمع هذا الكلام.

– وما كنت تترك ثاراً عند الشيخ عبد المحسن يحول بينك والكمال.

– لا احب ان اسمع هذا الكلام.

– يا سيدي لو طبت نفساً لوهبك ربك ما تتمني. فمذ كم وانت تطلب احياء الموتي وعلم الغيب ويردك ربك؟ فلماذا تفسد علي نفسك كمال الولايه بصغير امر الدنيا.

– لا احب ان اسمع هذا الكلام يا ميمونه، فحسبك. قولي ما اخبرك المضوي.

اعادت علي مسامعه ما اخبرها به المضوي. نطقته ببطء كانها ترجمه به حرفاً حرفاً.

الشيخ محمد كان يتلوي مع كل كلمه يسمعها. ثم انتفض صائحاً وقد طاش صوابه:

– اقال يخرجني من مسجدي ككلب السقا؟

– دعيّ قريش يهددني! هذا الذي لا يعرف نسبه ويدعي الشرف يتوعدني ان يخرجني ككلب السقا؟ لا اصبحت ان بات في مسجد الباشا.

قفز الي باب الحجره ففتحه وافلت خارجاً. جرت ميمونه خلفه تناديه لكنه دخل حجره حُسنه مسرعاً واغلق الباب. وقفت ميمونه امام الباب تطرقه. وتناديه متلطفه:

– اهدا يا سيدي. تعال كلمني لنفكر.

لكن صوته اتاها من وراء الباب يقول بغلطه:

– ارجعي لحجرتك يا امراه. مضي امر الله.

انفتح الباب فهمت بمواصله الكلام لكنها رات حُسنه تسد الفرجه. قالت لها في جفاء:

– الشيخ متعب فدعيه الان.

تراجعت ميمونه الي الوراء وحاولت النظر من خلف جسد حُسنه الذي يسد الباب. صاحت بعلو صوتها لاول مره منذ تزوجت:

– يا سيدي. امر مر من خمسين عاماً. اخطات فجبر الله خطاك وغفر لك. فدع ما حدث.

ازاح الشيخ محمد حُسنه عن الباب وبرز الي ميمونه صارخاً:

– وحق ابيك لاصيبنك بدعوه لا تخطئك. لا تعودي الي ذكر ذلك.

– المراه لا تخذل زوجها. لا تخطئه. قلبي ساخط عليك يا ميمونه بنت خوجلي ما بقيت.

وقبل ان تجد فرصه للكلام تراجع الي الحجره وصفع الباب بقوه. ثم سمعت صوت الرتاج الخشبي يغلق بعنف.

رجعت الي حجرتها مذهوله. لاول مره ترفع صوتها علي زوجها لبضع واربعين عاماً.

تزوجها وهي في الثانيه عشر من عمرها. اتاها الحيض وهي في كنفه. وفي اول ليله رات الدم فزعت وخشيت ان يغضبه ما نزل منها. لكنه احتضنها في سرور وقبّل راسها قائلاً:

– يا حبيبتي من اليوم ستكون الحياه غير الحياه.

احسن معاشرتها وعرفته رجلاً ليناً طيباً لا يقول الا خيراً. ما سمعته يدعو بشر علي احد قط. كان ان اتاه مظلوم يطلب منه الدعاء علي من ظلمه يبتسم ويقول:

– فهل لك في خير من ذلك؟

ثم يدعو للظالم بالهدايه، وللمظلوم بالانصاف وشفاء الصدر.

كيف تحوّل الولي السبعيني الي غلام نزق يعميه الانتقام عما سواه؟ اي شر بثته تلك الصبيه حُسنه في الشيخ مستجاب الدعوه؟ الرجل الذي يمشي علي الماء غرق في بحر حُسنه بنت قنديل ! من اي باب شر دخلت الصبيه حياتنا؟

– لا اله الا الله ! ما هذا الشر الذي افكر به.

استغفرت ربها مراراً حتي هدات. مسحت دموعاً سالت علي غفله منها. قالت لنفسها:

– البنيه مسكينه. صغيره ونزقه. لم تكسبها الايام حكمه بعد. وما عرف قلبها درب الله. حوجتها لدعاء صادق اكثر من استحقاقها للعتاب.

جرّت ثوبها ولفته حول راسها. مشت نحو فروه الصلاه ووقفت بين يدي الله. نوت ان تصلي لله ليلتها وتدعو لحُسنه بنت قنديل في سجودها. تطلب من الله ان يهدئ سرها ويزن طيشها.

وكانت حُسنه في حجرتها تتمادي في ذاك الطيش الي مداه. صاح بها الشيخ محمد ود دياب:

– هاتي لي فروه الصلاه.

فجرت دون ان تمس قدماها الارض تحضرها مستبشره. قالت في سعاده:

– ستدعو عليه يا شيخ محمد؟

– لاصيبنه بدعاء يتصاغر جواره دعاء نوحِ علي قومه.

زغردت بصوت خافت وملات ابتسامتها وجهها وهي تفرش الفروه:

– بارك الله فيك. يا جابر كسر المستضعفات.

وقف الشيخ محمد علي الفروه بعجل وقلبه يصخب بالغضب. وما ان كبّر الله حتي غاب عن الدنيا. طارت من حوله جدران الغرفه واختفت حُسنه.

راي نفسه بوادٍ مجدب. ما به الا شجيرات طندب يابسات. هتف:

– يا رحمن يا مغيث. برحمتك استغيث.

سمع المنادي يناديه من خلفه.

– يا محمد ود عيشه.

التفت منزعجاً فما راي منادياً. صاح:

– انا الشيخ محمد ود دياب.

لكن الصوت اتاه من خلفه.

– يا محمد ود عيشه.

استدار مسرعاً فما راي احداً. صاح:

– انا الشيخ محمد ود دياب. تاج العارفين.

– يا محمد ود عيشه.

التفت خلفه لكنه ما راي احداً.

– انا الشيخ محمد ود دياب سراج الاولياء.

– اناديك باسمك الذي تنادي به يوم القيامه، يوم يُعرض عمل الخلائق.

نظر ناحيه الصوت فراي الخضر عليه السلام بعيداً بين السماء والارض.

– يا صاحب المنزله! ايها العبد الصالح! العبد المسكين محمد بين يديك.

– انت يا محمد ود عيشه تريد ان تدعو ربك دعاءً ما دعاه نوح علي قومه؟

– يا سيدي انا اغيث المظلوم.

– يا محمد ود عيشه عبد المحسن عبد ما لك به قدره.

– اطلق يدي يا سيدي.

– يا محمد ود عيشه عبد المحسن عبد ما لك به قدره.

– امنحني دعوتي يا سيدي.

– يا محمد ود عيشه فان نلت دعوه علي عبد المحسن يحرمك ربك بعدها الاستجابه.

صمت الخضر. وقف الشيخ محمد يعلق بصره به ينتظر رده.

فوجئ بالخضر الي جواره يكلمه. مشي معه صامتاً.

– انا مامور ان اسالك. هل تريد ان تدعو عليه بالغرق ام الحرق ام المرض.

صرخ الشيخ محمد في جنون:

لم يعرف كم مشي ولا الي اين في جدباء ممتده. حتي وقفا علي عين ماء. قال له:

– ادع دعوتك. ثم اشرب من هذه العين تطفئ نار قلبك. بعدها لا يكون في قلبك لعبد المحسن موجده. وبعدها لا يكون لك عند ربك دعوه مستجابه.

– ودعوتي علي عبد المحسن؟

رفع الشيخ كفيه هامّاً بالدعاء. لكن الخضر اشار اليه.

نظر الي عينه ملياً. قال:

– اراك عند حوض النبي يا محمد ود عيشه.

المره الاخيره التي يلتقي فيها الخضر. لن يراه بعدها. ما احس بتلك الفاجعه الا حين استفاق والفي نفسه جالساً علي فروته وقد القي السلام من صلاته. حُسنه تقف عند راسه. وجهه مبلل بالدموع التي تسيل علي لحيته. وفي فمه طعم الماء كشهد الجنه.

– تقبّل الله منك يا شيخ محمد.

– تقبّل الله يا حُسنه.

– ان يُسلط عليه النار فيجعله ايه.

– وقاك الله شر النار يا شيخ محمد.

قام من فروته متكاسلاً. استند عليها وقال:

– قوديني الي الفراش. لا اجد قدره للوقوف.

امسكت ساعده واحتوته بذراعها وذهبت به ناحيه الفراش. تمدد عليه منهكاً. قال وهو يلهث:

– سانام ما شاء لي ربي. لا توقظيني.

– صلاه الفجر يا سيدي.

– ليقض الله امراً كان مفعولاً.

نام الشيخ محمد ود دياب نوماً طويلاً بلا احلام. اغمض عينيه. احس بمرور الزمن ثقيلاً كريهاً علي روحه. لكنه لم ير سوي الظلام التام. وحين فتح عينيه كانت الشمس قد قاربت الزوال. نهض متثاقلاً. قال لحُسنه:

– خذيني الي حجره ميمونه.

لم تجادله. اعانته ومشت به الي الحجره الاخري. فزعت اليه ميمونه. تناولته منها وهي تردد:

– لا باس عليك يا سيدي. ما فيك بالجبل. ما فيك بالخلاء والحجر.

– قوديني الي الفراش يا ميمونه. انا متعب.

ارتمي علي فراش ميمونه وسالت دموعه في صمت. لم يقدر علي النهوض لدرس ولا صلاه. حتي حاجته بات يقضيها في مكانه بمعونه ميمونه. اربعه ايام مرت، احتجب عن تلاميذه وحيرانه. اوصي المضوي بالتدريس. وفي اليوم الخامس جاء الخبر من المدينه.

حمله العابرون كشائعه في اول النهار. ثم اكده غيرهم في منتصفه. وبعد المغرب جاء اخرون باليقين.

دخل المضوي بالحكايه الي سيده. وقف بين يديه، وخلفه تقف ميمونه. اما حُسنه فقد علمت ان في الامر شيء فجاءت متسلله ووقفت غير بعيد تسمع.

– قالوا يا سيدي ان الشيخ عبد المحسن ود حمد نام قبل ايام دون ان يطفئ السراج. فبعث الله فاره فضربته بامر الله. انكفا السراج والشيخ نائم.

قطع المضوي حديثه. نظر الي شيخه ساكناً يسمع كان الامر لا يعنيه. فقط اوما بعينيه واشار اليه ان اكمل.

– شبت النار في حجرته. وامسكت بزينه القماش والكتب. سمع الفقرا هسيس النار وراوها من خلف الخشب فاندفعوا لنجدته. كسروا الباب لكن النار حجزتهم خارجاً. من بين اللهب راوا الشيخ عبد المحسن يصرخ والنار ممسكه بثيابه. كان يصرخ حزناً علي كتبه النوادر. صاحوا به وقد فرحوا انه بعد حي. نادوه لياتي ناحيه الباب. لكنه ظل يصرخ حزناً حتي غيبته عنهم النار والدخان. هرعوا بالماء لكن الحريق كان يعجزهم مغالبه. ما قدروا ان يفعلوا شيئاً حتي ظهر الصباح وهدات النار بعد ان اتت علي الحجره وما بها من كتب.

صاحت حُسنه من خلفه بلهفه:

صمت المضوي. وقالت ميمونه بوجع:

– ليرحمنا الله جميعاً يا ام الفقرا. للخبر بقيه.

ابتلع المضوي ريقه، وقال في خفوت:

– في الصباح حين هدات النار مشي اليهم من وسط الرماد الاسود الشيخ عبد المحسن سليماً كمئذنه جديده. ما مسه من النار الا شيء يسير في طرف ثوبه. خرج حزيناً لا يقول الا ” لله الامر. ضاعت كتب الفقهاء ومحصول المحدثين “. كان يحمل في يده كتيباً صغيراً ما بقي غيره من النار. رسائل الحلاج الحسين بن منصور. اما الفقرا فطاش بالسرور عقلهم. وذاع الخبر في المدينه، واتاه اهل الله عجلين فالبسوه المرقّعه بامر الخضر.

رفع الشيخ محمد بصره بحده. بدا مصدوماً. قال بصوت واهن:

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل