محمد جعفر يكتب: سيكولوجية الاستبداد وأدواته | ساسة بوست
منذ 11 دقيقه، 14 يونيو,2015
من العجيب ان يقع الانسان الذي خلقه الله حرًّا كريمًا تحت نير الاستبداد والطغيان ولا يتالم لذلك فتحثه طبيعته السويه علي التخلص من التشوه النفسي الحادث جراء البيئه غير المواتيه لفطرته واصل خلقته بالثوره والتغيير ومن اعجب العجب ان يدخل ذلك الانسان في العبوديه طوعًا دون اجبار بل يكره الحريه وينفر منها ويقلق عند اقترابها حتي يصبح ذلك الخوف ظاهرة اجتماعية جديره بالملاحظه والدراسه يكتب فيها الباحثون مقاربات فلسفيه ونظريات اجتماعيه.
اريك فروم كتب كتابًا بعنوان: “الخوف من الحريه” ناقش فيه “ميكانزمات” الهروب من الحريه وحاول ان يحلل ذلك في اطار التحليل النفسي والاجتماعي.
(ايتيان دو لا بويسي) المفكر والاديب الفرنسي تناول في كتابه الرائع (مقاله: العبوديه الطوعيه)، طبيعه الانسان عندما يالف الاستبداد، وكيف تصبح الحريه نوعًا من الهلع الرهيب الذي يهرب منه المرء باقصي سرعه، ليعود بكل رضا وقناعه بوضع القيد علي رقبته، يلعق اقدام الجلاد.
يقرر ايتيان ان: “الشعب الذي يستسلم بنفسه للاستعباد يعمد الي قطع عنقه، والشعب الذي يكون حيال خيار العبوديه او الحريه؛ فيدع الحريه جانبًا وياخذ نير العبوديه هو الذي يرضي بالاذي؛ بل يسعي بالاحري وراءه” ثم يمضي صارخًا يستنهض الشعوب المستكينه حتي الثيران تحت عبء النير تئن والطيور في الاقفاص تنوح وتئن.. اه يا الهي ماذا يمكن لذلك ان يكون واني لنا ان نعرف كيف ذلك يدعي؟ اي بشر هو هذا؟ اي فسق بل اي فجور رهيب؟ ان تري عددًا لا يحصي من الناس لا يعطون فقط بل يخنعون ولا يساسون بل يمتهنون. اموالهم ليست لهم، اهلهم ليسوا لهم، اولادهم ليسوا لهم، حتي حياتهم ليست لهم.
يتعرضون بوحشيه لاعمال السلب والفجور والعنف لكن ليس علي يد جيش ولا من قبل معسكر من البرابره، وانما علي يد فرد واحد، وليس ذلك الرجل بهرقل او شمشون، بل هو من اشباه الرجال وغالبًا ما يكون الاكثر جبنًا والمخنث في الامه، فهو لم يتنشق رائحه بارود المعارك بل لم يكد يطا الرمال في ساحه المباريات، ولا تتوفر له القدره علي قياده الرجال.
ويقسم الطغاه الي ثلاثه انواع:
الاول: يسود عبر انتخاب الشعب.
اما الذين اغتصبوا السلطه بقوه السلاح فيتصرفون بها كانهم في بلاد قاموا بغزوها اما الذين ولدوا ملوكًا فليسوا علي العموم افضل مطلقًا فالذين ولدوا وترعرعوا في حضن الطغيان يرضعون الطغيان طبيعيًّا مع الحليب وينظرون الي الشعوب الخاضعه لهم نظرتهم الي عبيد بالوراثه، حينما يتحوّل احد الملوك الي طاغيه فان كل ما في المملكه من شرّ ومن حثاله، يجتمعون من حوله ويمدّونه بالدعم لينالوا نصيبهم من الغنيمه.. وحين اتفكر في هؤلاء الناس الذين يتملقون الطاغيه من اجل ان ينتفعوا بطغيانه وبعبوديه الشعب، يتولاني الذهول حيال شرّهم بقدر ما تنتابني الشفقه حيال غبائهم، فهل يعني تقرب المرء من الطاغيه سوي ابتعاده عن الحريه، وبالتالي ارتمائه كليًّا في احضان عبوديته”.
غير ان المستبدين لهم منطقهم التبريري الذي يكون نابعًا من ذواتهم او من الذكاء الجمعي لدي اعوانهم الخلص وكهنتهم المتملقين.
عبد الرحمن الكواكبي يمضي في كتابه “طبائع الاستبداد” فيصف انتكاسه الانسان علي انها احد تجليات الاستبداد بقوله: “قد يبلغ فعل الاستبداد بالامه ان يحوِّل ميلها الطبيعي من طلب الترقّي الي التسفُّل، بحيث لو دُفِعَت الي الرِّفعه لابت وتالَّمت كما يتالَّم الاجهر من النور، واذا اُلزِمَت بالحريه تشقي، وربما تفني كالبهائم الاهليه اذا اُطلِق سراحها. عندئذٍ يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام علي امتصاص دم الامه، فلا ينفكُّ عنها حتي تموت ويموت هو بموتها”.
يقول: “الاستبداد يقلب السير من الترقّي الي الانحطاط، ومن التقدم الي التاخر، من النماء الي الفناء، ويلازم الامه ملازمه الغريم الشحيح، ويفعل فيها دهرًا طويلًا افعاله التي تبلغ بالامه حطّه العجماوات فلا تهتم بغير حفظ حياتها الحيوانيه فقط، بل قد تبيح حياتها هذه الدنيئه ايضًا الاستبداد اباحهً ظاهره او خفيّه. ولا عار علي الانسان انْ يختار الموت علي الذل، وهذه سباع الطير والوحوش اذا اُسِرَت كبيره قد تابي الغذاء حتي الموت.
الاستبداد يتصرّف في اكثر الاميال الطّبيعيّه والاخلاق الحسنه، فيضعفها او يُفسِدُها او يمحوها فيجعل الانسان يكفر بنعم مولاه، لانّهُ لم يملكها حقّ الملك ليحمده عليها حقّ الحمد، ويجعلهُ حاقدًا علي قومه لانّهم عونٌ لبلاء الاستبداد عليه، وفاقدًا حبّ وطنه، لانّهُ غير امن علي الاستقرار فيه ويودّ لو انتقل منه، وضعيف الحبّ لعائلته، لانّهُ ليسَ مطمئنًّا علي دوام علاقته معها، الاستبداد يسلب الرّاحه الفكريّه فيضني الاجسام فوق ضناها بالشّقاء، فتمرض العقول ويختلّ الشّعور علي درجاتٍ متفاوته في النّاس. ومن اينَ لاسير الاستبداد ان يكون صاحب ناموس وهو كالحيوان المملوك العنان، يُقادُ حيثُ يُراد، ويعيش كالرّيش يهبُّ حيثُ يهبُّ الرّيح، اسير الاستبداد لا نظام في حياته فلا نظام في اخلاقه، قد يُصبح غنيًّا فيضحي شجاعًا كريمًا، وقد يمسي فقيرًا فيبيت جبانًا خسيسًا، اقلّ ما يؤثرهُ الاستبداد في اخلاق النّاس، انّهُ يُرغم حتّي الاخيار منهم علي الفه الرّياء والنّفاق ولبئس السّيّئتان، اسير الاستبداد العريق فيه يرث شرّ الخصال، ويتربّي علي اشرّها، ولا بدّ ان بصحبه بعضها مدي العمر”.
لا عجب من انفه فلاسفه المسلمين وعلمائهم من الاستبداد والمستبدين فقد حرر الاسلام الانسان من كافه صور العبوديه لغير الله تعالي وربعيُّ بن عامر رضي الله عنه يعبر عن هذه الحاله لرستم قائد الفرس لما ساله: ما جاء بكم؟ فقال له:
“الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده العباد الي عباده الله، ومن ضيق الدنيا الي سعتها، ومن جور الاديان الي عدل الاسلام”.
بل قرر عدد من العلماء المجددين اثبات “مقصد الحريه” كمرجع كلي تعود اليه الاحكام والانظمه في الشريعه باعتباره من المقاصد الكليه التي يتشوف الاسلام لتحقيقها في دنيا الناس ليبلغوا اخرتهم غير مبدلين ولا مغيرين ولهذا منعت الشريعه كل اعتداء وجور علي حريه الاخرين، وجعلت الظلم من اعظم الكبائر التي تؤذن بخراب العمران وزوال النوع الانساني كما يقول ابن خلدون في مقدمته:
“واعْلَمْ انَّ هذهِ الحِكمهَ المَقصودهَ للشَّارعِ في تحريمِ الظُّلْمِ، هُوَ ما يَنْشَاُ عنه من فَسَادِ العُمْرَانِ وخَرَابِهِ، وذلكَ مُؤْذِنٌ بانقطاعِ النَّوعِ البّشَرِيِّ، وهيَ الحِكمهُ العامَّهُ المراعِيَهُ للشَّرْعِ في جَميعِ مَقاصِدِهِ الضَّرُورِيَّهِ الخَمْسَهِ مِنْ حِفْظِ الدِّينِ والنَّفْسِ والعَقْلِ والنَّسْلِ والمَالِ. فلمّا كانَ الظُّلْمُ – كما رايتَ– مُؤْذِنًا بانْقِطاعِ النَّوعِ لِمَا اَدَّي اليهِ مِن تَخريبِ العُمْرَانِ، كانَتَ حِكْمَهُ الخَطَرِ فيه موجودهً. فكانَ تحريمُهُ مُهِمًّا، وادلَّتُهُ من القرانِ والسُّنَّهِ كثيرهٌ، اكثرُ مِن اَنْ يَاْخُذَها قانونُ الضَّبْطِ والحَصْرِ.
وصف الامبراطور فردريك علي انه يميل الي العلم والادب والموسيقي ويحرص علي محاوره المفكرين والادباء ويصغي الي الفلسفه والمنطق. تنقل الكتب انه عندما اوشك علي الاتفاق مع فولتير علي جمله من الاشياء التي تعزز الحكم الرشيد ثم مات امبراطور النمسا فجهز جيشه للعدوان عليها وكتب الي فولتير يقول: »ان موت الامبراطور يغير كل افكاري السلميه واظن ان الامور تنحو في شهر يونيو نحو المدافع والبارود والجنود والخنادق بدلًا من الممثلات والمراقص والمسارح بحيث اراني مضطرًا الي الغاء الاتفاق الذي كنا علي وشك ابرامه، ثم قال لقد انتهيت انا وشعبي الي اتفاق يرضينا جميعًا يقولون ما يشتهون وافعل ما اشتهي «ولا شك ان التظاهر بالنبل يظل افكارًا مجنحه تتسامي عند اول تجربه طالما انه لم يجد طريقه الي مكنون النفس وخبايا الضمير.
كان “سنوحي” طبيبًا لفرعون مصري اسمه (امفسيس) عاش في القرن العاشر قبل الميلاد، وقد كتب مذكراته عن حياه هذا الفرعون وعن الشعب المصري الذي كان يعاني ويلات الاستبداد ويرزح تحت اسر الاستعباد فروي قصه عجيبه عن المزاج الاجتماعي للشعب المصري في ذلك الزمان السحيق فقال:
كنت امشي في شارع من شوارع مصر واذا بالرجل الوجيه الشريف الثري المعروف (اخناتون) ملقي علي الارض مضرجًا بدمائه وقد قطعت يداه ورجلاه من خلاف وجدعت انفه وليس في بدنه مكان الا وفيه طعنه رمح او ضربه سوط وهو قاب قوسين او ادني من الموت فحملته الي دار المرضي وجاهدت جهادًا عظيمًا لانقاذه من الموت وبعد شهرين او اكثر وعندما افاق من غيبوبته قص علي قصته المحزنه المفجعه قائلًا :لقد امرني الفرعون امفسيس ان اتنازل له عن كل شبر ارض املكه وان اهبه ازواجي وعبيدي وكل ما املك من ذهب وفضه فاستجبت لما اراد بشرط ان يترك داري التي اسكن فيها ومعشار ما املكه من الذهب والفضه لاستعين بها علي اودي، فاستثقل فرعون هذا الشرط واستولي علي كل ما كان عندي ثم امر بان يفعل بي تلك الافاعيل الشنيعه وان اطرح في الشارع عاريًا لاكون عبره لمن يخالف اوامر (امفسيس) ودارت الايام واخناتون المسكين يعاني الفقر والحرمان وكل امله في هذه الدنيا هو القصاص من الفرعون الظالم ولو علي يد غيره.
ومات فرعون وحضرت مراسيم الوفاه بصفتي كبير الاطباء فكان الكهنه يلقون خطب الوداع مطرين الراحل العظيم وكانت الكلمات التي يرددونها لا زلت اتذكرها جيدًا فقد كانوا يقولون :
(يا شعب مصر لقد فقدت الارض والسماء وما بينهما قلبًا كبيرًا كان يحب مصر وما فيها من انسان وحيوان ونبات وجماد كان للايتام ابًا وللفقراء عونًا وللشعب اخًا ولمصر مجدًا كان اعدل الالهه وارحمهم واكثرهم حبًّا لشعب مصر وذهب امفسيس لكي ينضم الي الالهه الكبار وترك الشعب في ظلام).
يضيف سنوحي: وبينما كنت اصغي الي كلام الكهنه ودجلهم في القول واندب حظ مصر وشعبها المسكين الذي يرزح تحت سياط الفراعنه والكهنه معًا، وبينما كانت الجماهير المحتشده التي تلقي كل فرد منهم علي حده من بطش فرعون وسياطه اذي وعذابًا تجهش بالبكاء، سمعت صوت رجل يبكي كما تبكي الثكلي وصوت بكائه علا الاصوات كلها ويردد عبارات غير مفهومه، فنظرت مليًا واذا صاحب البكاء هذا هو (اخناتون) المعوق العاجز الذي كان مشدودًا علي ظهر حمار واسرعت اليه لاهدئه بعض الشيء، كنت ظننت انه يبكي سرورًا وابتهاجًا علي وفاه ظالم ظلمه الي حد الموت والتعذيب، ولكن (اخناتون) خيب امالي عندما قطع نظره علي واخذ يصرخ عاليًا بقوله: )يا سنوحي… لم اكن اعلم ان امفسيس كان عادلًا عظيمًا بارًا بشعبه الي هذه المرتبه العظيمه الا بعد ان سمعت ما قاله كهنتنا فيه.
Comments