المحتوى الرئيسى

تفسير الشعراوي للآية 253 من سورة البقرة

06/14 16:36

قال تعالي: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَاتَيْنَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَاَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ امَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.. [البقره : 253].

ان الحق سبحانه وتعالي يشير الي الرسل بقوله: {تِلْكَ الرسل} و{الرسل} هي جمع لمفرد هو (رسول). والرسول هو المكلف بالرساله. والرساله هي الجمله من الكلام التي تحمل معني الي هدف. ومادام الرسل جماعه فلماذا لم يقل الحق (هؤلاء الرسل) وقال {تِلْكَ الرسل}؟ ذلك ليدلك القران الكريم علي ان الرسل مهما اختلفوا فهم مرسلون من قبل اله واحد وبمنهج واحد. وكما عرفنا من قبل ان الاشاره ب (تلك) هي اشاره لامر بعيد. فعندما نشير الي شيء قريب فاننا نقول: (ذا)، وعندما نستخدم صيغه الاشاره مع الخطاب نقول: (ذاك). وعندما نشير الي مؤنث فنقول: (ت) وعندما نشير الي خطاب مؤنث: (تيك). و(اللام) كما عرفنا هنا للبعد او للمنزله العاليه.

اذن فقوله الحق: {تِلْكَ الرسل} هو اشاره الي الرسل الذين يعلمهم سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام، او الرسل الذين تقدموا في السياق القراني. والسياق القراني الذي تقدم تحدث عن موسي عليه السلام، وعن عيسي عليه السلام، وتكلم السياق عن اولي العزم من الرسل.

ان اردت الترتيب القراني هنا، فهو يشير الي الذي تقدم في هذه السوره، وان اردت ترتيب النزول تكون الاشاره الي من عَلِمَهُ الرسول من الرسل السابقين، والمناسبه هنا ان الحق قد ختم الايه السابقه بقوله هناك: {وَاِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}، ولما كانت {وَاِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} تفيد بعضيته صلي الله عليه وسلم لكليه عامه، كانه يقول: اياكم ان تظنوا انهم ماداموا قد اتفقوا في انهم مرسلون او انهم رسل الله، انهم ايضا متساوون في المنزله، لا، بل كل واحد منهم له منزلته العامه في الفضليه والخاصه في التفضيل. انهم جميعا رسل من عند الله، ولكن الحق يعطي كل واحد منهم منزل خاصه في التفضيل.

فلماذا كان قول الله: {وَاِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} يؤكد لنا ان سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم من بين الرسل فلا تاخذ هذا الامر علي اساس ان كل الرسل متساوون في المكانه، وتقول انهم متماثلون في الفضل. لا. ان الله قد فضل بعضهم علي بعض.

ان التفضيل هو ان تاتي للغير وتعطيه ميزه، وعندما تعطي له مزيه عمن سواه قد يقول لك انسان ما (هذه محاباه)، لذلك نقول لمن يقول ذلك: الزم الدقه، ولتعرف ان التفضيل هو ايثار الغير بمزيه بدافع الحكمه، اما المحاباه فهي ايثار الغير بمزيه بدافع الهوي والشهوه، فمثلاً اذا اردنا ان نختار احداً من الناس لمنصب كبير، فنحن نختار عدداً من الشخصيات التي يمكن ان تنطبق عليهم المواصفات ونقول: (هذا يصلح، وهذا يصلح، وهذا يصلح) و(هذا فيه ميزات عن ذاك) وهكذا، فان نظرنا اليهم وقيمناهم بدافع الحكمه والكفاءه فهذا هو التفضيل، ولكن ان اخترنا واحداً لانه قريب او صهر او غير ذلك فهذا هو الهوي والمحاباه.

ان التفضيل هو ان تؤثر وتعطي مزيه ولكن لحكمه، واما المحاباه فهي ان تؤثر وتعطي مزيه، ولكن لهوي في نفسك. فمثلا هب انك اشتريت قاربا بخاريا وركبته انت وابنك الصغير، ومعك سائق القارب البخاري، واراد ابنك الصغير ان يسوق القارب البخاري، وجلس مكان السائق واخذ يسوق. ولكن جاءت امواج عاليه واضطرب البحر فنهضت انت مسرعا واخذت الولد وامرت السائق ان يتولي القياده، وهنا قد يصرخ الولد، فهل هذه محاباه منك للسائق؟ لا، فلو كانت محاباه لكانت لابنك، لكنك انت قد اثرت السائق لحكمه تعرفها وهي انه اعلم بالقياده من الولد الصغير. اذن اذا نظرت الي حيثيه الايثار وحيثيه التمييز لحكمه فهذا هو التفضيل، ولكن في المحاباه يكون الهوي هو الحاكم.

وكل اعمال الحق سبحانه وتعالي تصدر عن حكمه؛ لانه سبحانه ليس له هوي ولا شهوه، فكلنا جميعا بالنسبه اليه سواء. اذن هو سبحانه حين يعطي مزيه او يعطي خيرا او يعطي فضليه، يكون القصد فيها الي حكمه ما.

وحينما قال الحق: {وَاِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جاء بعدها بالقول الكريم: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ علي بَعْضٍ} واعطانا نماذج التفضيل فقال: {منهم من كلم الله}. وساعه تسمع {منهم من كلم الله} ياتي في الذهن مباشره موسي عليه السلام، والا فالله جل وعلا قد كلم الملائكه.

وبعد ذلك يقول الحق: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}. ثم قال: {وَاتَيْنَا عِيسَي ابن مَرْيَمَ البينات} انه سبحانه قد حدد اولا موسي عليه السلام بالوصف الغالب فقال: {كَلَّمَ الله} وكذلك حدد سيدنا عيسي عليه 

السلام بانه قد وهبه الايات البينات. وبين موسي عليه السلام وعيسي عليه السلام قال الحق {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} والخطاب في الايات لمحمد عليه الصلاه والسلام. اذن ففيه كلام عن الغير لمخاطب هو محمد صلي الله عليه وسلم.

وساعه ياتي التشخيص بالاسم او بالوصف الغالب، فقد حدد المراد بالقضيه، ولكن ساعه ان ياتي بالوصف ويترك لفطنه السامع ان يرد الوصف الي صاحبه فكانه من المفهوم انه لا ينطبق قوله: {ورفعنا بعضهم درجات} بحق الا علي محمد صلي الله عليه وسلم وحده. وجاء بها سبحانه في الوسط بين موسي عليه السلام وعيسي عليه السلام، مع ان الرسول صلي الله عليه وسلم لم يات في الوسط، وانما جاء اخر الانبياء، ولكنك تجد ان منهجه صلي الله عليه وسلم هو الوسط. فاليهوديه قد اسرفت في الماديه بلا روحانيه، والنصرانيه قد اسرفت في الروحانيه بلا ماديه، والعالم يحتاج الي وسطيه بين الماديه والروحيه، فجاء محمد صلي الله عليه وسلم، فكان محمداً صلي الله عليه وسلم قطب الميزان في قضيه الوجود.

واذا اردنا ان نعرف مناطات التفضيل، فاننا نجد رسولا يرسله الله الي قريته مثل سيدنا لوط مثلا، وهناك رسول محدود الرساله او عمر رسالته محدود، ولَكِنْ هناك رسول واحد قيل له: انت مرسل للانس والجن، ولكل من يوجد من الانس والجن الي ان تقوم الساعه انّه هو محمد صلي الله عليه وسلم.

فاذا كان التفضيل هو مجال العمل فهو لسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم، واذا نظرنا الي المعجزات التي انزلها الله لرسله ليثبتوا للناس صدق بلاغهم عن ربهم، نجد ان كل المعجزات قد جاءت معجزاته كونيه، اي معجزات ماديه حسيه الذي يراها يؤمن بها، فالذي راي عصا موسي وهي تضرب البحر فانفلق، هذه معجزه ماديه امن بها قوم موسي، والذي راي عيسي عليه السلام يبرئ الاكمه والابرص فقد شهد المعجزه الماديه وامن بها، ولكن هل لهذه المعجزات الان وجود غير الخبر عنها؟ لا ليس لها وجود.

لكن محمد صلي الله عليه وسلم حينما يشاء الله ان ياتيه بالمعجزه لا ياتي له بمعجزه من جنس المحسات التي تحدث مره وتنتهي، انه سبحانه قد بعث محمداً صلي الله عليه وسلم الي ان تقوم الساعه، فرسالته غير محدوده، ولابد ان تكون معجزته صلي الله عليه وسلم غير محسه وانما تكون معقوله؛ لان العقل هو القدر المشترك عند الجميع، لذلك كانت معجزته القران. ويستطيع كل واحد الان ان يقول: محمد رسول الله وتلك معجزته.

ان معجزه رسولنا صلي الله عليه وسلم هي واقع محسوس. وفي مناط التطبيق للمنهج نجد ان الرسل ما جاءوا ليشرعوا، انما كانوا ينقلون الاحكام عن الله، وليس لهم ان يشرعوا، اما الرسول محمد صلي الله عليه وسلم فهو الرسول الوحيد الذي قال الله له: {وَمَا اتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}.. [الحشر: 7].

فهو صلي الله عليه وسلم قد اختصه الله بالتشريع ايضا، اليست هذه مزيه؟ ان المراد من المنهج السماوي هو وضع القوانين التي تحكم حركه الحياه في الخلافه في الارض، وتلك القوانين نوعان: نوع جاء من الله، وفي هذا نجد ان كل الرسل فيه سواء، ولكنْ هناك نوع ثانٍ من القوانين فوض الله فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم ان يضع من التشريع ليلائم ما يري، وهذا تفضيل للرسول صلي الله عليه وسلم.

اذن حين يقول الله تعالي: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} فهذا لا ينطبق الا علي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم. وهذا اكثر من التصريح بالاسم. واضرب هنا المثل ولله المثل الاعلي انت اعطيت لولدك قلماً عادياً، ولولدك الثاني قلماً مرتفع القيمه، ولولدك الثالث ساعه، اما الولد الرابع فاشتريت له هديه غاليه جداً، ثم تاتي للاولاد وتقول لهم: انا اشتريت لفلان قلماً جافاً، ولفلان قلم حبر، واشتريت لفلان ساعه، وبعضهم اشتريت له هديه ثمينه.

ف (بعضهم) هذا قد عُرف بانه الابن الرابع الذي لم تذكر اسمه، فيكون قد تعين وتحدد.

{تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ علي بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} وحين تقول كلم الله اياك ان تغفل عن قضيه كليه تحكم كل وصف لله يوجد في البشر، فانا اتكلم والله يتكلم، لكن اكلامه سبحانه مثل كلامي؟ ان كنت تعتقد ان وجودي مثل وجوده فاجعل كلامي ككلامه، وان كان وجودي ليس كوجوده فكيف يكون كلامي ككلامه؟

ربما يقول احد: ان الكلام صوت واحبال صوتيه وغير ذلك، نقول له: لا، انت لا تاخذ ما يخص الله سبحانه الا في اطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونحن ناخذ كل وصف يرد عن الله بواسطه الله، ولا نضع وصفاً من عندنا، وبعد ذلك لا نقارنه بوصف للبشر. فلله حياه ولك حياه. لكن احياه اي منا كحياته سبحانه؟ لا، ان حياته ذاتيه، وحياه كل منا موهوبه مسلوبه، فليست مثل حياته.

وعندما يقول الحق: {الله الذي خَلَقَ السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّهِ اَيَّامٍ ثُمَّ استوي عَلَي العرش مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ اَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}.. [السجده: 4].

فهل جلوس الحق كجلوس الخلق؟ او هل يكون كرسي الخالق ككرسي المخلوق؟ طبعا لا. ونحن المؤمنين ناخذ كل صفه عن الله في نطاق التنزيه: سبحان الله وليس كمثله شيء، فليس استواء الله مثل استواء البشر، وليس جلوس الحق مثل جلوس الانسان.

ونضرب هذا المثل ولله المثل الاعلي من قبل ومن بعد هب ان صاحباً لك دعاك لتاكل عنده، ثم دعاك احد كبراء القوم لتاكل عنده، لابد انك تجد الطعام متفاوتا في جودته واصنافه بين كل مائه من موائد من دعوك، فاذا كان البشر انفسهم تتفاوت بينهم الامور الوصفيه تبعاً لمقاماتهم وقدراتهم وامكاناتهم، فاذا ما ترقيت بالصفه الي خالق كل الاشياء ايقنت انه سبحانه مُنزه عن كل من سواه، وليس كمثله شيء.

اذن {كَلَّمَ الله} تعني انه اعلم رسوله باي وسيله من وسائل الاعلام. {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَاتَيْنَا عِيسَي ابن مَرْيَمَ البينات وَاَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} والحق سبحانه وتعالي يؤكد دائما في الكلام عن سيدنا عيسي انّ عيسى ابن مريم مؤيد بروح القدس؛ لان المسائل التي تعرض لها سيدنا عيسي تتطلب ان تكون روح القدس دائما معه، ولذلك يقول الحق سبحانه عنه: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ اَمُوتُ وَيَوْمَ اُبْعَثُ حَيّاً}.. [مريم: 33].

ففي الميلاد سيدنا عيسي تعرض لمشكله؛ لانه ولد علي غير طريقه ميلاد الناس، واتهمت فيها امه، وجاء القران فنزهها، وبراها، ووضع الامر في نصابه الحق، وايضا في موته عندما ارادوا ان يقتلوه.

وحين ننظر الي الرسل نجد ان مقتضي ان يرسل الله رسلاً الي العالم هو انه سبحانه قد خلق الخلق غير مكرهين علي فعل، ولا مسخرين كما تسخر بقيه الاجناس في الكون، ودونه مباشره الحيوان الذي ينقص عنه العقل، وبعد الحيوان ياتي جنس النبات الذي ينقص عنه الحس والحركه، وبعد ذلك الجماد الذي ينقص عن النبات، تلك هي اجناس الوجود. والانسان هو سيد هذه الاجناس. والسياده جاءت له من ناحيه ان الاجناس كلها مسخره لخدمته لا بالاختيار، ولكن بالقهر والقسر.

فالشمس لم تجيء مره لتقول: لم يعد الخلق يعجبونني لذلك لن اشرق لهم اليوم ولا الهواء امتنع عن ان يهب، ولا المطر امتنع عن ان ينزل، ولا الارض امتنعت عن ان تعطي النبات عناصر غذائه، ان الانسان يركب الدابه ويسيرها كما يحب وكما يريد، لا شيء يتابي ابدا علي الانسان. وانت ايها الانسان الجنس الوحيد الذي وهبك الله الاختيار لتمارس مهمتك في الوجود، فان شئت فعلت كذا، وان شئت لم تفعل كذا.

ولكن الله لم يدعك هكذا علي اطلاقك، بل انّ فيه اموراً تصير برغم انفك وانت مسخر فيها، لا تستطيع مثلا ان تتحكم في يوم ميلادك، ولا في يوم وفاتك، ولا فيما ينزل عليك من الاحداث الخارجه عنك، ولا فيما يدور من الحركه في بدنك، كل ذلك انت مسخر فيه فلا تنفلت من قبضه ربك. ولكنك مختار في اشياء.

ونعرف انه سبحانه وتعالي قهر اجناساً علي ان تكون كما يريد، وكما يحب، وتلك صفه القدره؛ لان صفه القهر تفيد السيطره. فاذا ما ترك جنساً يختار ان يؤمن، ويختار الا يؤمن، وان امن يختار ان يطيع ويختار ان يعصي، فهذه تثبت المحبوبيه لله سبحانه وتعالي لمن اختار واثر طاعه الله علي المعصيه.

ونحن نعرف ان القهر يخضع القوالب لكنه لا يخضع القلب. فانت تستطيع ان تهدد انساناً بمسدس وتقول له: (اسجد لي) فيسجد لك، لكنك لا تستطيع ان تقول له وهو تحت التهديد (احبني). فالحق سبحانه وتعالي يترك لنا الايمان بالاختيار، ويترك لنا الطاعه والمعصيه اختياراً، ليعلم من ياتيه حباً ومن ياتيه قهراً.

والعالم كله ياتي لله قهراً. وانت ايها الانسان في ذاتك اشياء انت مقهور فيها. ومن هنا ثبتت لله تعالي القدره. وبقي ان تثبت له الحب. والعبد الصالح هو الذي يطيعه عن حب. ونحن قد سبق لنا ان ضربنا مثلاً ولله المثل الاعلي وقلنا ان انسانا عنده خادمان واحد اسمه سعد والاخر اسمه سعيد، سعد قيده صاحبه بحبل ويجره قائلا: (يا سعد) فهل لسعد الا يجيء؟ لا.

لكن صاحب العبدين ترك لسعيد الحريه، وعندما يناديه فهو ياتيه.

اذن، ايهما يحبه، الذي جاء بالحبل ام الذي جاء بالمحبه؟ اذن، فمن كرامه الانسان ان يثبت لله صفه المحبه ان امن بالله؛ لانه سبحانه وتعالي لو شاء ان يهدي الناس جميعاً ما استطاع اي واحد منهم ان يكفر به، ولو شاء ان يكون مطاعاً دائماً ما استطاع واحد ان يعصيه ابداً. ولذلك قلنا: ان ابليس كان عالماً حينما قال امام الله تعالي: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاُغْوِيَنَّهُمْ اَجْمَعِينَ}.. [ص: 82].

اقسم الشيطان لله بعزته سبحانه عن خلقه، وكانه قال: انت يا رب لو كنت تحتاج عباد فانا لا استطيع ان اخذهم، لكن لانك عزيز عليهم، ان ارادوا ان يؤمنوا امنوا، وان ارادوا الا يؤمنوا لم يؤمنوا؛ فهذا هو المدخل الذي سادخل منه. ولذلك استثني الشيطان بعضاً من العباد لانه لن يستطيع ان يجد لوسوسته لديهم مدخلا: {اِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83].

اي ان الذي يريد الله ان يستخلصه لنفسه فلن يستطيع الشيطان ان يقترب منه. اذن فابليس ليس داخلاً في معركه مع الله تعالي، ولكنه في معركه معنا نحن. ولقد اوضح الحق ذلك حين جاء علي لسان ابليس في القران: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاُغْوِيَنَّهُمْ اَجْمَعِينَ اِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83].

اذن لو اراد الله ان نكون طائعين جميعاً، ايستطيع واحد ان يعصي؟ لا يستطيع. ولو ارادنا مؤمنين جميعاً، ايستطيع واحد ان يكفر؟ لا يستطيع. انما شاء الله تعالي لبعض الامور والافعال ان يتركها لاختيارك؛ لانه يريد ان يعرف من الذي ياتيه طوعاً وليظل العبد بين الخوف والرجاء؛ ولذلك يقول الرسول صلي الله عليه وسلم: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبه ما طمع بجنته احد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمه ما قنط من جنته احد».

ولهذا فان مطلوب الارتفاع الايماني، والارتفاع اليقيني ان تحب الله لذات الله. وهو سبحانه يجري عليك من الاحداث ما يشاء، وتظل تحبه فيباهي الله بك الملائكه فتقول الملائكه: يا رب يحبك لنعمتك عليه فيقول لهم: واسلب نعمتي ولا يزال يحبني، ويسلب الحق النعمه لكن العبد لا يزال يحب الله، فهو يحب الله ولا يحب نعمته لانه سبحانه ذات تحب لذاتها بصرف النظر عن انه يعطينا النعم.

اذن الحق سبحانه وتعالي قد ارسل الرسل يحملون منهج الله لمَنْ يريد ان يعلن حبه لله، وان يكون خليفه في الارض بحق، وان يُصلح في الكون ولا يفسده. ونعرف ان الاصلاح له مرتبتان: ان تترك الصالح بطبيعته فلا تفسده، او ان تزيد الصالح صلاحاً. فلا تاتي علي عين الماء التي تتدفق للناس وتردمها، ولكنك تتركها علي صلاحها ان لم تستطع ان تزيدها اصلاحاً.

وقد تستطيع ان تزيد عين الماء صلاحاً؛ فبدلاً من ان يذهب الناس متعبين الي العين ويحملون منها الماء، قد تصنع لهم مضخه عاليه لها خزان ترفع اليه الماء وتمد (المواسير) وتوصل المياه الي منازلهم. فانت بذلك تزيد الامر الصالح صلاحاً، وهذه خلافه وعماره في الوجود. فان لم تستطع ان تزيد الصالح صلاحاً فجنبنا شر افسادك، ودع الحال كما هي عليه، واقعد كما انت عاله في الكون.

ولو ان الانسان كان منصفاً في الكون لسال نفسه: مَنْ الذي اهتدي الي صناعه الرغيف الذي ناكله الان؟ وسيعرف انه قد اخذ تجارب الناس من اول ادم حتي وصل الي صناعه هذا الرغيف، فهناك انسان زرع القمح، وهناك انسان اخر هداه الله ان يطحن هذا القمح، وهو سبحانه هدي الانسان ان يصنع منخلاً ليفصل الدقيق عن النخاله، ثم هداه ان يعجن الدقيق حتي يجد له طعماً افضل. ولاشك انه ترك مره قطعه من العجين ثم شُغل عنها باي شاغل او باي سبب ثم رجع لها مره اخري فوجدها متخمره، فلما خبزها خرج له العيش افضل طعماً، انه سبحانه قدر فهدي، والا كيف تاتي هذه التجربه الطويله؟

ومثال اخر: ان الانسان حين ينظف ثوبه، لو انه استعرض اعمال من سبقوه في هذا الموضوع منذ ادم، لعلم ان كل واحد سبقه في الوجود اعطاه مرحله من النفعيه الي ان وصل للغساله الكهربائيه التي تغسل له بدون تعب، كل هذه الاشياء جاءت له بهدايات من الله. وقد قلت مره: لماذا طبخت الناس (الكوسه) ولم تطبخ (الخيار)؟ ان هذه دليل علي ان هناك تجارب كثيره مرت علي الانسان حتي يميز طعم الكوسه المطبوخه عن الخيار، وكذلك طبخ الناس الملوخيه ولم يطبخوا النعناع، مع ان النعناع احسن منها، حدث ذلك؛ لان هناك تجارب وصلتنا بان النعناع لا يُستساغ طعمه مطبوخا.

وانت لو نظرت الي اي شيء تستفيد به اليوم، وقدرت الاعمال التي تداولته من يوم ان وُجد، ستجد ان الحق قد قدر لكل انسان عملاً ومجالاً، وظل يخدمك انت. ومادمت قد خُدمتَ بهؤلاء الناس كلهم من اول ادم وحتي اليوم، فلابد ان تنظر لتري ماذا ستقدم لمن ياتي من بعدك، فلا تكن كسولاً في الحياه؛ تاخذ خير غيرك كله في الوجود، وبعد ذلك لا تعطي اي شيء، بل لابد ان يكون لك عطاء، فكما اخذت من بيئتك لابد ان تعطي هذه البيئه، ولو لم يوجد هذا لما ارتقت الحياه؛ لان معني ارتقاء الحياه ان انساناً اخذ خبره من سبقوه، وحاول ان يزيد عليها، اي ان ياخذ اكبر ثمره باقل مجهود.

فلو قدر الناس جهد الانسان الذي ابتكر (العجله) مثلا التي تسير عليها السياره لكان عليهم ان يستغفروا الله له بمقدار ما اراحهم، فبعد ان كان الانسان يحمل علي اكتافه قصاري ما يحمل، وَفَّر عليه مَن اختراع هذا ان يحمل ويتعب، وجعله يحمل اكبر كميه وينقلها باقل مجهود.

اذن لابد ان تنظر الي النعم التي تستفيد بها الان وتري كم مرحله مرت بها، وهل صنعها الناس هكذا ام تعبوا وكدوا واجتهدوا منذ بدء الوجود علي الارض، وعرف الانسان جيلا بعد جيل كيفيه تطوير تلك الاشياء، وقد يحدث خطا في مرحله معينه فيبدا الاصلاح او التحسين وهكذا. فانت عندما تجد ان العالم قدم لك كل هذه المنتجات، لابد ان تسال نفسك: ما الذي ستقدمه انت لهذا العالم، وبذلك تظل الحلقه الانسانيه مرتقيه ومتصله.

والحق سبحانه يرسل الرسل ويضع المنهج: (افعل كذا) و(لا تفعل كذا)، حتي تستقيم حياه الناس علي الارض، لكن الناس غلبت عليهم الغفله عن امر المنهج؛ ولذلك تظهر في الوجود فسادات بقدر الغفله، وعندما يزداد الفساد يبعث الحق سبحانه رسولا جديدا يذكرهم بالمنهج مره اخري، وعندما ياتي الرسول يؤمن به بعض من الناس ويحاربون معه، وينتصر الرسول وتستقر مبادئ الله في الارض، ثم تمر فتره وتاتي الغفله فيحدث الخلاف، فهناك اناس يتمسكون بمنهج الله، واناس يفرطون في هذا المنهج، ويحدث الخلاف وتقوم المعارك.

ولو كان الحق سبحانه وتعالي يريد الكون بلا معارك بين حق وباطل لجعل الحق مسيطراً سيطره تسخير. لكن الله تعالي اعطانا تمكيناً، واعطانا اختباراً؛ لذلك نجد من ينشا مؤمناً، ومن ينشا كافراً، نجد الطائع، ونجد العاصي، هذا فريق، وهذا فريق. واياك ان تفهم ان وجود الكافرين في الارض، او وجود العصاه في الكون دليل علي انهم غير داخلين في حوزه الله، لا. بل ان الله تعالي هو الذي اعطاهم هذا الاختيار، ولو شاء الله ان يجعل الناس امه واحده لما استطاع انسان ان يخرج علي مراد الله.

نرشح لك

أهم أخبار رمضان

Comments

عاجل