المحتوى الرئيسى

حمّور زيادة يكتب: حكاية حُسنة بنت قنديل وما جرى بسببها (3-6)

06/14 11:06

(وفاءً بوعده لزوجه الشابه حُسنه بنت قنديل بالانتقام، بعث الشيخ محمد ود دياب تلميذه المضوي برساله الي الشيخ عبد المحسن القريشابي.

حمل المضوي الرساله، وقصد المدينه الكبيره، ودخل مسجد الباشا يطلب الشيخ القريشابي.)

مشي يومين وليله حتي وصل عند المدينه الكبيره حيث يقيم الشيخ عبد المحسن. دخلها عصراً واخذ يسال الناس في الطريق عن مسجد الباشا. دلوه عليه فوجده بناء ضخماً من الحجر الملون. به قبه عظيمه تزينها النقوش. وساحه واسعه مكنوسه ومرشوشه بالماء. وحول المكان مئات الحيران والتلاميذ يقراون القران فيصعد ازيزهم الي السماء.

دخل المسجد، اغتسل من الغبار وتوضا وقام يصلي. حين فرغ جلس الي ركن ينتظر خروج الشيخ عبد المحسن.

كان للشيخ عبد المحسن القريشابي مكانه كبيره ومنزله لدي الباشا في المدينه. فانزله مسجده الجديد فاقام فيه، واقتني كتب الفقه والاصول والمنطق والكلام. واذن له الباشا بالتدريس والفتيا. واجري عليه اموالاً كثيره، وسلمه اداره اوقاف لا تُحصي. فصار الشيخ عبد المحسن سلطاناً للفقرا واهل الله. يخشاه الشيوخ والامراء قبل العامه. الا الشيخ محمد ود دياب فما كان يخشاه ولا يحسب لمكانته حساباً. وكان ما بينهما معروفاً مشهوراً بين الناس. لكن احداً ما كان يعرف متي سيواجه الشيخ محمد المعروف بالصلاح والكرامات الشيخ عبد المحسن بالغ النفوذ والثراء. الا المضوي فقد كان الان موقن انه يحمل اللوح الذي سيبدا المواجهه بين الشيخين. ما بين الناس والواقعه الا ان يخرج الشيخ عبدالمحسن فيناوله المضوي لوح شيخه.

بقي في مكانه حتي اذّن المغرب. حينها سمع الجلبه، ثم راي الحيران والفقرا يضجون بالهتاف. بدا في وسطهم الشيخ عبد المحسن يمشي في ثياب من القطن مصبوغه. وعليه عباءه فاخره، وعمامه من الشاش. رجل طويل عليه مهابه. انفه به فطس، مع لحيه مشذبه يخطها شيب خفيف. يحيي تلامذته باسماً في طريقه الي المحراب ليؤم الصلاه.

قفز المضوي نحوه واعترض طريقه. هتف:

وقف الشيخ عبد المحسن ونظر اليه في صمت. مد المضوي اليه اللوح فتناوله الشيخ من طرفه. امسك به متمهلاً وقرا ما به. كلما جاوز سطر اسود وجهه. فلما ختمه رمي المضوي بنظره كقذف الرماح. احس المضوي بالخوف. هذه لحظه العقاب اتت. لكن الشيخ امسك اللوح واستدار عائداً الي حجرته دون كلمه. هرج الفقرا وانزعجوا من رجوع الشيخ دون ان يصلي. وجذب بعضهم المضوي من جلبابه وسالوه في حده عن الخطاب الذي جاء به للشيخ فالهاه عن الصلاه. لكن المضوي ما اجابهم الا بالصمت. ثم استنقذه من بينهم نجيب الشيخ حين نهرهم وصاح:

– الصلاه يا عباد الله. الرسول اتركوه فهو مامور. الصلاه لا تفوتكم.

ثم نظر الي المضوي في غيظ وقال له همساً:

– سيدي الشيخ عبد المحسن ينتظرك في حجرته. فاذا كبّر الناس للصلاه ادخل عليه خلسه، ولا يراك احد.

هز المضوي راسه فتركه النجيب ومشي الي المحراب. امر بصوت جهور:

تراجع المضوي، علي حين تسارع الحيران والفقرا للاصطفاف للصلاه. وحين كبّر الناس هرول نحايه الحجره التي دخلها الشيخ عبد المحسن.

ازاح ستر القماش الذي يغطي بابها فتلقاه البخور الهندي. انتعش به ودخل الي الحجره. الشيخ عبد المحسن جالس علي وساده بلون الذهب بين كتبه النوادر التي ذاع صيتها في البلاد. سمع المضوي ان الفقهاء ياتون من القيروان ومكه للاطلاع علي كتب الشيخ التي لا توجد الا عنده. اشار اليه ان اجلس. فاطاع المضوي في صمت.

بقي الشيخ عبد المحسن ينظر اليه زمناً كانما يختبر حقيقته. ثم رفع كفه التي تحمل المسحبه وقال:

– اني ساسالك، فهل تجيب؟

– ما اُمرت الا بحمل اللوح اليكم. ما انا بماذون بالكلام.

– اتخشي محمد ود عيشه الصلعاء اكثر مما تخشاني؟

– ما انا بماذون بالكلام.

– قال لي يا مضوي تحمل هذا اللوح للشيخ عبد المحسن ود حمد القريشابي ولا ترجع الا بجوابه.

– قال لك الشيخ عبد المحسن ود حمد القريشابي يامضوي؟

ارتبك المضوي. لم يعرف ماذا يقول فلاذ بالصمت، لكنه الشيخ عبد المحسن اكمل:

– هل قال لك ذلك ام انك كذبت علي شيخك بما لست ماذوناً به؟

دارت عينا المضوي في محجريها ذعراً، وقال في اضطراب:

– ما قصدت الكذب علي سيدي.

صمت المضوي. فاعاد الشيخ عبد المحسن سؤاله:

– ماذا قال يا مضوي؟

– قال لي امشي باللوح الي عبد المحسن ود حمد المدعي انه قرشي. ولا ترجع الا بجواب منه.

انفجر الشيخ عبد المحسن بالضحك فجاه حتي قفز المضوي من مكانه. لكن الشيخ اشار اليه – بين ضحكاته – مطمئناً، فعاود الجلوس.

حين فرغ الشيخ من ضحكه قال:

– لا تخف يا مضوي. لقد كرهت ما كتبه لي شيخك اول مره. انا لست الرجل الذي يخاطب بمثل هذا الكلام. لكني عرفت سريعاً ان شيخك مازال يحمل ذات القلب الكريه بين جنبيه. ان دمه اسود من الحقد الذي يمشي فيه.

لم يرد المضوي. كان بين كراهيه سماع التقليل من شيخه، والخوف علي مصيره.

قآل الشيخ عبد المحسن في اهتمام:

– المراه المذكوره، حُسنه بنت قنديل! كيف هي ومقامها لدي شيخك؟

خفض المضوي بصره هرباً، قال في مذله:

سمع المضوي نحنحه من خلفه، وقال الشيخ عبد المحسن مشيراً بكفه:

احس المضوي بمن يجلس علي يساره فرفع بصره. كان النجيب الذي انقذه من فضول الحيران. ينظر اليه في غضب. قال الشيخ عبد المحسن مخاطباً حواريه:

– هذا يا جابر المضوي. تلميذ محمد ود عيشه الصلعاء.

تململ المضوي في مجلسه. ابتسم الشيخ عبد المحسن وقال له:

– يزعجك ان اسميه ود عيشه الصلعاء؟ هذه امه. اما سمعت بها؟ كانت رحمها الله امراه طيبه. لكن الله ابتلاها بالصلع. كان راسها كركبه غلام. فنذرت للشيخ عبد القادر الجيلاني ان وهبها شعراً فانها تحج راجله لا تركب قط. لكن سيدي الجيلاني رضي الله عنه امسك عنها الاجابه حتي جاوزت الستين من عمرها. ثم بدا الزغب الاسود يطل علي راسها كشنب مراهق. هل تصدق؟ وخلال عام كانت تملك جمه كانها فارس من البجا. لكن كانت هناك مشكله !

نظر الي تلميذه جابر وسال:

– هل تعرف المشكله يا جابر؟

– كيف تحج عجوز في الستين ماشيه.

– نعم يا جابر. كيف لامراه في عمرها ان تمشي حتي البيت الحرام؟ وماذا تفعل امراه في سنها بشعر ما تفاخرت به في شبابها؟ لذلك قررت العجوز – التي عرفها كل الناس باسم عيشه الصلعاء – انها ما عادت في حاجه لدعوتها ولا يلزمها نذر لا تقدر علي وفاءه. فقضت بقيه عمرها تحلق شعرها ليلاً وتحرقه قبل الصباح حتي لا يحق عليها وفاء النذر. وحتي ماتت وقد جاوزت الثمانين ما باتت ليله دون ذلك.

المضوي موجوع مما يسمع. شيخه عنده مقدس. ما ولدته ام ولا يحق في شانه منقصه. اما كفاه معرّه ان يدعوه غريمه بامه حتي يحكي عنها مثل هذا؟ ام المضوي كانت كثيفه الشعر حتي دعاها الناس ام روبه. افتكون امه اكمل من ام شيخه؟ هل يصح في حق الشيخ محمد ود دياب ولي الله الماشي علي الماء ان تكون امه امراه يدعوها الناس عيشه الصلعاء؟ ويسخر منها هذا الفقيه الذي ما له عند الله كرامه ولا عُرف بين الناس بمعجزه؟

قال بصوت كالانين من تحت وطء المهانه:

– ما كنت لاعصي لشيخي امراً.

– ومن يطيع شيخك؟ ربه ام حُسنه زوجه الجديده؟

– يا شيخ عبد المحسن اعطني رد الرساله واعتقني لوجه الله بحق سيدي الجيلاني.

اشار الشيخ عبد المحسن لجابر فصب شراباً في اناء دفعه الي المضوي. قال الشيخ:

تردد المضوي لكن الشيخ كرر له الامر، وقال:

– هذا دكاي من اجود البلح. سيقطع عطشك.

تناول المضوي الاناء وجرع ما فيه علي عجل. راقبة الشيخ عبد المحسن حتي فرغ. ثم قال مخاطباً جابر:

– المضوي الفقير تضيفه عندنا ليله حتي يصبح. لا تقصّر معه فهو مسكين. وفي الغد يرجع الي شيخه بجوابنا.

هز المضوي راسه بالنفي. فقال الشيخ:

– المسكين تعطيه ركوبه يا جابر. لا يمشي حامل رساله الشيخ عبد المحسن القريشابي سليل نسب بيت رسول الله علي قدميه.

– ما تامر به يكون يا شيخنا.

– يا المضوي! انا لا اكتب لشيخك ود عيشه رداً. مثلي لا يكتب لامثاله. لكن قل له ما ساقول لك.

– قل له الشيخ عبد المحسن ود حمد يقول لك المراه حُسنه بنت قنديل انا اعطيتها حقها في عصمتي وزياده. لكنها ابت الا الطلاق. وانا قلت لها لا اطلقك الا وتنزلين لي عن صداقك. فرضيت واعفتني فطلقتها. الشيخ عبد المحسن ما هو مثلك يدعي الكلام بلسان الغيب ويخالف شرع الله. الشيخ عبد المحسن رجل فقه يحفظ حدود الله. المراه انا ما اكلت حقها. لكنها شيطان مجلد بجلد انسان فاحذرها. ولا ترجع تهددني كلما لعبت بشيبتك النسوان، والا اخرجك من مسجدك ذليلاً ككلب السقا. واطوّب عليك داراً فلا يدخل عليك بشر ولا ملائكه بطعام حتي تهلك. فان فعلت دفعت لاهلك ديتك غير باخل.

ابتسم الشيخ عبد المحسن، وقال:

– الحين تقوم مع جابر وهو يكرمك. وغداً تاخذ ركوبتك وترجع الي شيخك.

نهض المضوي منهكاً ومشي خلف جابر. قبل ان يخرج من الحجره قال له الشيخ عبد المحسن:

– المراه حُسنه الله نجاني منها. لكن شيخك لن يهدا حتي تروح روحه وراها.

بات المضوي علي اسوا حال. ورغم مقامه في حجره وثيره ما زارته راحه. وفي غده بكّر بالخروج علي الحمار الذي منحه اياه الشيخ عبد المحسن وشرّق الي وجهته محزوناً. حمل رساله الغلظه من شيخه طائعاً ما يحمل همّ ما يحدث له، لكنه يعود حاملاً جواباً شفاهياً لا يقدر ان ينطقه لشيخه. ليت الشيخ عبد المحسن نكّل به ولم يحمّله ما يحمل.

قطع الطريق في نهار واحد، وبعد المغرب بشيء يسير كان يدخل بحماره الزريبه المجاوره لبيت شيخه محمد ود دياب. ربطه الي وتد، وسار نحو باب البيت. وقف امام الباب ونادي:

لم ياته جواب. فكرر النداء. برهه ثم سمع حركه. تراجع وخفض بصره. فتحت ميمونه بنت الشيخ خوجلي زوج الشيخ محمد الباب. هرول الضوء خارجاً وارتمي علي وجهه فميزته. ابتسمت له. كانت تحنو عليه وتعده كابن لم يُقسم لها. والدها الشيخ خوجلي بن دفع الله قطب العارفين، مرشد السالكين، منقذ الهالكين، الواصل الي الله والموصل اليه، علم المهتدين ومظهر شمس المعارف كان له من الولد سبعه من الذكور وتسعه من الاناث. ما فيهم واحد الا ورزقه الله الولايه الكامله كابيه. اخوتها كواكب الدجي وحجه المتصوفه. يتكلمون في علوم الاولين والاخرين والامم الماضيه من غير نظر في كتاب. واخواتها رزقن الذريه امماً كما الاسباط. اما هي فاجدبت ان تنجب. ونفخ الله في روحها حب العباده والاجتهاد كانها رجل من اهل الصفه. لكنها كانت تشبع ما يتطاول في نفسها من حنين باسباغ الامومه علي جماعه من نجباء زوجها وصفوه تلاميذه، منهم المضوي.

– اتاه داعٍ من القاضي هذا النهار فرحل اليه.

– هل يعود في ليلته ام يبات يا ام الفقرا؟

– كان قديماً اذا تاخر بات ليلته واقبل في الصباح. لكن ما اراه يفعل بعد الان.

لمس المضوي في قولها جرح النساء. فلعله لذلك اراد ان يطيّب نفسها برد الشيخ عبد المحسن. ربما ان سمعت شديد الكلام الذي قاله في حق ضرتها يبرا شيء مما بها. ولعله ان افضي اليها بالجواب ما احتاج ان يكرره امام شيخه. قال لها:

– فانا احمل جواباً لشيخي من الشيخ عبد المحسن القريشابي. فان شئت حدثتك فتخبريه.

– هات ما تحمل يا ولدي.

اعاد عليها ما قاله الشيخ عبد المحسن بحرفه. ما اسقط منه كلمه. حتي تحذيره الاخير. ود لو يجرؤ علي رفع بصره ليري وقع ما تسمع عليها. لكنه اكتفي بمراقبه ظلها يرجف تحت قدميه.

– هل من شيء اخر يا ولدي؟

– هذا كل شيء يا ام الفقرا.

– شكراً لك. ساخبر ابوك الشيخ حين يرجع.

تراجع بظهره دون ان يرفع بصره وقال:

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل