المحتوى الرئيسى

القاهرة المملوكية (5) .. صنائعُ الناس وأرزاقهم!

06/13 17:00

لقد ازدهرت التجاره في القاهره المملوكيه، حتي انّ العلاقات المملوكيه الاوربيه في طيله القرون السابع والثامن والتاسع والعاشر كانت تقوم علي اساس تجاري متين، وما كان سيطره البرتغاليين منذ بدايه القرن العاشر الهجري علي جنوب البحر الأحمر والمحيط الهندى، واقامه مستعمرات لهم في الهند الا بسبب احتكار المماليك لتجاره التوابل الهنديه والاسيويه.

لقد كانت التجاره تمارس في الاسواق بطبيعه الحال، وكان السوق صفان من الحوانيت علي جانبي الطريق، قد يكون مسقوفًا او مكشوفًا، وكانت تلك الحوانيت دكاكين صغيره تفتقر الي التهويه والضوء الجيد، ويجلس صاحبها علي مصطبه مفروشه بالسجّاد او الحصير خارج الدكّان ويجلس الي جواره العميل، وبالرغم من تواضع تلك الحوانيت في هيئتها الا ان بعضها كان يطوي كنوزًا ثمينه، ويُغلق الحانوت بباب ذو مصراعين افقيين يُستخدم العلوي منها وقت النهار كمظلّه للحانوت، والسفلي كنضد للبيع والشراء، وقد يشترك اكثر من تاجر في حانوت واحد، ويتناوبون فيه العمل علي ورديات، فيحدّثنا المؤرخ جمال الدين بن تغري بردي (ت874هـ/1469م) عن حانوت صغير ملاصق لجامع احمد بن طولون كان يُمارس فيه ثلاث من التجّار عملهم بالتعاقب، الاول كان يبيع غزل القطن من الفجر حتي الظهر، والثاني يستخدم الحانوت كمخبز حتي صلاه العصر، اما الثالث فيبيع فيه الحُمّص والفول[1]!

ولقد كان التجّار يتجمّعون حسب تخصصاتهم، فعند باب الفتوح في شمال القاهره وُجد الجزّارون وباعه الحبوب والتين المجفّف، وعلي مقربه منهم كان السروجيون يُمارسون نشاطهم فاذا ما قصدنا الجامع الاقمر لداعبت انوفنا روائح متباينه في اثارتها للشهيه تتصاعد من المطابخ والفاكهيين والشوائيين وبوجه عام من باعه الاطعمه، وحول الجامع الاقمر تراكمت مئات الفوانيس الشمعيه التي تُستخدم بكثره في شهر رمضان وهي علي درجه كبيره من الرقه تنبعث من بريق معدنها الابيض. واذا ما اتجهنا الي باب النصر شرق باب الفتوح فسنلقي انفسنا وسط شلال دافق من الاقمشه المبسوطه يعرضها كل من كانت حرفته تتعلّق بلباس اهل القاهره من حائكين وصبّاغين وغيرهم، وعلي مقربه منهم عُلّقت شباشب ازواجًا في صفوف مُدّت علي حبال، وفي البقه الواقعه بين جامعي الاقمر والخرنفش يحسب المرء نفسه في معرض هائل للطيور يتداخل فيه صوت الدجاج مع ارجاع البلابل وهديل الحمام، فقد كانت الطيور تُعرض في هذا المكان بانواعها، قال المقريزي: "يسلك امامه فيجد سوقا يعرف اخيرا بالوزارزين والدجاجين يباع فيه الاوز، والدجاج والعصافير، وغير ذلك من الطيور، وادركناه عامرا سوقا كبيرا من جملته دكان لا يباع فيها غير العصافير، فيشتريها الصغار للعب بها"[2].

ومن المهم الاشاره الي ان المناطق السكنيه في المدينه كانت تمتد حول منطقه النشاط الاقتصادي؛ لان تمركز المنشات ذات الاغراض التجاريه او الحرفيه في هذه المنطقه يجعل من الصعب استخدامها للاقامه وذلك باستثناء المباني الجماعيه، وتم تنظيم هذه المناطق السكنيه علي اساس تقسيمها الي احياء تُسمي "حارات"، ويحدّد المقريزي طبيعه الحاره بانّها "كلّ محلّه دنت منازلها"، اي كل مكان تتقارب فيه المنازل، ويسرد المقريزي قائمه تضم 38 حاره/حي[3].

وبجوار الجامع الازهر كان يوجد سوق الفرائين، وتُباع فيه انواع الفراء كالسمّور والوشق والعمائم والسنجاب، فكان يستخدمها في اول الامر قوّاد السلطان وكبار الموظفين، ثم استخدمها بعد ذلك في نهايه القرن الرابع عشر نساء الطبقه الثريه، وكان هناك في هذه المنطقه ايضًا سوق النجّارين حيث تُباع المحفورات الخشبيه ومن اشهرها بطبيعه الحال المشربيات، ولم يكن بمقدور هؤلاء الصنّاع الذين استخدموا اصابع اقدامهم في العمل ان يصلوا بصنعتهم الي تلك الدرجه من المهاره والدقه والسرعه لو انهم استخدموا ايديهم[4].

وبالقرب من الغوريه والجامع الازهر وُجدت سوق مزدهره للكفتيين، وهي صناعه النحّاس المُكفَّت او المطعّم الذي كان عنصرًا اساسيًا ولا غني عنه في جهاز العروس، وقد تحدث المقريزي عن هذه الصناعه بشيء من الانبهار والاعتزاز بها، والمح الي انها كانت قد بدات في الانحسار في عصره في منتصف القرن التاسع الهجري، قال:

||سوق الكفتيين: هذا السوق ... يشتملُ علي عدّه حوانيت لعمل الكفت، وهو ما تُطعّم به اواني النحاس من الذهب والفضه، وكان لهذا الصنف من الاعمال بديار مصر رواج عظيم، وللناس في النحاس المكفت رغبه عظيمه، ادركنا من ذلك شيئًا لا يبلغ وصفه واصف لكثرته، فلا تكاد دار تخلو بالقاهره ومصر من عدّه قطع نحاس مكفت، ولا بدّ ان يكون في شوره العروس دكه نحاس مكفت. والدكه: عباره عن شيء شبه السرير يعمل من خشب مطعم بالعاج والابنوس، او من خشب مدهون، وفوق الدكه دست طاسات من نحاس اصفر مكفت بالفضه، وعدّه الدست سبع قطع بعضها اصغر من بعض، تبلغ كبراها ما يسع نحو الاردب من القمح، وطول الاكفات التي نقشت بظاهرها من الفضه نحو الثلث ذراع في عرض اصبعين، ومثل ذلك دست اطباق عدّتها سبعه بعضها في جوف بعض، ويفتح اكبرها نحو الذراعين واكثر، وغير ذلك من المناير والسرج واحقاق الاشنان والطشت والابريق والمبخره، فتبلغ قيمه الدكه من النحاس المكفت زياده علي مائتي دينار ذهبا، وكانت العروس من بنات الامراء او الوزراء او اعيان الكتاب او اماثل التجار تجهز في شورتها (جهازها) عند بناء الزوج عليها سبع دكك، دكه من فضه، ودكه من كفت، ودكه من نحاس ابيض، ودكه من خشب مدهون، ودكه من صيني، ودكه من بلور، ودكه كداهي: وهي الات من ورق مدهون تحمل من الصين، ادركنا منها في الدور شيئا كثيرا، وقد عدم هذا الصنف من مصر الّا شيئا يسيرا||[5]

وبجوار التجارات الكثيره، والصنائع المتعدده، تصدّرت تجارة الرقيق والتوابل علي التوالي تلك التجارات، فقد حظي الشركس والسلاف والجرجيون والاتراك علي اقبال كبير، فكان ثمن الواحد منهم اعلي من مثيله من الزنوج، فعلي سبيل المثال اشتري السلطان قلاوون في حداثته بمبلغ الف قطعه ذهبيه.

وخشيه من وقوع الحريق في القاهره المملوكيه واسواقها بالتحديد، كما حدث في سنه 711هـ/1311م كانت السلطه والمحتسبون والولاه يامرون التجّار والناس "ان يُعمل بجانب كلّ حانوت بالقاهره ومصر[6] زيرٌ اودنّ كبير ملان ماء"[7].

اما التوابل، فقد كان تجّارها يجنون من ورائها ارباحًا طائله حتي انه قيل عنها انها سقطت في بدء الخليقه من الجنه فحملتها مياه النيل وقذفت بها الي ارض مصر، واهم انواع التوابل التي كانت ترد هي القرفه والقرنفل والمستكه والفلفل والزعفران وحتي القرن الخامس عشر كان البلسم شديد التوفر في القاهره، وسُمي تجّار التوابل بتجّار الكارم، ومنذ القرن الثامن والتاسع الهجري ظهر اثر تجار الكارم علي المجتمع المماليكي، وصاروا بمثابه طبقه رجال الاعمال في عصرنا هذا؛ وكان لهم رئيس بمثابه رئيس نقابه اليوم هو "رئيس الكارميه"، ولقد وصلت ثروه بعضهم مبلغًا عظيمًا جعل الدوله تقترض منهم في بعض اوقات الازمات؛ فهذا التاجر الكبير، والصدر الشهير تاج الدين الكارمي تُوفي سنه 732هـ/1332م مخلّفًا وراءه ثروه قُدّرت ب100 الف دينار ذهبي، اي ما يعادل 15 مليون دولار اليوم، هذا غير البضائع والاثاث والاملاك بحسب العلامه ابن كثير[8].

وقد كان لهؤلاء الكارميه جهود كبيره في اقامه المنشات الخدميه الموقوفه مثل المدارس والمساجد والاربطه وغيرها، وتعجّ مصادر التراجم المملوكيه بسيَر العشرات من هؤلاء، فهذا سراج الدين التاجر الكارمي الاسكندراني المتوفي سنه 714هـ/1314م "كان من اعيان الكارم، وذوي الجود والمكارم، رئيساً وجيهاً، فاضلاً نبيهاً، وقف وقوفاً جيده، وبني مدرسه بالثغر [السكندري]"[9].

اشتُهرت القاهره كذلك بتجاره بعض المنتجات الحيوانيه، مثل درقات السلاحف، وريش النعام، والسياط من جلد فرس النهر، والجلد المراكشي، وقد كانت الخامات المعدنيه تُجلب من اوروبا عدا الذهب الذي كان ياتي من السودان، والاحجار الكريمه من سيلان والهند وايران، ونذكر ايضًا انواع السكر المصنوع في الفسطاط، والسجّاد المنسوج في مصر، يقول فولكوف: "اذا ما اردنا الاختصار لقلنا: كان المرء يجدُ كل شيء في القاهره، ومن كل انحاء العالم من بغداد والجزيره العربيه والقسطنطينيه وسوريا والمغرب كان ياتي النخّاسون الي القاهره ليزوّدوها بالعبيد"[10]!

وقد تنوعت ماكل اهل القاهره في الزمن المملوكي، وقد ترك لنا الرحّاله الايطالي فريسكو بالدي وصفًا مهمًا لهذه العادات؛ فقد زار المدينه سنه 785هـ/1384م؛ فقد ذكر ان اكثر من مائه الف من سكّانها كانوا ينامون في الحدائق او علي قارعه الطريق، وانّ عددًا من الطبّاخين كانوا يُمارسون مهنتهم في الطرقات ليلاً ونهارًا، ويطبخون في قدور بديعه من النحاس المبيض، وطعامهم فائق الجوده الي الحد الذي يُفضّل الناس معه الا يطبخوا في منازلهم، ويكتفون بشرائه من الاسواق[11]!

وقد ترك لنا العلامه المقريزي (ت845هـ/1442م) وصفًا مهمًا لطعام اهل القاهره انئذ؛ حيث قال: "وماكل اهل القاهره الدميس (الفول)، والصير (السمك الصغير)، والصحناه (السمك المطحون او الصغير المملّح)، والبطارخ، ولا تُصنعُ النيده، وهي حلاوه القمح، الا بها وبغيرها من الديار المصريه، وفيها جوارٍ طباخات اصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين، لهنّ في الطبخ صناعه عجيبه ورياسه متقدّمه"[12].

*باحث في التاريخ والتراث والحضاره الاسلاميه

[1] اولج فولكف: القاهره ص103.

[2] المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والاثار 2/ 229. دار الكتب العلميه – بيروت.

[3] اندريه ريمون: القاهره تاريخ حاضره ص147.

[4] جاستون فييت: القاهره مدينه الفن والتجاره ص161.

[5] المقريزي: المواعظ والاعتبار 3/ 190.

[6] المقصود بمصر، مدينه الفسطاط.

[7] ابن تغري بردي: النجوم الزاهره في ملوك مصر والقاهره 9/ 67. وزاره الارشاد القومي، دار الكتب القوميه – مصر.

[8] البدايه والنهايه 14/ 156. دار الفكر العربي – بيروت.

[9] الصفدي: اعيان العصر واعوان النصر.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل