المحتوى الرئيسى

ثلاثة شواهد من النهضة والاستقلال

06/12 00:52

في تقديمه للطبعه الثانيه (1966) من كتاب «مقال في المنهج» تاليف رينيه ديكارت، وترجمه محمود محمد الخضيري، يطلعنا الدكتور محمد مصطفى حلمي علي صوره مفارقه لشروط وفاعليه الدرس الجامعي في مرحلته التاسيسيه، وكيف يمكنه ان ينتج مثقفين لهم فاعليه، تحتاج بدورها للتراكم كي تستطيع ان تدفع نحو افاق مطرده التقدم. والشاهد علي ما فيه من اطاله به دلالات كثيره:

«في عام 1925 حُولت الجامعه المصريه من جامعة اهلية الي جامعة حكومية، وكنا وقتئذ سبعه من الطلاب قد التحقنا بالسنه الاولي من قسم الفلسفة بكليه الاداب بهذه الجامعه الحكوميه التي كانت الهيئه القائمه علي التدريس فيها من كبار الاساتذه الاجانب في الجامعات الاوروبيه، ولم يكن بين أعضاء هيئه التدريس هذه الا استاذ مصري واحد وهو استاذنا الجليل الدكتور طه حسين. فلم نكن نتلقي بطبيعه الحال محاضرات بالعربيه الا محاضراته التي كانت في الادب العربي، علي حين كنا نتلقي محاضرات المواد الاخري بلغات اصحابها من اساتذه باريس وبروكسل ولندن وغيرها، فدرسنا الفلسفه في اول عهدنا بالدراسه الجامعيه في السنه الاولي علي يد استاذ جليل القدر من اساتذه السوربون هو الاستاذ اميل برييه، ثم علي تعاقب السنين الدراسيه حتي اخر مرحله الليسانس علي ايدي الاساتذه الاجلاء لالاند وروبي واسرتييه وروجييه وبواييه، الا الفلسفه الاسلاميه التي ابي استاذنا الجليل الدكتور طه حسين الا ان يقوم بتدريسها مصري مسلم فعين لها المغفور له استاذنا الاكبر الشيخ مصطفي عبدالرازق في عام 1927، كما كان قد عين من قبل في عام 1926 استاذنا الجليل المغفور له الدكتور منصور فهمي استاذاً لعلم الاخلاق.

ولعل من اطرف ما اذكر اننا ونحن طلاب للفلسفه في السنه الاولي لم نسمع عن ديكارت، ولم نعرف شيئاً من فلسفه ديكارت ومنهج ديكارت، من استاذنا الفرنسي اميل برييه الذي كان يحاضرنا وقتئذ في تاريخ الفلسفه اليونانيه، وانما كان ذلك من استاذنا الدكتور طه حسين، وفي محاضراته عن الشعر الجاهلي، وفي كتابه الذي كتبه بعد ذلك عن هذا الشعر الجاهلي، وذلك حيث كان يحدثنا عن منهجه في البحث، وانه اثر ان يكون هذا المنهج هو منهج ديكارت في العلم وفي الفلسفه».

ما يمكن ان نستخلصه من ذلك الشاهد الذي يرجع لمرحله تم التوافق علي تسميتها «النهضه» ان طلاب الفلسفه السبعه كانوا اتين من «جهل تام» بمبادئ الفلسفه - اذ كانوا يجهلون ديكارت - لكنهم كانوا مفعمين بالامل، نعرف ان احد الطلاب السبعه باشر فور تخرجه محاوله المشاركه في مهمه صعبه وهي جسر الهوه الهائله التي تفصلنا عن الازمنه الحديثه، فنقل في عام 1930 «مقال عن المنهج» للعربيه بعد ثلاثه قرون كامله من صدوره، وان زميله اتم دراسته، واصبح استاذاً للفلسفه، لن نحتاج لمعرفه مصائر الباقين، فالمناخ العام كان شديد الطموح، سريع الخطو، ونلاحظ ان الجامعه التي بدات اهليه (1908) تحولت حكوميه كي تستطيع ان تغري تلك الاسماء الكبيره بالتدريس بها، نكتفي بمثال اندريه لالاند، ففي تقديمه لتعريبه «موسوعه لالاند الفلسفيه» يذكر خليل احمد خليل ان «الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند (1867-1963) علَّم في جامعة القاهره ما بين 1926 و1928، ثم ما بين 1929 و1930. وعمل استاذًا في جامعة فؤاد الأول (1937- 1940).

قد يكون طه حسين هو قوه الدفع الرئيسيه في خيارات كليه الاداب، وهو يقدم لنا شاهدنا الثاني علي العلاقه بين المثقف والجمهور الذي يتطلع اليه واثقاً في ارائه، ففي تقديمه لكتابه «مستقبل الثقافه في مصر» - 1938 - يقر ان اسئله الشباب كانت احد دوافعه للكتابه: «اغراني باملاء هذا الكتاب امران: احدهما ما كان من امضاء المعاهده بيننا وبين الانكليز في لندره.. ومن فوز مصر بجزء عظيم من املها في تحقيق استقلالها الخارجي وسيادتها الداخليه...ان مصر تبدا عهدًا جديدًا من حياتها ان كسبت فيه بعض الحقوق، فان عليها ان تنهض فيه بواجبات خطيره وتبعات ثقال.

وما كان اشد تاثري بهذه الحركه اليسيره الساذجه التي دفعت فريقًا من الشباب الجامعيين في العام الماضي، الي ان يسالوا المفكرين وقاده الراي عما يرون في واجب مصر بعد امضاء المعاهده مع الانكليز. فقد اقبل الشباب الجامعيون يسالوننا ان نبصِّرهم بامورهم ونهديهم الي واجباتهم، وجعل كل منا يتحدث اليهم في ذلك حديثا سريعًا مرتجلًا بمقدار ما يسمح له وقته وعمله وتفكيره السريع في حياه سريعه تمر بنا او نمر بها مر البرق.

وقد تحدثت الي هؤلاء الشباب فيمن تحدث، ولكني لم اقتنع بكفايه ما تحدثت اليهم به، ولم ار اني قد دللتهم علي ما كان يجب ان ادلهم عليه، وهديتهم الي ما كان يجب ان اهديهم اليه، واستقر في نفسي ان واجبنا في ذات الثقافه والتعليم بعد الاستقلال اعظم خطرًا واشد تعقيدًا مما تحدثت به اليهم في ساعه من نهار، او في ساعه من ليل لا ادري وفي قاعه من قاعات الجامعة الأميركية، وانه يحــتاج الي جهد اشق وتفكير اعمق وبحث اكــثر تفصيلًا».

طه حسين الذي شغل تلك المكانه الهائله في نفوس طلابه بالجامعه، كان يشــغل مكانه مقاربه خارج قاعات الدرس، وربما مثلت حياته نفسها وقدرته علي تحدي ظروفه الشخصيه مصدر جذب هائلاً جعله واحداً ممن يتتبع المصريون، واحياناً العرب، اراءهــم ومواقفــهم، ليس فقط في الشان العام، ولكــن ربما في بعض من الخيارات الخاصه التي تعــترض مسارات الحياه.

وشاهدُنا من طه حسين في «مستقبل الثقافه في مصر» يخبرنا ان «اسئله» الثقافه تتعاظم اهميتها في وقت التحولات الكبري، فهو اذ ياتي بعد سنتين من توقيع معاهده 1936؛ التي كانت بمثابه «جزء عظيم من استقلال مصر» كما يصفها بدقه؛ يؤكد ان ما هو ثقافي هو في بؤره الاهتمام بموازاه شان سياسي ووطني هائل التاثير في مجمل الخيارات الاقتصاديه والاجتماعيه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل