المحتوى الرئيسى

القاهرة: مدينتى وثورتنا «٢٠»

06/11 09:52

في طريقي الي التحرير. العائله كلها هناك. صار تقليدا: الجمعه والثلاثاء مليونيات. الجمعه الماضيه ٢٨ يناير، كانت «جمعة الغضب»، واليوم «جمعة الرحيل» ــ رحيل مبارك نامل. وصار تقليدا ايضا ان صلاه الجمعه في التحرير يعقبها قداس ــ ويشترك المصلون جميعا في ترديد «امين». الشيخ مظهر شاهين، امام جامع عمر مكرم، الشاب يعبر عما يشغل الناس، ويربط بين اعمالنا والقيم الروحيه. يوجه خطابه للـ«مصريين»، ويذكر، فيما يذكر، قدوه السيد المسيح. يختم الصلاه بـ«اللهم ثبتنا! اللهم اعد لنا حقوقنا! لا نريدها حربا بل نريدها سلاما! اللهم فاشهد اننا نحب هذا البلد ونحب ترابه. اللهم اعد لنا كرامتنا! اللهم وحدنا! اللهم احقن دماءنا!».. ولا تهدر امانينا المشتركه في ارجاء الميدان.

القضايا التي نحاول حسمها في شوارع مصر قضايا تهم العالم اجمع، واكثرها الحاحا اليوم: هل يمكن لثوره شعبيه، تصر علي ان تكون ديمقراطيه، قاعديه، جمعيه، سلميه ــ هل يمكن لها ان تنجح؟

وفود جاءت من مختلف مدن ومحافظات البلاد. عطل النظام القطارات، لكن الناس وصلت علي اي حال. اعلام ورايات من الاسكندريه واسيوط والبحيره وبورسعيد وسوهاج والسويس وغيرها ترفرف في الميدان، والهتاف يملا الفضاء: «الشرعيه من التحرير».

بقي البلطجيه في الشوارع الجانبيه. الشباب يحمون الميدان، فالميدان يوفر اليوم، كما وفر في كل يوم لم يكن فيه قتال ــ يوفر مساحه للتلاقي والنقاش. افكار كثيره تتبلور وتناقش؛ الاكبر سنا في الاغلب لازال عندهم امل في الديمقراطيه، يتشوقون الي الانتخابات الشفافه النزيهه، الي الحكومه التي تمثل الشعب، الي كل ما تمنوه طيله اعمارهم. اما الشباب فبعضهم يقول ان هذه المرحله قد انتهت، انتهت بالنسبه للعالم كله، ان صيغ الديمقراطيه القديمه لم تعد مناسبه او مجديه، ان في العشرين سنه الماضيه اتت كل الحركات الفعاله من خارج الاطر التقليديه، وان الهياكل والانماط الجامده للدوله من جانب والقوه المتحركه والمنسابه لراس المال من الجانب الاخر لا يمكن ان يتعايشا بدون ان يؤدي هذا الي القمع.

ما يحدث في التحرير الان هو عكس «الخواء السياسي»، عندنا سوق من الافكار والنظريات والاراء. الميدان حافل بالامل وبالافكار، وشبابنا الشهم يؤمنه ويحميه.

يختطفون الناس من حواف الميدان. شاباتان من الناشطات حاول البلطجيه اختطافهما، فتدخل ضباط من القوات المسلحه وانقذوا الشابتين وهربوهما في سياره اسعاف. سته من النشطاء اختفوا تماما.

ليتني استطيع ان ابقي في الميدان طول اليوم، لكن علي ان اقوم بالكثير من اللقاءات والحوارات. لا اكف عن الحديث. سئمت صوتي، وهو علي كل حال قد تعب وصار من الصعب سماعه. احمد الله علي غياب قواعد المرور وشرطه المرور. اقود السياره من اقصر طريق واتركها في اقرب نقطه وادخل المكان جريا واتحدث ثم اجري خارجه وابدا من جديد.

اقرا شهاده صديقنا ميسره: اختطفه البلطجيه في شارع طلعت حرب، لكن الذي ضربه كان الجيش، وفي المتحف المصري. نقلوه من مكان لاخر في سياره اسعاف وكانوا يضربونه داخلها. يقول ان ليس كلهم ظالمون او مفترون، وانهم بالفعل يعتقدون ان الثوره يحركها عملاء لقوي خارجيه.

يصلنا ايضا تاريخ مفصل لسيره حياه نائب الرئيس الجديد ورئيس المخابرات المزمن، اللواء عمر سليمان، ومسيرته المهنيه. يفصل التاريخ تورطه الواسع والشخصي والعميق في التعذيب. الميدان بالطبع يعرف كل شيء: «لا مبارك ولا سليمان، مش عايزين عملاء كمان».

لا اخبار بعد عن احمد سيف وزملائه، او بالاصح نعرف ان المخابرات العسكريه تحتجزهم ولا نعرف شيئا اخر. اثناء اختطافهم ترك احدهم محموله مفتوحا وعندنا الان نص لما سجله؛ مره اخري الاتهامات بالعماله والجاسوسيه: «اذا طلعتوا الشارع دلوقتي الناس هتقتلكم، هم عارفين انتو ايه».

احتاج ان اذهب للميدان لترتفع روحي المعنويه، لكن الوقت لا يسمح. انهي الحديث مع البي بي سي العربيه، واسرع الي البيت لاستقبال فريق قناه تليفزيون هنديه. كنت قد اقترحت ان اذهب اليهم في فندقهم، في الماريوت، لكنهم قالوا انهم هددوا وقيل لهم ان الفندق عنده تعليمات بالا يسمح لهم بالتصوير. لست مرتاحه لكني ارحب بهم، بعد دقيقتين يرن جرس الباب مره اخري، افتح الباب فاجد ابنه البوابه تسالني من السيدات اللاتي دخلن عندي؟ لا اكاد اصدق السؤال. اجيب باختصار: «ضيوف.» تقول «ده بيتك طبعا بس المباحث لفوا علي الشارع وبيسالوا مين عايش في كل شقه وبيسالوا عن الاجانب وعن اي حد بيتعامل مع الاعلام واحنا لازم نبلغهم لو فيه اجانب او لو فيه اعلام جه هنا. ضيوفك حتقعد قد ايه؟» اقول «هيقعدوا علي قد الزياره». «اغلق الباب واقدم لهن الشاي واطلب عمر في التليفون فيقترح ان نبيت عند اخي الليله. حين ننتهي من التسجيل اطلب من الشابتين ان تنتظرا». «اجمع حاجاتي الضروريه في حقيبه صغيره واغادر معهن. هذا البيت بيتي منذ كنت في السابعه، والان، للمره الاولي، اشعر فيه بالقلق والغربه».

عامل الجراج يضطر الي تحريك سياره الدفع الرباعي مره اخري. اعتذر واقول اني لم اكن انوي الخروج ولكن عندنا ظرفا عائليا ولن اعود الليله. ادير الموتور ويتصل بي برنامج «الديمقراطيه الان» فعندي لقاء مجدول معهم. لا اريد ان احادثهم وانا اقود السياره في ظلام حظر التجول. اجلس في السياره في مدخل الجراج المعتم واحادث الناشطين الامريكيين لمده ساعه.

صوره ابيض واسود صغيره مشققه: اسره ابي منتشرون علي المدرجات الخضراء لحديقه الاندلس. شيء يشدني الي هذه الصوره: جدتي، نينا بابا، في بالطو داكن محافظ تجلس علي النجيله، ساقاها ملمومتان باناقه، وتجلس ابنتاها كل واحده الي جانب منها. ابي الصغير، يداه في جيبي بنطاله القصير، يقف علي مسافه من الجماعه ومنفصل عنها، مترفع عنها قليلا في ذلك الوضع الذي سيلازمه مدي الحياه. كانوا هناك، علي تلك الدرجه المقابله لي وانا اجلس مع عمر نتشارك في دكه مشمسه.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل