المحتوى الرئيسى

نزار قباني في متاهة هزيمة حزيران!

06/10 16:02

عندما ضربت الطائرات الصهيونيه المطارات العربيه النائمه في العسل صباح الخامس من يونيو/حزيران 1967، كان احد ضحاياها غير المباشرين الشاعر العربي المعروف نزار قبانى، الذي كان هو الاخر نائما في العسل وان علي طريقته الخاصه!

فمنذ 1958 زمن اخر قصائده الوطنيه، ظل نزار غارقا في مساحه شعريه تدور بين شفاه المراه وشعرها، وصدرها ونهديها وسريرها، لا يخرج من غرفه الا ليدخل غرفه اخري، ولا يغادر امراه حتي يسقط علي اخري.. فلما كان صباح الماساه الاكثر ذلا في التاريخ العربي، وجد نزار نفسه مكشوفا كالمطارات.. مستباحا كالطائرات.. محتلا كسيناء والجولان والضفه وغزه.

كان نزار قباني  من رموز مدرسه "ادب الفراش" -علي راي عباس العقاد- ومع ذلك كان اسرعهم افاقه من الصدمه، ليتحول فورا الي سكين ينغرز في كل مكان من الجسد العربي، مشوبا بقدر كبير من الالم والعشوائيه وهو يشخص الامراض التي اوصلت الامه العظيمه الي هذا الدرك المنحط.

وكانت الثمره ديوانه السياسي الاشهر "هوامش علي دفتر النكسه" الذي انتشر كالنار في الهشيم في دنيا امه وجدت نفسها فجاه تستيقظ علي فاجعه هزيمتها المذله، وهي التي نامت علي اغاني النصر وهدير احمد سعيد في "صوت العرب" يبشر بتحرير فلسطين خلال ساعات!

وبالنظر للحاله الشعريه التي كان عليها نزار الشاعر قبل الهزيمه، فلم يكن منطقيا ان تاتي هوامشه خاليه من شطط الشعراء الذين في كل واد يهيمون، وصحيح انه سرد عددا كبيرا من مظاهر الازمه الحضاريه التي تنخر في الامه مثل:

"اذا خسرنا الحرب لا غرابَه/ لاننا ندخلها بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابه/ بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه/لاننا ندخلها بمنطق الطبله والربابه".

"كلفنا ارتجالنا/خمسين الف خيمه جديده"!

"ما دخل اليهود من حدودنا/وانما../ تسربوا كالنمل من عيوبنا".

مع كل ذلك، الا انه من السهل لقراءه متامله في هوامش نزار ان نكتشف انها كانت بركان شاعر انفجر في ليل بهيم فاحرق امامه كل شيء.. وان الشاعر لم يكن قادرا يومها علي تحديد الاسباب الحقيقيه للهزيمه الشامله التي لحقت بالامه، فاختلطت عنده المظاهر بالاسباب، وتناثرت الاتهامات عشوائيا وطائشه.

وحتي هو نفسه عاد بعد سنوات ليتمثل بعض مظاهر الهزيمه التي سبق ان انتقدها، بل دمرها كما يفعل الثور الهائج في متحف من زجاج.

وباستثناء الهامش رقم 17 الذي كشف بادب ملفت للنظر احد الاسباب الحقيقيه للهزيمه وهو قوله:

"لو احد يمنحني الامان/ من عسكر السلطان/ قلت له: يا حضره السلطان/ لقد خسرت الحرب مرتين/ لانك انفصلت عن قضيه الانسان".

باستثناء ذلك، فقد طاشت الهوامش تجلد الجميع دون تمييز جلدا قاسيا، وتغرق في المظاهر وتناي عن الاسباب الحقيقيه للهزيمه.

والغريب ان مجمل الهوامش النزاريه تكاد تتعامل مع الهزيمه وكانها مصيبه انظمه محافظه تقليديه غارقه في الماضي، متجاهلا ان نظامين علي الاقل من الانظمه العربيه المهزومه كانا في ذروه الراديكاليه اليساريه، وهما نظاما مصر الناصري وسوريا البعثي.

وحتي النظام الاردني رغم قشرته المحافظه فانه كان بعيدا عن التهم التي وجهها نزار لانظمه الهزيمه مثل قوله:

"انعي لكم، يا اصدقائي، اللغه القديمه/ والكتب القديمه/ انعي لكم/ كلامنا المثقوب كالاحذيه القديمه/ ومفردات العهر والهجاء والشتيمه".

"خمسه الاف سنه/ ونحن في السرداب/ ذقوننا طويله/ نقودنا مجهوله/ عيوننا مرافئ للذباب".

وبغض النظر عن ان نزار الشاعر كان داخلا في بعض ما اتهم به غيره، فان الصواب جانبه تماما وهو يتحدث عن خمسه الاف سنه من عمر الامه ويزعم انها كانت زمن تخلف وجهل وقذاره، او ان اللغه القديمه والكتب القديمه كانت من اسباب الهزيمه وضحاياها.

هذه تنفيسات ذاتيه لشاعر ضبط متلبسا عاريا علي سرير المتعه وبلاده تنهزم امام عدوها التاريخي المتربص بها، شاعر يجيد هدم كل شيء، وليست رؤي مثقف صادق قادر علي وضع النقاط علي الحروف، وتشخيص الازمه تشخيصا سليما خاليا من العشوائيه والانفعالات المؤقته، وان يكون فنار نجاه ورائدا لاهله في المحن.

سوف يلاحظ القارئ للاعمال السياسيه الكامله لنزار قباني انه انقلب علي ابرز تشخيصاته للهزيمه، ربما بسبب ان الهوامش كانت نفثات مصدوم استيقظ والعدو يحتل بيته. او ربما هي احد مظاهر الداء الوبيل الذي يسكن كثيرا من الشعراء كما جاء في القران الكريم "... الم تر انهم في كل واد يهيمون وانهم يقولون ما لا يفعلون".

وفي زمن متاخر، سوف نري نزار الذي ادان زمنه بانه زمن الكذب والتخلف والقهر هو الذي يمدح الفتره نفسها وهو يرثي طه حسين:

"عد الينا.. فان عصرك عصر/ ذهبيّ.. ونحن عصر ثاني/ عد الينا.. فان ما يكتب (اليوم!)/ صغير الرؤي.. صغير المعاني".

اما في رثائه للرئيس المصري جمال عبد الناصر، فهو ينقض كل ما قاله عن الذل والفشل والعار، وعن الاستبداد والسلطان الذي انتهك كرامه الانسان:

"زمانك بستان.. وعصرك اخضرُ/ وذكراك عصفور في القلب ينقرُ/ دخلت علي تاريخنا ذات ليله/ فرائحه التاريخ مسك وعنبرُ/ وكنت فكانت في الحقول سنابلٌ/ وكانت عصافير.. وكان صنوبرُ".

"وعندما يسالنا اولادنا/ من انتم؟/ في اي عصر عشتم؟/ في عصر اي ملهم؟/ في عصر اي ساحر؟/  نجيبهم: في عصر عبد الناصر/ الله.. ما اروعها شهاده/ ان يوجد الانسان في زمان عبد الناصر".

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل