المحتوى الرئيسى

محمد حسين يكتب: عصير قصب مع التنين

06/09 10:13

نظره الغل علي وجه التنين. شفطه عصير قصب. الحصان خائف من اللسان الملتهب. شفطه قصب. انطباع الرضا علي وجه الفارس كانه يداعب قطه ولن يحشر الحربه في فم التنين. شفطه قصب طويله. تفاصيل درع الفارس وتطريز السرج. شف… لقد نفد عصير القصب.

بجوار سينما الزيتون في عصرها الذهبي، شمس الظهيره تخترق محل عصير القصب في مخالفه صريحه لدستور محلات العصير (ان يكون ظليلا ويوحي بالرطوبه ليضغط علي بقعه العطش في ادمغتهم)، لكني كنت افضل هذا المحل تحديدا بسبب لوحه القديس مارجرجس المعلقه به، وكذلك امي المنهكه من رحله القطار اليوميه، كان المحل يبدو لها كواحه في منتصف الطريق للمنزل.

تصلح القصه كاحدي روايات الوحده الوطنيه وتخطي الحواجز الطائفيه، لولا انني بعد دسته سنوات، فهمت من صديق لي ان اللوحه غرضها هو اعلان الهويه الطائفيه للمحل امام الزبائن. صديقي لم يكن يتعامل مع اي محل الا بعد تفحص الحائط المواجه للباب، باحثا عن ايه قرانيه او صوره للبابا شنوده، وهو ما سيحدد قراره بالتعامل مع المحل او تفحص البضاعه بحياديه ثم مغادرته. الصديق لم يكن يفعل هذا كقرار يستهدف منفعه طائفته، لكن ببساطه، عقله المعوي لم يكن يتحمل هذا.

تاملاتي في لوحه القديس كانت خلال ذروه العنف الطائفي في التسعينيات، اصابنا منه عمليه سطو علي متجر ذهب باكثر الشوارع ازدحاما، كان غرضه انتقاميا اكثر من السرقه، لكن بشكل عام كان سكان الحي من الافنديه الذين يكتمون عواطفهم تجاه الطائفه الاخري، بحيث يظل التعامل باردا كما تقتضي قواعد الوحده الوطنيه، بينما يختزن القلب ما كان طوال عمره بالقلب، او بالامعاء كما حال صديقي.

نشاه حي الزيتون كانت شبيهه بتاريخ البلد نفسه، فالقطار يقسم الحي لضفتين شرقيه واخري غربيه: صارت الضفه الشرقيه (المحاذيه لحي هليوبوليس) جاذبه للاجانب والبرجوازيه المتوسطه، بينما ظلت الضفه الغربيه تابعه للاقطاعيات الزراعيه التي تفتت مع الزمن، ثم تحولت الي قبله للمهاجرين من الدلتا والصعيد، وبالتدريج اختفت الزراعات وحل مكانها نمط سكني اقرب للارياف، بمنازل صغيره المساحه وشوارع ضيقه وملتويه، حيث تسيطر مجموعات من المهاجرين ذوي الانتماء الجهوي والعائلي علي شوارع وبلوكات باكملها، وحيث تفوح رائحه فاضحه من الغرباء.

في البدايه تركزت احدي الطائفتين بالضفه الشرقيه لكونها اكثر انفتاحا، ولهذا انتشرت بها الكنائس والاديره ومدرسه راهبات، ثم صار السكن بها من قبيل التبارك، لكن الدوله لم تكن مرتاحه لهذا، ووسط الكنائس تم السماح للطائفه الاخري ببناء مسجد متشدد، ثم مسجد اخر اكبر يحمل اسم شقيق رئيس الجمهوريه! هكذا تعلمت الدوله من الولاه العثمانيين؛ ان تساند الضعيف حتي يقوي، وتحارب القوي حتي يضعف.

ولا يحتاج الامر لذكاء حتي نعرف الميول السياسيه لكل ضفه، في الشرق اختاروا مرشح الدوله وليس احد اخر، وفي الغرب اختاروا مرشح الجماعه وليس احد اخر، شاركت المساجد والكنائس في دفع الناس لاقصي الطرفين، لكننا لم نر الا دعايه المساجد، بحكم انها كانت ضد رجل الدوله في تلك اللحظه.

وبعد، تختزن الامعاء ما كان طوال عمره بالامعاء، دارت عجله الروليت مره واخري، نزل هؤلاء من علي حجر الدوله لتسحقهم بنعلها، وصعد الاخرون لحجرها متناسين النعل الذي دهسهم بالامس، وكانت طبيعيه تلك الاحتكاكات اليوميه بين الطرفين، لم يعد الافنديه قادرين علي التحكم بامعائهم، وفي الاجواء ابخره شماته وتحفز لا ينكرها الا الحمقي؛ نحن لسنا في كفر درويش بمحافظه بني سويف، الكوارث تحدث فقط في ابعد الاماكن.

منذ اسابيع كنت في شارع خلف الكاتدرائيه، وعلي واجهه محل الجزار كانت لافته واضحه “يوجد لحم خنزير”، اندهشت لان الامر لم يكن يحتاج الي لافته، فلوحه القديس كانت تكفي لاعلان الهويه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل