المحتوى الرئيسى

تركيا.. ليست انتخابات محلية

06/07 21:59

بالامكان تغطيه الانتخابات التركيه بالارقام واستطلاعات الرأي العام وعدد المقاعد التي سيحصل عليها هذا الحزب او ذاك، وتفاعل الأسواق المالية وغيرها من المتغيرات اللحظيه للحدث كما هي عاده الاعلام، وحينها لن تختلف هذه الانتخابات عن الانتخابات البريطانيه او البرازيليه او الكوريه سوي انها تحدث في تركيا، ثم لا تلبث ان تتراجع عناوينها ويسدل الستار ويبدا الحديث عن الانتخابات التاليه.

بيد ان لهذه الانتخابات اكثر من عنوان يشتق من نجاحات الحزب الحاكم علي مدي 13 عاما، لكن الحدث الذي سيحدد المسار السياسي للدوله الاكبر في المنطقه ومقدرتها من عدمها علي القيام بدور محلي واقليمي مفصلي في منطقه يعاد تشكيلها بشكل جذري؛ يستدعي عنوانا ذا دلاله تخص من يعيش علي جغرافيا الحدث وفي محيطها كما يخص هويه المحيط.

ما تريده تركيا من هذه الانتخابات بشكل اساسي هو صمام دستوري يضمن استقرار الدوله الذي تحقق علي مدي الاعوام الـ12 الماضيه. ما تريده -بعباره اخري- هو نهايه دستوريه لمشهد شلل سياسي امضت فيه نصف قرن، تمثل بمسلسل حكومات ائتلافيه هزيله وصل عددها الي ستين وخرجت منه بوصول الحزب الحاكم الذي استطاع تشكيل اول حكومه اغلبيه.

الخروج كان مقترنا بجماهيريه استثنائيه حققها الحزب الحاكم وما زال يحققها، لكن المطلوب هو مؤسسه دستوريه تحفظ الاستقرار وتصنع القرار في ظرف هشاشه برلمانيه محتمله الحدوث في اي نظام انتخابي في مجتمع سياسي تعددي. هذه المؤسسه هي النظام الرئاسي، والقرارات الكبري هي كمٌّ من الاصلاحات السياسيه والقضائيه والاجتماعيه التي تدفع مسيره النمو.

ما تنكب عليه تركيا هو اعاده بناء لكيان سياسي واجتماعي تنحدر منه، يتمثل بدوله مركزيه في مجتمع تعددي واستقرار سياسي، وهي المعالم الاساسيه للمنظومه السياسيه والاجتماعيه العثمانيه التي ادارت مجتمعا اشتمل علي ثمانين عرقا ودينا ومذهبا.

هذه المنظومه تعطلت بقيام الدوله التركيه الحديثه، وتحول الكيان السياسي للدوله من كيان هويه الي كيان قوميه. التحول استنزف الدوله داخليا علي جبهات متعدده، وحرمها اقليميا من عمق اجتماعي وسياسي طبيعي فضلا عن فلك سياسي.

ليس مجانبه للصواب -في هذا السياق- القول ان تركيا "تتعثمن" لكنها "عثمنه" اداريه داخليه، والانتخابات هي قنطرتها لعبور دستوري الي اليات التحول في اداره الدوله والمجتمع. ورغم ان العثمانيه وعاء لنظام اقليمي، لكن الاصلاحات التركيه يغيب فيها البعد الاقليمي وتهمل بشكل واضح التاطير الفكري الاقليمي رغم حضور مادته الغنيه في الارشيف العثماني، فالدوله -ولحسابات تعتبرها موضع حساسيه اقليميه- تجمع بين النظم الاداريه للمنظومه العثمانيه في الداخل وبين السياسه الخارجيه للدوله القوميه.

لكن المهم في الاصلاحات التركيه هو انسجامها -وفي لحظه استثنائيه من تاريخ المنطقه- مع الهويه القيميه والاجتماعيه والسياسيه لمجتمعات المنطقه، ومع نظمها الاداريه التي استطاعت ان تنشئ بها دولا ومجتمعات ناجحه بعد تشظي المجتمع الاقليمي في اعقاب الحرب العالميه الاولي.

ما يجري في المحيط العربي هو عكس ما يجري في تركيا، حيث انهيار الدوله وتفكك المجتمع واختفاء التجمعات الحضريه واستئصال مقومات النهوض، وصولا الي زوال الخريطه السياسيه والاجتماعيه التي استطاعت من خلالها مجتمعات المحيط العربي والمجتمع التركي استئناف التعايش الاقليمي في حقبه الدول القوميه.

تسجل الدوله في المحيط العربي -ومنذ ظهور الحزمه الطائفيه في كيانها السياسي في اعقاب ثوره ايران- تراجعا رتيبا مطلقا وسلسله تحولات اجتماعيه متلازمه: تراجع الدوله يقود الي تراجع المجتمع الذي يقود بدوره الي تراجع المواطنه وتقهقر المجتمع الي مكون العشيره والقريه، وضياع الحقوق والامن.

هذه المتلازمه الاجتماعيه ادخلت مجتمعات المنطقه في بحث فطري عن بدائل للخروج من الازمه الشامله. في هذا النمط من البحث عن الحل، ينخفض سقف المطالب لدي المجتمع والفرد، ولا اعتبار لشيء فيه اكثر من مطلب النجاه بالنفس والقيم علي يد شريك مستامن علي القيم.

تحت واقع هذه المعطيات انقسمت جغرافيه المشرق العربي الي جغرافيتين متميزتين: شمال (الهلال الخصيب) تغيب عنه الدوله، وجنوب (الجزيره العربيه) ما زالت الدوله فيه قائمه امام تحديات خارجيه وداخليه.

في جغرافيه الشمال تتراجع فكره الدوله القوميه وتولد فكره دوله الهويه ثقافيا وسياسيا، وهو منحي سياسي اجتماعي يعيد انتاج نفسه بعد قرن من معطيات مشابهه خلال الاستفتاء علي المصير السياسي لمدينه الموصل عام 1918، بعد الحرب العالميه الاولي، بين البقاء مع بقايا النظام السياسي العثماني ممثلا بدوله تركيا، وبين نظام سياسي يجلبه المحتل الانجليزي.

كان اهل السنه الذين مثلوا النظام العثماني هم الطرف الخاسر في الحرب، وجاء اختيار الحاضره العربيه السنيه الاكبر في المنطقه بوازع الفرز القيمي الذي تمخضت عنه الحرب، وجاءت النتيجه كما يعرفها اهل المدينه وتتناقلها اجيالهم وهي البقاء مع "المسلم" (بلفظه الناس العاديين)، رغم الرؤيه الرسميه المخالفه التي تبنتها الدوله العراقيه ومناهج التدريس.

من الجانب التركي (ومن جانب اي دوله اقليميه بشكل عام) يمثل المحيط الاقليمي الفاقد لمنظومه الدوله والمجتمع سيوله فكريه وسياسيه تجعل من مجتمعه مزرعه سياسيه لمن يسفح الاموال، هذه البيئه اعسر علي الهندسه الاقليميه -بالنسبه للدوله الاقليميه- من تلك التي تحكمها نظم هرميه، واصعب علي الولوج لمن اعتاد باب الوزاره والسفاره مدخلا واعتاد طرقه قبل الدخول كالدبلوماسيه التركيه.

من مصلحه الدوله الاقليميه امام السيوله الفكريه والسياسيه في محيطها ان تكون انموذجا واعدا لنظام اجتماعي ناجع ودوله مركزيه قويه يقع عليهما اختيار هذا المحيط الفاقد لهما والحر في عمليه الاختيار بعد زوال دولته ومحاربه هويته. من المعالم المهمه للانموذج الواعد هو ابتعاد شبح الهشاشه عن نظامه السياسي الذي يصيب مصداقيته السياسيه والاقتصاديه، وهو ما يحدث اليوم في اعرق مؤسسات الحكم في العالم ذات النظام الانتخابي.

العنصر المشترك الاخر في رؤيه البحث عن الحل في البيئتين العربيه والتركيه، هو ان العالم يعيش اليوم حقبه اصطفافات كتليه ان لم تكن قوميه فاقتصاديه او امنيه، تمثل طرفي المعادله فيها دوله كبيره بحاجه الي حاضنه اقليميه امنه، ومحيط بحاجه الي منظومه اقليميه تضمن امنه وهويته وتمنعه من ان يكون مصبا لمشاريع خارجيه غريبه.

امام هذا المشهد يبرز الدور الاقليمي لتركيا، ودور نظام سياسي واجتماعي تعمل علي اعاده بنائه. في محطه مفصليه كهذه في مسار الدول الاقليميه، تتاجل عاده جميع الخلافات بين الاطياف السياسيه، ويتصدر ملف تعزيز النظام الداخلي والوفاق حول الاستراتيجيه الخارجيه.

ما تظهره فصول الانتخابات الحاليه هو غير ذلك. احزاب المعارضه التركيه لا تتصرف بهذه الطريقه ولا بمسؤوليه احزاب يمكن ان تحكم البلاد يوما ما. ما يفرق هذه الاحزاب هو كل شيء لكنها تتوحد اليوم حول شيء واحد هو اسقاط نظام حكم جلب الاستقرار، وقطع الطريق علي اصلاح دستوري يرسخ نظام الدوله المركزيه ومن ثم ابقاء الطريق سالكا امام الهشاشه السياسيه. هذه الانتخابات ليست حول طقوس العباده، وانما عن هدم المعبد.

الاقتتال داخل غرفه القياده الاقليميه صوره لا تثير اعجاب محيط يبحث عن قائد، وقد كان نشوء قوي سياسيه برؤي طارئه نحو المحيط العربي داخل النظام السياسي للدوله العثمانيه بعد الانقلاب الاتحادي (الاتحاد والترقي) سببا في اذهاب هيبتها الاقليميه، وضوءا اخضر لنشوء بؤر سياسيه مناوئه في الولايات ومن ثم تقويض نفوذها.

اذا كانت الامور بمقاصدها فان ما يجري في منطقتنا في بيئتيها العربيه والتركيه هو معركه واحده تخوضها كتلتان، بصرف النظر عن اشكالهما واسمائهما وطرقهما في التعبئه والتنفيذ: كتله الدوله وكتله المليشيات، والمستهدف هو الدوله ابقاء او افناء. الطرف الاول يمثله النظام السياسي في دوله المؤسسات والقانون الاخيره في المنطقه (تركيا)، والاخر تنفذه مليشيات الاقليات الطائفيه والعرقيه برعايه ايران. هذا هو عنوان الصراع في المنطقه، جانب منه يدار بالبندقيه واخر يدار بالقفازات المخمليه.

التصويت الذي يجري في المدن التركيه هو تصويت علي الانموذج العملي الاخير لنظام الدوله في المنطقه، وتصويت بالنيابه لمدن وحواضر المنطقة العربية حول نمط الدوله والمجتمع الذي انتزع منها والذي ينبغي ان يعود.

في خضم هذا التحالف بين مجتمعات كتله الدوله، لا ينتظر ان تستوفي الدوله الاقليميه (تركيا) اهداف واليات الدور الاقليمي المناط بها، ولن يبلغ اداؤها الطموح لفتره من الزمن، فانتقال الكيانات السياسيه من الامبراطوريه الي الدوله هو من اصعب الاطوار في اداره الدول، فيه تقلم الامبراطوريه السابقه اذرعها الاقليميه بدوافع اقتصاديه او فكريه او بكليهما. الدوله التركيه لم تكتف بهذا القدر بل دخلت في حرب ثقافيه مع ذاتها لمده قرن، وتقع علي عاتقها اليوم ادوار لم تتمرس عليها منذ حين، وتخوض اصلاحات لاستعاده اذرعها.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل