المحتوى الرئيسى

رؤية الفلسفة للموسيقى (مترجم)

06/05 19:55

تقدِم بعض الجامعات اليوم برامج مخصصه عن فلسفه الموسيقي؟ تناقش هذه البرامج اشكاليات مثل: ما هو تعريف الموسيقي؟ ما الذي يجعلنا نقول علي مجموعه معينه من الاصوات انها موسيقي بينما لا نُعرِف مجموعه اخري من الاصوات علي انها كذلك؟ ما علاقه الموسيقي بالعقل؟ كيف تؤثر الموسيقي علي مشاعرنا وافكارنا؟ كيف نُقيّم اي قطعه موسيقيه امامنا؟ ما العلاقه بين مقطوعه موسيقيه ما وطريقه ادائها؟ ما الذي نقصده عندما نقول ان مقطوعه موسيقيه ما "حزينه"؟ من اين ينبع الحزن بالتحديد؟ وما الي ذلك من اشكاليات. يتم تناول هذه الاشكاليات من منظور تقني للغايه، علي سبيل المثال، مقال "فلسفه الموسيقي" في موسوعه ستانفورد للفلسفه علي الانترنت. يتناول المقال الاشكاليات الجاري الحديث عنها في الاواسط الاكاديميه عن الموسيقي.

لن اتخذ هذا المنحني في هذا المقال. هذا المقال سياخذ منحني تاريخي نوعًا ما، متناوِلًا ما قاله بعض الفلاسفه عن الموسيقي. لم اجد علي الانترنت اي مواقع تتناول الافكار الفلسفيه المميزه التي تتطورت عن الموسيقي علي مر الوقت. اعتقد ان اخر من اَولَي مكانه خاصه للموسيقي في فلسفته هو الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه، والذي توفي عام 1900. وعلي الرغم من ان الموسوعه اتت علي ذكر بعض الفلاسفه المعروفين نسبيًا، الا انه منذ نيتشه، لم يُولي اي فيلسوف ذي ثِقل مكانه للموسيقي في فلسفته.

الشيء الاخر الذي لفت نظري هو الفجوه الزمنيه الكبيره بين فيلسوفي العصور القديمه فيثاغورس وافلاطون، والذين تناولا فلسفه الموسيقي، وعوده الموضوع لطاوله الحوار علي يد الفيلسوف الالماني غوتفريد لايبنتس في القرن الثامن عشر. بالتالي يتعامل الجزء الاكبر من هذا المقال مع فتره زمنيه قصيره نسبيًا، من 1714 وحتي 1889، وهي الفتره التي برز فيها اسماء فلاسفه عظام - لايبنتس، كانط، شيلينغ، شوبنهاور ونيتشه، وقد كانت الموسيقي ضمن اهتمامتهم.

كان فيثاغورس هو الشخصيه الرئيسيه في العالم القديم بعد اورفيوس الذي قيل فيه ان موسيقاه كانت تجسيدا للاسرار الالهيه. كان فيثاغورس يؤمن "ان كل الاشياء ارقام": اتت الاشياء الي حيز الوجود بعدما فُرض نظام حسابي علي مكونات الكون والتي كانت غير ذات هيئه". يُعتقد ان فيثاغورس توصل لهذا الاستنتاج بعدما اكتشف اهميه الحساب في الموسيقي. تقول الاسطوره انه بينما كان فيثاغورس يمر بدكان الحدَّاد، طرب لتناغم (الاوكتاف الخامس والرابع)[1] الناتج عن ضربتين من مطارق باوزان مختلفه علي سندان الحداد. فاذا كانت احدي المطرقتين تزن نصف وزن المطرقه الاخري ستحصل علي اوكتاف؛ اذا كانت احدي المطرقتين تزن ثلث الاخري سنسمع الاوكتاف الخامس؛ واذا كانت احدي المطرقتين تزن ربع وزن الاخري سنسمع الاوكتاف الرابع.

للاسف حسب هذه الحكايه، فان تردد الاصوات االصادر عن الطَرق لا يتناسب مع وزن الادوات المستخدمه. الا ان نظريه النسب هذه قد تكون صحيحه فعلا اذا ما نقرنا علي الالات الوتريه في منتصف، ثلث او ربع المسافه علي طول امتدادها. فالتراكيب الموسيقيه والجمال الناجم عنها هي في الاساس نتيجه لنظام متجانس انسلخ بدقه من مجموعه من الاصوات الناشزه. من هذا، استلهم فيثاغورس فكره "موسيقي الاجرام السماويه"، غير المسموعه بالنسبه لنا، والناجمه عن حركه الكواكب حول الارض.

ناقش افلاطون الموسيقي كجزء من التدريب العاطفي الذي سيخضع له الحراس في كتابه الجمهوريه (380 ق.م). راي افلاطون انه يجب حظر النغمات الايونيه والليديه[2] التي تثير الحزن وتساعد علي الاسترخاء. عوضًا عن ذلك يستطيع الحراس الاستماع الي الدوريان والفريجين لانها تثير مشاعر الشجاعه والزهد.

في تاريخ فلسفه الموسيقي تظهر فجوه هائله من بعد افلاطون حتي نصل الي لايبنتس.

يشرح جوتفريد لابينتس في كتابه (Monadology 1714)  كيف ان تصورات عقلنا الباطن هي ما تُشكل ردود فعلنا ناحيه الفن، هذا "الهياج العاطفي" الذي نشعر به ناتج عن علاقات رياضيه سريه في الرسم والموسيقي.

بعد ذلك، كتب ايمانويل كانط كتابًا عن علم الجمال وهو "نقد ملكه الحكم" 1790، واصفًا فيه مقومات الجمال بانها تلك التي تعطينا احساسًا بالمتعه. انما تاتي المتعه نتيجه لجمال تلك المقومات نفسها، التي يراها كانط كمفكر كلاسيكي، نتيجه لتجانس المكونات، او سمو المعاني التي تنطوي عليها لدرجه من العظمه تسمو بنا. الاكثر من ذلك، انتاج الجماليات، بواسطه اشخاص بالغي العبقريه، نتناولهم كاشخاص علي درجه عاليه من الكمال، علي عكس الحقائق العلميه التي تصل الينا في شكل عمليه عقلانيه خطوه بخطوه. اضحت هذه الفكره هي الجسر المؤدي الي الرومانسيه فيما بعد، وهي حركه طورها المثاليون البارزون اكثر واكثر.

كان فريدريك شيلينج من اوائل المثاليين البارزين، واول الفلاسفه الذين ظنوا ان الصوت الالاتي (مميزًا اياه عن الصوت الملفوظ) هو انقي الفنون واكثرها روحانيه، ليس فقط لانها اعطتنا نظره ولو عابره علي المطلق، حسب صياغه شيلينج، بل ايضًا كما قال كانط ان ينطوي شيء ما علي حقيقته المطلقه، وخلال تجربتنا له، نجد انفسنا جزءا لا يتجزا من هذا الشيء وهذه الحقيقه. يتناول هذه الفكره بشكل اوسع بعد ذلك:

لطالما كانت الفكره المهيمنه في فلسفه شوبنهاور هي انه لا مفر للانسان من "الاراده"، فهي المحرك لكل المخلوقات، وهي فكره قاسيه ومتحجره، حيث لا قيمه لفرد بعينه في عمليه بقاء النوع ككل. ومع ذلك هناك بعض الوسائل التي يمكننا بها تحرير انفسنا من سطوه الاراده ولو لفترات وجيزه. يعتبر الزهد والرحمه احد هذه الوسائل، وهناك ايضًا الفن؛ خاصه في ابهي صوره "الموسيقي". حيث نتاثر شعوريًا بتلك الاشارات الصوتيه او المرئيه التي نستمدها من سماع الموسيقي او رؤيه عمل فني؛ هذا الشعور اننا وشيء ما اصبحنا واحدًا فيما وراء انفسنا، هذه هي الاراده الخالده. كذلك نصف هذه التجربه بشكل اخر عندما نقول "اننا خرجنا من انفسنا" ودخلنا في تجربه "سرمديه"؛ وكانَّ الحقيقه تجلت لنا، حقيقه الكون بخاصه. يستطيع الفنانون الذين لهم تجلياتهم الخاصه نقل هذه التجليات للاخرون عبر الفن، لكن ليس بمجرد عرض هذا الفن، بل حسب استجابه الناس الذين يتلقون الفن من نفس الزاويه التي يعرضه منها الفنان. ومع ذلك، الفنانون الذين يقارنون انفسهم بفنانين اخرين، او يلتزمون بالذوق الفني السائد، لا ينتجون فنا حقيقيا. كذلك فان الفن الحقيقي لا يقوم علي مجرد التعبير عن النفس: بل يجب ان يكون علي تواصل مع ما هو اكبر من النفس. من ثمَّ لا يجب ان يسيطر علي تامل الفنان الرغبه في تحصيل فائده منه، كما لا يجب ان يسيطر الخوف علي تاملنا في الظواهر الطبيعيه كالعواصف الرعديه.[3]

يُعرف شوبنهاور العبقريه بانها قدره الفنان علي ادراك ونقل ما يتجلي له من الابديه/ اللانهائيه (ادراك ونقل اللحظات الفارقه المتجاوزه). بالنسبه لافلاطون، التجلي امر تخيلي، وليس عقلانيا، وفي اللحظه التي يتحول فيها الفن لمجرد ممارسه عقليه (علي سبيل المثال: اللوحات المقلده، او انتهاج الصيغ الفنيه التي اثبتت نجاحها علي يد فنانين اخرين) فان الفن وقتها لا يكون وسيله للعبور الي الابديه او الي الماوراء. وبالنسبه للناس الذين لا يتمتعون الا بالموهبه: "الموهبه تصيب الهدف الذي لا يستطيع احد اصابته، بينما تصيب العبقريه الهدف الذي لا يستطيع احد روئيته".

فعندما يحرر الشخص نفسه من الاراده سيتخلص بشكل عام مما تقتضيه هذه الاراده للبقاء علي قيد الحياه، مثل: كيف يتصرف بفاعليه في هذا العالم. ربما لهذا السبب يكون الفنانون واهني القوي ومنعزلين عن الناس في الحياه العمليه.

يتقدم علي العماره (والتي اطلق عليها شيلينغ ’الموسيقي المتجمده‘) الرسم والنحت؛ كل واحد من هذه الفنون مرتبط اولًا واخيرًا بالظاهره التي يتعامل معها، اكثر من حقيقه الاراده القابعه خلف الظاهره. ياتي بعد ذلك النثر الذي يكون في افضل صيغه عندما لا يلقي بالًا للحبكه او الاثر بل يغرق في التامل؛ بالمثل الشعر؛ الدراما؛ وتتقدمهم التراجيديا حيث يستسلم ابطال العمل في نهايه المطاف قابلين، راضخين، متخلين عن السعي، عادلين عن "الاراده". ومع ذلك، يري شوبنهاور ان الموسيقي هي ارفع اشكال الفن، لانها الاكثر تجردًا، والاقل ارتباطًا باي معني ظاهراتي. في عام 1877، كتب والتر باتر[4]: "ان كل الفنون تطمح لان تكون حاله من حالات الموسيقي". كان باتر يقصد ان كل الفنون عليها ان تسعي لان تكون قريبه قدر الامكان من مفهوم شوبنهاور عن الموسيقي المجرده. لاحقًا، سيتجنب الرسامون التجريديون تمثيل العالم تمثيلً متماسكًا، بل ان بعضهم مثل فاسيلي كاندينسكي[5] اعطوا لوحاتهم اسماء ذات دلآلات موسيقية. للموسيقي، علي سبيل المثال، قدره علي التعبير عن المشاعر (الفرح، الحزن وغيرها) دون اي اكسسوارات او علل. لاحظ ايضًا البُعد "الغير قابل للوصف" الذي تعطيه الموسيقي للاوبرا، والذي يعطي لنصوص الاوبرا معني مهما وان بدت ساذجه.

لقد فهم الانسان منذ فجر التاريخ ان: للموسيقي لغه وانها ستكون موجوده في عالم سماوي متجاوز. وكما ذكرنا سالفا، وضح فيثاغورس علاقه الموسيقي بالرياضيات، وبالنسبه لرياضيات الاغريق القدامي كانت الموسيقي هي ادني نقطه لفهم معني العالم. يعتقد البعض ان فكره (علاقه الموسيقي بالرياضيات ومعني العالم) اتخذت بعدا اكبر عندما مزج نيوتن بين الرياضيات وعلم الفلك بنجاح.

اتت نظريات ريتشارد فاغنر[6] عن العمل الفني المثالي معاكسه لفلسفه شوبنهاور للموسيقي: الموسيقي تكون في افضل صيغها عندما تكون تجريديه. لكن بمجرد ان قرا فاغنر فلسفه شوبنهاور في عام 1854، اتفق نظريا معه في الراي واصبح تلميذه النجيب. لكن عمليًا، استمر فاغنر في المزج بين الموسيقي والنصوص بقوه كما كان يفعل من قبل، لكن في "تريستان اوند ايزولده"[7] (1856)، وحتي كتابه سيغفريد[8] قدم موسيقاه في حُله شوبنهاوريه كامله.

علي الرغم من عدم اتفاقه مع الكثير مما اتي في فلسفه شوبنهاور الا ان نيتشه تاثر بافكاره عن الموسيقي. في كتابه "مولد التراجيديا من رحم الموسيقي" (1871)، وافق نيتشه انه من خلال الفن، وبخاصه الموسيقي، يستطيع الانسان الهروب ولو لفتره وجيزه من بؤس الحياه الدنيويه ويُلقي نظره خاطفه علي الحياه الماورائيه المتجاوزه.

استند نيتشه كذلك علي فكره شوبنهاور بان هناك عاملان في الفن يوازن كلاهما الاخر: الابولوني (الابداع المنظم) والديونيسي (الفوضي الخلاقه)[9]. راي نيتشه ان موسيقي فاغنر قد مزجت بين هذين العاملين، كما ان موسيقياه -الي جانب عوامل اخري- كان سببا في انقاذ المانيا. الا ان نيتشه انقلب علي فاغنر في عام 1876، وفي مقاله النقدي "نيتشه مقابل فاغنر" الذي صدر عام 1889، اتهم نيتشه فاغنر بانه اهمل العنصر الابولوني في موسيقاه، الي جانب اشياء اخري.

من محاضره رالف بلومينا عن تاريخ الفلسفه في جامعه "ثيرد ايدج"؛ بلومينا هو مؤلف كتاب الفلسفه والحياه (Philosophy and Living, 2002).

[2]  في الموسيقي الغربيه (Ionian, Lydian) هي مقاييس او اساليب مستخدمه لقياس حجم الصوت في النوته الموسيقيه في السنوات الاخيره لكنها مستوحاه من النظريات اليونانيه الموسيقيه القديمه.

[3]  يري شوبنهاور ان الفن هو استراحه مؤقته من الحياه، وانه علي الفنان ان لا يسمح لاي شيء بان يعكر صفو تامله، بل يجب عليه ان يتغلب علي ارادته في تحصيل منفعه من وراء التامل حتي لا يتاثر تامله بتلك الرغبه.

[4]  كاتب مقالات وناقد فني انجليزي ولد عام 1839 وتوفي عام 1894.

[5]  رسام روسي تجريدي من القرن العشرين يعتبر من اهم المجددين في المدرسه التجريديه وفي الفن الحديث بشكل عام.

[6]  ريتشارد فاغنر (1813- 1883) موسيقار وكاتب مسرحي الماني.

[7]  تريستان اوند ايزولده عمل درامي اوبرالي من تاليف فاغنر قدمه بتاريخ 10 يونيو 1865.

[8]  عمل اوبرالي من تاليف فاغنر، قدمه في 16 اغسطس 1876.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل