المحتوى الرئيسى

لماذا فشل بنكيران في إصلاح الإعلام العمومي؟

06/04 12:33

ليس من قبيل المزايده في شيء الادعاء بان حكومه عبد الاله بنكيران (حكومه حزب العداله والتنميه الحاكم بالمغرب) قد نجحت -والي حد كبير- في فتح العديد من الملفات، ومباشره العديد من الاوراش (المشاريع) التي لم تكن الحكومات المتعاقبه السابقه تجرؤ علي الاقتراب منها، فما بالك بفتحها او مباشرتها او ايجاد السبل لمعالجتها:

- فالرجل (حكومته اقصد) وضع يده منذ اليوم الاول من وصوله الي رئاسه الحكومه، علي ملف الريع (الفساد المالي) المستشري بقوه بكل مفاصل الدوله، فنشر لائحه المستفيدين بدون وجه حق او استحقاق من ماذونيات النقل ورخص مقالع الرمال والمناجم والصيد باعالي البحار، وقطع مع سلوك التوظيف المباشر باسلاك الوظيفه العموميه، لفائده التباري علي المناصب المتاحه، وباشر في الاقتطاع من اجور المضربين عن العمل (مع احترام حقهم الدستوري في الاضراب)، والذين كانوا بزمن من الازمان يشلون -باضراباتهم المؤدي عنها- قطاعات باكملها، لاسابيع وشهور عده.

- والرجل باشر باصلاح منظومه المقاصه (التي تتحمل الخزينه العامه بموجبها الفوارق بين الاسعار الحقيقيه والاسعار المطبقه بالاسواق) والتي التهمت لسنين طويله -ولا تزال تلتهم- جزءا ضخما من موارد الدوله، ولا تفيد منها الطبقات الضعيفه والمتوسطه، المنشاه من اجلها، بل تذهب لجيوب بعض رجال الاعمال الجشعين، او لفائده بعض المنتفعين، المضاربين في النفط والخبز والسكر والحليب.

- والرجل، ببعض من العزيمه وبكثير من الجراه، استعجل فتح ملف صناديق التقاعد، فاستصدر لاجل ذلك دراسات معمقه، اثبتت بالمعطيات الرقميه الدقيقه، ان منظومه التقاعد قد باتت قاب قوسين او ادني من الافلاس، اذا لم يتم تدارك الموقف وسد العجز الذي يطالها، او الاعتكاف علي رسم سيناريوهات جديده، بغرض البحث عن موارد جديده لتطعيمها وانقاذ الملايين من المتقاعدين.

وعلي الرغم من ان رئيس الحكومة لم يذهب بعيدا في بعض الاوراش (من قبيل اكتفائه بنشر قائمه المستفيدين من الريع، دون متابعتهم، او مصادره ما تحصلوا عليه)، واحتمي بشعار "عفا الله عما سلف" (كي لا ينفر المستثمرين، او ليحول دون هروب رؤوس الاموال)، جراء ضغط لوبيات الدوله العميقه، وابتزاز بعض "الحلفاء" السياسيين؛ فان الرجل عازم ومصرٌّ فيما يبدو علي اصلاح منظومه المقاصه ونظام التقاعد، حتي وان كانت التكلفه المقابله في ذلك (او هكذا يزعم في تصريحاته) تراجع شعبيته، وشعبيه حزبه بافق القادم من انتخابات.

قد يتفق المرء مع ما اوردناه اعلاه وقد يختلف معنا في بعض الجزئيات. لكن الذي لربما لا مجال للاختلاف بشانه كبير، انما حقيقه الاخفاق الواضح في تدبير "ملف اصلاح الاعلام العمومي" الذي طالما نادي به الحزب وهو في المعارضه، ولم يملل من التبشير به بكل الحملات الانتخابيه، وادرجه كاولويه لا تقبل التاجيل، في التصريح الحكومي الذي حازت الحكومه بموجبه علي ثقه البرلمان.

ثمه محطات عده بالامكان التوقف عندها لتبيان ذلك. الا ان المحطه الاساس في هذا الاخفاق، انما تتمثل في اعتقادنا، في عجز وزير الاتصال -ومن خلفه الحكومه برمتها، ناهيك عن وزن رئيسها- في تمرير دفاتر في التحملات، تضمنت موادها وبنودها مفاصل الاصلاح المنشود لقطاع الاعلام العمومي، وللقطاع السمعي والمرئي علي وجه التحديد.

فعلي الرغم من ان الصيغه النهائيه لهذه الدفاتر قد اجيزت واعتمدت من لدن حكماء الهيئه العليا للاتصال السمعي/البصري (اعلي هيئه دستوريه للبت في كذا قضايا)، فانها لاقت معارضه شرسه من لدن القائمين علي القنوات العموميه، لدرجه تحول الامر معها الي تراشق مباشر بالالفاظ من علي صفحات الجرائد الورقيه، ومن بين ظهراني مواقع التواصل الاجتماعي، وتهديدا بل وتصميما من لدن هؤلاء علي عدم الاخذ بمضامينها، ورفض الاعتداد بتوجهاتها وتوجيهاتها.

ودفعهم الاساس في ذلك انما القول بان من شان اعمال هذه الدفاتر "التراجع عن المكتسبات"، و"عوده التحكم في الاعلام"، بل وتم التلميح بالبدء -ثم المجاهره فيما بعد- بان هذه الدفاتر انما تعبر عن توجه الحكومه والحزب الاول ضمنها، الي "اخونه الاعلام"، تماما كما الصقت التهمه ذاتها بحكام ما بعد الانتفاضات في تونس وفي مصر وفي غيرهما.

ودفعهم في ذلك ايضا انما الزعم -زعمهم هم- بان من شان تفعيل بنود هذه الدفاتر التنكر "للمشروع الديمقراطي الحداثي" الذي حمل لواءه الملك محمد السادس منذ وصوله للسلطه، ومن شانه كذلك "التراجع علي هامش الحريه" الذي باتت تتمتع به هذه القنوات، بعد عقود من الرقابه المباشره والتضييق المضمر.

لم تطل عمليه المد والجزر هاته كثيرا، اذ سرعان ما اتي التحكيم الملكي علي شكل انذارين مباشرين قويين، وضعا الامور في السياق العام الذي اخذته من حينه:

- انذار للحكومه، كونها دفعت -تقول حيثيات الانذار اياه- بمشروع اشير اليه منذ البدايه، بانه صيغ بطريقه متسرعه، غير مكتمله النضج، ولم تخضع -فضلا عن ذلك- لمبدا التوافق الذي اعتمدته الدوله منهجا في الحكم منذ اواسط تسعينيات القرن الماضي. وعليه، فقد تمَّ سحب الدفاتر جمله وتفصيلا، من بين يدي وزير الاتصال صاحب الاختصاص، ليتكفل به زميل له بالحكومه، مكلف بقطاع السكني وتعمير المدن، لكنه مدرك بما فيه الكفايه لتضاريس الملف وتشابك خيوطه، بحكم اشرافه واشراف حزبه علي نفس الوزاره بحكومات سابقه.

- وانذارا للهيئه العليا للاتصال السمعي/البصري، تمت اقاله رئيسها ومديرها العام، كونهما -تقول الحيثيات المسربه- لم يتريثا في التصديق علي الدفاتر، ولم يتمثلا جيدا حسابات ملف البعد التقني من بين ظهرانيه هو اهون الابعاد واقصرها، ولم يحصلا -اضافه الي ذلك- علي "الضوء الاخضر" من عل، الذي لا سير الا بهداه المباشر في مساله من هذا القبيل.

بهذين الانذارين المباشرين، يبدو ان ملف اصلاح الاعلام السمعي/البصري لم يعد من اختصاصات الحكومه، وان المتغير الذي راهنت عليه هذه الاخيره اصطدم بالثابت القار الذي لا يقبل التحول بالمره، وان قبل به فببعض من الجرعات المحسوبه، المتانيه، والاتيه اشاراتها من فوق.

لم تتوقف التجاذبات بصدور هذين الانذارين، بل ذهبت بمناهضي المشروع، او ما تبقي منه، لحد شن هجوم مضاد علي رئيس الحكومه، حتي وهو في ضعفه وترهله، وانتفاء الحيله من بين يديه ومن خلفه.

لم يعد -والحاله هاته- من اثر يذكر لواجب التحفظ الذي تفترضه المساطر الاداريه، ولا من قيمه اعتباريه للمؤسسات المنتخبه، صاحبه الشان في اتخاذ القرار وفرض تنفيذه، بل تساوت السهام، وبدا الاحتراب وجها لوجه، كل بحسب ما اوتي من قوه وذخيره:

- فمدير عام قناه البحر الابيض المتوسط (وهي مؤسسه عموميه بامتياز) "رفض" الانصياع للمطالبين (من الحكومه ومن الجهاز التشريعي) بتدقيق مالي للقناه، علي خلفيه من ادعاءات رائجه حول سوء في التدبير وتسيب في التسيير، واشار (المدير اعني) بالتلميح الذي لا يقبل التاويل، بان لا رقابه للحكومه علي "قناته"، وان لهذه الاخيره مجلس اداره يحميها، ويؤشر علي حساباتها بالسلب او بالايجاب او بالتحفظ.

- ومديره الاخبار بالقناه الثانيه (وهي مؤسسه لوزاره الاتصال الوصايه المباشره عليها) لا تعير انشطه الحكومه كبير اعتبار، بل يذهب رئيس الحكومه ذاته لحد اتهام ذات المديره بالتعتيم علي تحركاته والتحامل علي انجازاته، واخضاع تصريحاته لمقص الرقابه، وفي بعض الاحيان اخراج ذات التصريحات من السياق التي وردت في اطاره، فيما يشبه التشهير بالرجل والانتقاص من مبادراته، واستقصاده لشخصه.

- ومدير القناه الاولي (وهي مؤسسه عموميه من عقود طويله مضت) لم يمسس طبيعه شبكه القناه البرامجيه، ولا طريقه المعالجه التي من المفروض ان تطال مؤسسه عموميه باتت تتمتع بالصفه المعنويه والاستقلال المالي، بل ابقي علي الطابع الرسمي للقناه، وكان لا شيء يجري من حولها بالمره، بالبلاد كما بخارجها.

ولكان كل هذا غير كاف لتطويع رئيس الحكومه، وتركيعه، يقول البعض. شن القائمون علي الاعلام العمومي حمله شعواء علي حكومة بنكيران، بدعوي محاولتها التحكم في الاعلام، وكان الرجل قد تمكن حقا من مفاصل القطاع، وباشر حقا وحقيقه في تصريف سياسته من بين ظهرانيه.

ان بالامر تحديا واضحا وسوء تقدير، وبه ايضا بعض من التقصير في الادراك، ليس من لدن القائمين علي الاعلام العمومي (وهم جزء من الدوله العميقه دون شك)، بل من لدن رئيس في الحكومه منحه الدستور صلاحيات واسعه لرسم سياساته العامه، ووضع الاداره رهن اشارته، لتصريف ذات السياسه دون تلكؤ من هذه الجهه او تردد من تلك، دع عنك سلوك المناهضه والرفض، لكنه اصطدم مع من يعتبرهم مناهضين للاصلاح، فيما لا يرد هؤلاء الا بالقول بانهم حماه حق مكتسب، وحاملو لواء مشروع في الحداثه والديمقراطيه يبدو لهم مهددا ومستهدفا.

لقد قلنا، ومنذ امد بعيد، بان محنه الاعلام العمومي بالمغرب، والاعلام التلفزيوني تحديدا، انما تتمثل في "التعايش" القسري بين سلطه الاعلام واعلام السلطه:

- وقلنا بان التنابذ والتضاد بينهما هو تنابذ في الطبيعه والطبع، وتضاد في الغايه والوظيفه. اذ تنبني الاولي علي سلطه الكلمه، تترعرع بالتشبث بها، ولا تقبل بالمزايده علي هامش الحريه الذي اقتطعته لنفسها من هنا وهناك. في حين تتكرس الثانيه وتتشرعن بالاحتكام الي كلمه السلطه.

- وقلنا بان الاعلام العمومي، والتلفزيون علي وجه التحديد، هو جزء من بنيان لا بنيانا قائم الذات، اي انه جزء من منظومه ماديه ورمزيه، هي التي تحدد له المرجعيه ومجال الاشتغال وهامش الفعل وسقف الاداء.

ولما كان الامر كذلك، فقد قلنا دائما بانه من المتعذر حقا (لدرجه الاستحاله ربما) المساس بهذه التركيبه وهذا البناء. انهما من مجال "سياده خاصه"، تتجاوز علي الحكومات والبرامج والسياسات.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل