المحتوى الرئيسى

ناصر الدين الأسد.. ستون عاما من الحضور

06/02 16:02

بوفاه العلامه ناصر الدين الاسد يوم 21 مايو/ايار 2015، يسدل الستار -او يكاد- علي حقبه ناهزت نصف قرن من الحضور العلمي الاردني الرصين في المشهد الاكاديمي والثقافي العربي العام، وهي الحقبه التي وصلت عمّان -من خلال بعض العلماء المحققين- بمراكز العلم والثقافه في القاهره وبغداد ودمشق.

ورغم ان انجازات الاسد (ولد عام 1922) في حقول التاليف والتحقيق واداره التعليم العالى والعمل الدبلوماسي والعمل الثقافي العام، هي من الوفره بما لا يدع مجالا للشك في رياده الرجل والمعيته الشاهقه، فان باكوره اعماله العلميه "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخيه" ستظل المعلم الابرز في سيرته الطويله الحافله بالاسهامات، اذ مكنته هذه الماثره من تصدّر المشهدين الاكاديمي والثقافي من جهه، والحضور في الغرب والشرق من جهه ثانيه، فضلا عن التواجد في الماضي والحاضر من جهه ثالثه.

وحتي نضع القارئ الرصين في عين العاصفه التي اختار ناصر الدين الاسد ان يمخر عبابها عبر كتابه الاشهر "مصادر الشعر الجاهلي"، فسنعمد الي تقديم مشهد مكثف جدا لها، استنادا الي ماثره الاسد نفسه.

اقدم مرجليوث علي التشكيك في صحه الشعر الجاهلي في مقالته الشهيره الموسومه "اصول الشعر الجاهلي" التي نشرها في مجله الجمعيه العلميه الملكيه عام 1925، وقطع فيها -او كاد- بان ما وصلنا من شعر جاهلي ما هو الا شعر نظمه الرواه بعدما استقرت الدوله الاسلاميه وانتفت اسباب الخوف من الارتداد عنه. وقد حشد للتدليل علي صحه ما ذهب اليه العديد من الحجج العقليه والنقليه التي لا يستهان بها.

ومن نافل الحديث القول بان ما جوبهت به نظريته هذه من انكار في الشرق خاصه، مردّه الي ما تخللها من اتهامات تمس نبي الاسلام ومن ثم التشكيك التام في تفرّد الاسلام ومصدره الالهي. ومن ذلك: ان العرب في العصر الجاهلي كانوا علي درجه كبيره من التحضّر والرقي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وقد جاء الاسلام فقطف ثمار هذا الرقي ونسبها لنفسه، ثم صوّر العرب في العصر الجاهلي بُداه رعاه غاشمين.

ومن ذلك ان العرب في العصر الجاهلي عرفوا الاسلام بصور متعدده، وان النبي محمد -صلي الله عليه وسلم- اعاد بناء وصياغه هذه المعرفه وقدّمها علي انها رسالته الجديده غير المسبوقه، وان الاسلام والقران ما هما الا تحريفان صارخان لكل من اليهوديه والمسيحيه من جهه، والتوراه والانجيل من جهه ثانيه.

ومن ذلك ان الحضاره العربيه الاسلاميه بوصفها حضاره بيانيه تستند الي القران الكريم والحديث النبوي الشريف وديوان الشعر الجاهلي، مبنيه علي اكذوبه تاريخيه جري ترويجها وترسيخها عبر مئات السنين.

لكن ما لم يكن في حسبان الباحثين العرب، ان يخرج عليهم باحث عربي شاب اسمه الدكتور طه حسين بكتاب عنوانه "في الشعر الجاهلي"، فلا يكتفي بان يذهب بالجوانب الادبيه في نظريه مرجليوث الي اقصي حدودها الممكنه فحسب، بل يخاطر بان يدفع في الكتاب نفسه بمنهج الشك الديكارتي الي اقصي حدوده الممكنه ايضا، فيقطع -او يكاد- بان كل او جلّ ما نسميه الشعر الجاهلي ما هو الا شعر مصنوع دُسّ علي العصر الجاهلي لغايات دينيه وسياسيه وتاريخيه وثقافيه.

وبكل ما اوتي هذا الشاب الضرير من بلاغه وقدره علي تقليب الحجج، راح يتساءَل عن اسباب الغياب الفادح لابرز اوجه الحياه في العصر الجاهلي من ديوان الشعر الجاهلي.

ورغم تعالي غبار الزوبعه التي اثارتها اطروحات مرجليوث ثم اطروحات طه حسين، فان الرجلين لم يُعدما من الباحثين العرب المرموقين مَن يساجلها او يحلّل خطابيهما بموضوعيه وتؤده العلماء، بدءا بمصطفي صادق الرافعي وشكيب ارسلان، مرورا بمحمد فريد وجدي ومحمد لطفي جمعه ومحمد الخضري، وانتهاء بالدكتور ناصر الدين الاسد في كتابه "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخيه" الذي ما زال يمثل افضل المراجع التي عرضت اطروحه مرجليوث وردود المستشرقين عليها من جهه، واطروحه طه حسين وردود الباحثين العرب عليها من جهه اخري، فضلا عما ابرزه المؤلف نفسه من ماخذ وجيهه علي هاتين الاطروحتين.

والطريف في الامر ان الاسد ايضا لم ينجُ من بعض الشرر الذي تطاير من حول مرجليوث وطه حسين، فطاله بعض النقد الذي وصل حد التجريح احيانا، مع انه كان من السبّاقين لبسط اطروحتي مرجليوث وطه حسين بين يدي الباحثين وابراز ملامح الخطوره ومكامن التهافت فيهما بذكاء شديد ودون انفعال او تعصّب او تحيز، مستندا في ذلك الي ابرز ما ساقه الباحثون العرب الرصناء من دحوض وتفنيدات، رغم ان طه حسين كان احد ابرز اساتذته، كما ان سلطته المعرفيه كانت قد بلغت حدا تصعب المغامره معه باستعدائه.

ولم تقتصر ماثر ناصر الدين الاسد علي البحث العلمي المتميز او الاداره الاكاديميه المرموقه او التمثيل الدبلوماسي الرفيع او الانخراط التام في القضايا العامه، بل امتدت لتشمل مناقبه الشخصيه الفريده، فقد كان معتدا بعلمه وشخصه، ومتواضعا لمن عرف قدره، في ان واحد.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل