المحتوى الرئيسى

زمانٌ فى مكان، مكانٌ فى زمان

06/02 09:20

اليوم الاول من يناير 2014. انا في عمان. وصلتُ قبل اقل من اسبوعين لان والده مُرِيد، السيده سكينه البرغوثي رحلت. جاءنا الخبر في القاهره في الثانيه عشره لي، اليوم الاثنين السادس عشر من ديسمبر. رتب مُرِيد للسفر عبر التليفون وغادر مع تميم فجرا قاصدين المطار. بعد يومين لحقتُ بهما. لم تتح لي المشاركهُ في الجنازه وطقوس الدفن، ولكنني تمكنت من حضور الليله الثانيه للعزاء في مقر رابطه ال البرغوثي، ثم شاركتُ الاسره في استقبال المعزِين في البيت علي مدي الايام العشره التاليه، اعني بيت السيده التي رحلت والتي بنت هذه الدار وعمرتها وغرست ما في حديقتها من نباتات، واستقرت فيها، بعد تنقلاتٍ متعدده في شقق مستاجره في عمان التي انتقلت للاقامه فيها لان احدا من اولادها الاربعه لم يكن متاحا له العوده الي رام الله بعد احتلالها.

اليوم استيقظتُ في السابعه والنصف صباحا وبي رغبهٌ في الجلوس الي الكمبيوتر والكتابه عن السيده التي فقدناها. غسلتُ وجهي وفركتُ اسناني، واتجهت الي المطبخ لاعداد قهوتي الصباحيه.

حملتُ القهوه وجلستُ للكتابه. غرفهُ المكتب مُرَبَعَه تكاد نوافذُها تحتل حائطين من حوائطها الاربعه. حين اجلس الي المكتب تكون الواجهه التي امامي وتلك التي الي يساري مفتوحتين علي الشجر، تجعل منه امتدادا للغرفه، لان الشقه في الطابق الارضي، في مستوي الحديقه، لها باب يفتح عليها وعلي درج حجري يقود الي الطابق الاول من البيت، والي حديقه اخري عُلْوِيَه صغيره.

تصعد الدرج، تري عن يمينك حوضا من ازهار الجُهَنَمِيه، وعن يسارك حوضا اخر من ازهار الجيرانيوم. ويمتد بين الجهتين قوسٌ من القضبان الحديديه الدقيقه، تتسلق عليه في الربيع والصيف ورودٌ حمراء صغيره تُعرف باسم «روز بومبون». ما ان تنتهي من الصعود حتي تستقبلك عن يسارك ثلاثُ شجيرات متجاوره بحذاء سور البيت، اثنتان من الياسمين البلدي وثالثهٌ مستقرهٌ بينهما من الياسمين العراقي. في ليالي الصيف ينشرُ الياسمين رائحتَه، وينثرُ ازهاره المُنمَنمَهَ البيضاء تحته ومن حولهِ. يتسلق الياسمين الحائط الشرقي ويترك للسَرْو.

الحوض، خمس سروات عاليه وكبيره واثنتان صغيرتان مُشَذَبتان بجوارهما شجيره ورد بلدي وشجيره ليمون، حمل مُرِيد لامه شتلتها من مصر، كما حمل لها منها زهرهَ عصفور الجنه، وغرسها ورعاها فصارت تكرمه كل عام بزهرتها الفريده.

حوضُ السَرْوات يمتد الي السياج الحجري الفاصل بين البيت والشارع ويميل معه ثم يتوقف عند المدخل ليتيح حيِزا لبوابته الحديديه الصغيره التي تفضي الي باب الشقه الخشبي. ينتهي الحوض الاول ليبدا بعد الباب حوضٌ ثانٍ الي يسار الداخل. في زاويته الغربيه شجرهُ غار عاليه كثيفه الاوراق، يجاورها تعريشهُ عنب يسمونها في البيت التعريشه العُلويه. يحيط بهذا الحوض اطارٌ مُشَذَب من الخُزامي طيبه الرائحه. اما حوض السروات فيحيط به اطار من حصي البان الاكثر كِتْمانا من الخُزامي، لانه لا يبوح لك برائحته الا لو فركتَ اوراقَهُ الدقيقه بين يديك او سقيتَه بالماء او سقاه المطر.

حين ناتي الي عمَان في العُطله الصيفيه، نقيم في هذه الشقه بالطابق الارضي، وهي شقه صغيره مكوَنه من غرفتين، غرفه نوم متصله بحمام، وغرفه مكتب، بها، فضلا عن المكتب والمكتبه، اريكه ومقعدان وثيران. وبها مطبخ صغير ودوره مياه. تتيح لنا هذه الشقه درجه من الاستقلاليه وتسمح لمن يريد ان يكتب ان يجلسَ الي المكتب ويُنجزَ ما يريد، لان بيت والده مُرِيد كبيت جدي في حُلْوَان بيتٌ مفتوح ياتيه الضيوف علي مدي اليوم بلا موعد. وقد تدوم الزياره النهار باكمله وقد تمتد لايام، واحيانا اسابيع.

فتحتُ السواترَ الخشبيه للنوافذ وجلستُ الي المكتب. لون السماء حليبي. يمتد الضباب كثيفا وواطئا يكاد يصل الارض، ويملا الفراغات بين البيوت. امامي مباشره شجراتُ الزيتونِ الاربع، لا تحمل الان زيتونا لان موسم جمع الزيتون انقضي قبل شهرين. في نهايه الصيف او بدايه الخريف تكون هذه الاشجار مُحَمَله بالثمار. وشجرُ الزيتون يا عزيزي القارئ ان لم تكن علي معرفه به وبحكايته، شجرٌ مُعَمِر يعيش مئات السنين، يحمل ثمرا وفيرا في عام، وفي العام التالي لا يحمل الا القليل من الثمر، كانه يستريح او يستجمع طاقته لحمل السنه اللاحقه. وصف القرانُ شجرهَ الزيتون بانها شجرهٌ مباركه، ووصفها سوفوكليس علي لسان اوديب بانها مصدرُ خوفٍ لجيوش الاعداء. ولذلك ربما يعمل الاسرائيليون بلا كللٍ علي اقتلاعها. ياتون بجنودهم وجرافاتِهِم ومناشيرِهِم الكهربائيه ويُعملونها في الجذوع المُعَمره، وتكون المذبحه. ولا ادري ان كانت سَكينه فكرت في اي فعلٍ مقاوِم وهي تزرعُ الزيتونَ عِوَضا عن الزيتون المُقتلع او المُفتقد في بلدها المحتل، ام انها كانت بعفويه وبساطه تزرع الزيتون لانها رات اهلَها يفعلون ذلك وعاشت كما عاشوا في ظل مواسمِه، تاكلُ من ثمرِه وزيتِه علي مدي العام.

لا، لم تغرس سكينه الشجراتِ الاربع التي اشرت اليها فحسب، بل غرست احدي عشره شجره، ستا منها امام البيت، فعليا في الشارع علي الرصيف، زاد عليها شجيره صغيره نمت وحدها بقدره قادر، ونقص منها شجرهٌ ماتت، كما يموت للمراه التي تنجب عددا من الاولاد والبنات، طفلٌ من اطفالها فيبقي غائبا حاضرا، لانه مات وان لم يغب عن الذاكره القريبه او البعيده.. كذلك شجره التين الخضاري) اي الاخضر (التي في الزاويه ماتت قبل عده سنوات).

يقول مُرِيد: قتلتها شجره الزيتون.. الزيتونه معمِره جذورُها قويه وتمتد، التينهُ اضعفُ منها.

ماتت التينه. لم يبق منها الا جذعُها المقطوع شاهدا انها كانت ذات يوم خضراء ومثمره. في الزاويه بعيدا عن الزيتون، شجره لوز يجاورها شجيره مِيرَمِيَه. لا اغلي اوراقَها واشربُ منقوعَها الا لمعالجه الام في المعده او الامعاء.. اما سكينه فكانت علي طريقه اهل القريه، تشرب الشاي كل صباح بالمِيرَمِيَه. واحيانا بعد الظهر تشربه باوراق النعناع. شهدت الاردن في الاسبوع السابق علي وصولنا عاصفه ثلجيه عاتيه دمرت الاشجار وقطعت الغصون وسدَت الطرقات، وعطلت وصول سياره الاسعاف لحمل سكينه الي المستشفي، فحملها ابنها مجيد وحفيدها غسان، ثم عادا بها الي البيت بعد ان قام الاطباء بعمل اللازم. ولكنها رحلت في الليلهِ ذاتِها. اثارُ العاصفه واضحه في حديقه سكينه، ولكن اشجار الزيتون التي انصفها سوفوكليس ووصفَها بان احدا من الشيوخ والشباب لا يستطيع تدميرها، بقيت علي حالها ناهضه مكتمله. ليس الكلام عن الزيتون وغيره من اشجار الحديقه استطرادا يا صاحبي القارئ والقارئه اذ يصعب الحديث عن سكينه البرغوثي دون الكلام عن امور ثلاثه هي في رايي اكثر ما يُمَيِزُها: مهارتُها في التطريز والحياكه، ونجاحُها اللافتُ في تربيهِ اولادها الاربعه، وفي رعايهِ النباتات والشجر.

هي زرعت هذه الحديقه بطابقيها. حديقه صغيره في الحالتين. لا تتجاوز مساحه الحديقه السفليه، الكبري، قيراطا من الارض. في الجهه الغربيه من هذه الحديقه السفليه، انشات سكينه تعريشه للعنب، ثم تعريشه اخري في المستوي الاعلي (التعريشه المجاوره لشجره الغار). في الصيف يكون الكَرْمُ استوي وتدلي عناقيدَ حمراءَ داكنه او خضراء يضرب اخضرُها الفاتح الي خمري اصفر رائق وشفاف. تتاملها، تقول انصف الرحبانيه في الغناء عن «ثُرَيَات العِنَب». قبل ايام القطاف تُرَتِب سكينه لتغليف العناقيد في اكياس ورقيه لحمايتها من العصافير. لكلِ عنقودٍ كيس. تستمع الي محمد المزارع الذي ياتيها مره في الاسبوع، او تنصحه بان يفعل كذا وكذا. وحين يستوي العنب، تُرفع الاكياس لقطف العناقيد، ناكل منها ونشرب من عصيرها. تاتي سكينه بسلال كبيره من البلاستيك وتوزِع من كَرْمِها علي الاهل والجيران. تقع تعريشهُ العنب في الجهه الغربيه من الحديقه السفليه. يجاورها شجرهُ اسكادينيا ثمارها صغيره برتقاليه لامعه، وشجرهُ سفَرْجَل فاكهتها اكبر، اشبه بالكمثري، لا تستبدل اخضرها الليموني الا عند نضوجها في الخريف فيغدو اصفر شمسيا. وشجرهُ برقوقٍ احمر يضرب الي البنفسجي، يسمونه «بُوز العِجْل»، شجرهٌ كبيرهٌ عاليه ثمرُها وفير يتساقط الناضج منه حولها فتسبِقُكَ اليه العصافيرُ والدود. وفي الحَيِز الطيني الممتد من التعريشه الي الحائط الشرقي، الفاصل بين البيت والجيران، زرعت سكينه ثلاثَ شجيراتِ ليمون. خلفها، اقرب الي السور، شجرهُ كمثري (رايتها تكبر سنه بعد سنه، ودائما ما تطرح ثمرا وفيرا)، وثلاث شجيراتٍ تُفَاحُها بلديٌ صغير.

والي يمين شجيرات الليمون، في الحَيِز الاقرب الي نافذه غرفه المكتب، شجره فستق بقيت لسببٍ او اخر صغيره لا تُثمر، تجاورها شجره مشمش. وانا اجلس الي المكتب احاول وصف الحديقه، لمحت مجيد، شقيقَ مُرِيد يروي الحديقه. قلت له عبر النافذه: صباح الخير، قال صباح النور. قلت لنفسي: ربما يتواصل مع امه بسقي اشجارِها. اردت ان اساله عن ذلك، ولم افعل. قال لي مجيد: ان المُزارع الذي اتي لرفع الغصون التي سقطت وقص ما انكسر منها، سياتي ليتخلص من الاوراق الجافه ويقلِب التُربه، ويُسَمِدها، ويُقَلِم الاشجار ويرشها لحمايتها من الدود والمواد السامه. قال مجيد: اخبرني المزارع انه سياتي يوم 25 يناير ليُنجز تلك المهام. لم اُعَلِق. لم اساله ان كان المزارعُ مصريا، ولكنني لسبب ما كنت موقنه انه مصري.

انظر امامي وانا جالسهٌ وراء المكتب. خلف شجرات الزيتون الاربع عماره من عده طوابق بُنيت قبل بضع سنوات. كانت الارضُ التي بُنيت عليها ملكَ مجيد. ولان سكينه البرغوثي كالطبيعه لا تقبل الفراغ، فقد اتفقت مع مقاول نقَل لها تُربه محمله علي سيارتي نقل.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل