المحتوى الرئيسى

أبسط طريقة لفهم الفن التجريدى

05/31 19:55

اثق انك رايـت. في لحظه ما من حياتك. فنًّا تجريديا، بل لعلك رايت نماذج منه علي موقعي الالكتروني، اذ ان لدي معرضا رقميا لاعماله، هو جاليره لوحات هارله هان. ولو انك نظرت الي هذه اللوحات لرايت انها تجريديه، او هي في الحقيقه مرسومه باسلوب غالبا ما يشار اليه بـ"التعبيرية التجريدية".

القريبون مني يعانون فهم هذا النوع من الفن ويعانون تقييمه. ومن هنا فان غرض من هذه المقاله هو ان ابيّن كيف تطور الفن وازداد تجريديه، ومدي اهميه "هذا المنحي الذي نحاه الفن". وانني اعتزم ان ابين اهداف الفن التجريدي وان اساعدك علي الاستمتاع به.

اود ان اعرفك، ابتداء، بفكره عامه بعض الشيء عن نوعين من اللوحات: التمثيليه والتجريديه.

نقول عن لوحه انها "تمثيليه" لو انها تصوّر اشياء واضحه معروفه محدده. وفي بعض الاحيان، تكون اللوحات التمثيليه صادقه مع الحياه لدرجه ان تبدو في دقه الفوتغرافيا.

انظروا علي سبيل المثال الي اللوحه التاليه لرامبرانت فان ريجن "هولندي، 1606 ـ 1669". عنوانها "محاضره دكتور نيكولاس تولب في التشريح" التي رسمها سنه 1632.

حينما تنظر الي تلك اللوحه يسهل عليك ان تعرف ما انت ناظر اليه. هناك 8 رجال يلبسون ثيابا ظريفه "هي في الحقيقه من طراز ثياب هولندا القرن الـ17" وامامهم علي المنضده جثه رجل تحللت يده. يسهل تماما التعرف علي كل شيء في اللوحه، مثلما يسهل التعرف علي معناها العام. "فما تراه امامك درس في التشريح".

وليست جميع اللوحات التمثيليه واقعيه بهذه الدرجه. فقد ابدع بول سيزان "فرنسي، 1839 ـ 1906" علي سبيل المثال بعض اللوحات الجميله للفاكهه. انظر الي "تفاح، وخوخ، وكمثري، وعنب" التي رسمها سيزان في الفتره من 1879 الي 1880.

واضح ان هذه اللوحه اكثر تجريديه من السابقه. ومع ذلك فان ما تراه تمثيلي، اذ الاشياء في لوحه سيزان ليست بواقعيه الاشياء في لوحه رامبرانت. فلا يمكن ان تخلط بين لوحه لسيزان وصوره فوتغرافيهـ ولكن يسهل عليك ان تعرف انك تنظر الي فواكه مختلفه في اناء.

وانت حينما تنظر الي لوحه تمثيليه، تشعر علي الفور هل تعجبك اللوحه ام لا تعجبك. وانظر علي سبيل المثال نظره اخري الي اللوحتين السابقتين وقارن شعورك حين تنظر الي درس التشريح بشعورك حين تنظر الي اناء الفاكهه.

اما اللوحات التجريديه فامرها مختلف. ففيها تصميمات او اشكال او الوان لا تماثل اشياء معروفه معينه. ومن هنا، يكون فهم اللوحات التجريديه اصعب كثيرا من فهم اللوحات التمثيليه. فانت في واقع الامر حينما تنظر الي لوحه تجريديه لا تعرف في اغلب الحالات الام انت ناظر فعلا. ولنر الان كيف نمنطق هذا كله.

هناك بصفه عامه نوعان من اللوحات التجريديه. النوع الاول يصوّر اشياء تم "تجريدها" بعد اخذها من الطبيعه. فاذا بما تراه، وان لم يبد واقعيا، قريب بما يكفي لان تكوّن فكره عما انت ناظر اليه. علي اقل تقدير.

ولو انك رايت لوحه لكلود مونيه "فرنسي، 1840 ـ 1926" لعرفت ما الذي اتكلم عنه. في عام 1899، بدا مونيه يرسم سلسله لوحات بعنوان "زنابق مائيه" تصوّر حديقه منزله في جيفرني بنورماندي "بفرنسا". وبرغم ان ما في اللوحه لا يماثل فعليا الزنابق او المياه او السحاب الا انه قريب بحيث يسهل عليك ان تكوّن شعورا ازاء ما تراه.

ولكي تدرك ما ارمي اليه، انظر الي لوحه "زنابق مائيه.. السحاب" التي رسمها مونيه سنه 1903.

النوع الثاني من الرسم التجريدي هو الذي يشار اليه في بعض الاحيان بالفن التجريدي "المحض"، وهذا اشد صعوبه. فهذه اللوحات لا تعكس اي نوع من الواقع المعهود، فكل ما تراه لا يعدو اشكالا والوانا وخطوطا وانماطا وما الي ذلك. وهنا علي سبيل المثال لوحه لي عنوانها "ازرق #1" رسمتها سنه 2000.

كما تري، لا شيء في اللوحه يمكن التعرف اليه. لا بشر، ولا ثمار، ولا حتي زنابق. وطبيعي حينما تنظر الي مثل هذا الفن ان تتساءل عما يجعل احدا يبالي بابداع لوحات كهذه من الاصل. ما الذي كان يجول في خاطر الفنان؟

في بعض الحالات، قد يكون التصميم نفسه سارا للعين، وقد ننظر الي اللوحه بوصفها مجرد ديكور لا اكثر. غير ان الامر في اغلب الحالات لا يكون كذلك. فقدر كبير من الفن التجريدي في حقيقه الامر لا يكون سارا للعين. علاوه علي انه ما الذي يجعل فنانا ينفق الكثير من وقته في ابداع مجرد ديكور؟ لا بد ان في الامر ما هو اكثر من ذلك.

الحقيقه ان في الفن التجريدي اكثر بكثير مما تصادفه العين، ولكي نعرف سبب ذلك، علينا ان نتامل في الغرض الاساسي من الفن.

عليك، لكي تتذوق بصدق عملا فنيا، ان تراه اكثر من مجرد ابداع فردي معزول: فلا بد من وجود سياق. هذا لان الفن ليس خارج الزمن. فكل لوحه تنشا في بيئه معينه، واذا لم تفهم تلك البيئه فلن يتسني لك مطلقا ان تتذوق ما يقدمه لك الفنان. لذلك من المنطقي وانت تدرس عمل فنان معين ان تعرف شيئا عن حياته والثقافه التي عاش فيها.

برغم ان مزايا اللوحه تعتمد علي مهاره الفنان ورغباته، الا ان قدرا كبيرا مما تراه علي التوال يعكس البيئه التي ظهر فيها الفن. وكمثال علي ذلك انظر الي اللوحتين التاليتين.

اللوحه الاولي هي لوحه موناليزا الشهيره، ورسمها ليوناردو دافنشي "ايطالي، 1452 ـ 1519" في ما بين 1503 و1506، اما الثانيه فللاميره ديانا ورسمها سنه 1982 اندي وورهول "امريكي، 1927 ـ 1987. كل منهما بورتريه لسيده، رسمه فنان رفيع الموهبه، وفي كل منهما الوضعيه نفسها، ولكن لاحظ الفارق الصادم بين الاسلوبين.

لو درست حياتي دا فينشي وورهول، لوجدت ـ فلا يدهشك هذاـ ان ثمه اختلافات بينه بين الرجلين. غير ان هذه الاختلافات ليست السبب في التباين الفادح بين الاسلوبين.

فانت حينما تقارن بين اللوحتين، تري اختلافات ثقافيه اكثر مما تري اي شيء اخر. فالفنان حينما يبدع يخضع بقوه لتاثيرات الزمن الذي يعيش فيه، ومهما يكن خلَّاقا علي المستوي الشخصي، لا يكون له مهرب من حدود ثقافته.

وانت حينما تدرس تاريخ الفن، تري في كل مكان وزمان معينين، ان "مدرسه" ما هي المهيمنه في الفن وهي التي تحدد الثقافه الفنيه، التي يعمل في سياق اعرافها اغلب الفنانين. غير ان من الفنانين تجريبيين واصحاب رؤي يمضون الي ارض جديده، وفيما يفعلون ذلك يواجهون مقاومه هائله ممن لا يفهمون هذا الاسلوب "الجديد". ولكن، من اعمال هؤلاء المبتكرين، يتخلّق الفن.

والان ما علاقه هذا بالفن التجريدي؟

حتي نهايه القرن الـ19، كان الرسم كله تقريبا تمثيليا. كان الرسام يرسم لوحات مباشره، ينظر اليها الناس لهدف واحد هو ان يروا الصوره المعينه التي تم تصويرها.

في البدايه، تبدو هذه الفكره واضحه بما لا يدعونا الي عرضها من الاصل. فلاي سبب تنظر الي الصوره الا لتري ما هو مرسوم فيها؟ ولكن هناك كما سابيّن اسبابا اخري اكثر اقناعا للنظر الي لوحه. بل ان من الممكن في الحقيقه ان تختبر لوحه بطريقه تجعلك تتجاوز ما تراه الي ان تكتشف ما قد تشعر به.

في مطلع سبعينيات القرن الـ19، نشات حركه في فرنسا بدات بادخال التجريد الي الفن الجاد. هذه الحركه، المعروفه بالانطباعيه، انتجت اعمالا كانت للمره الاولي تتالف بالكليه من صور واقعيه.

كان الغرض الاساسي للانطباعيين بسيطا من وجهه النظر المفاهيميه: فقد ارادوا تصوير الطبيعه كما هي موجوده فعلا. فكدحوا كدحا خاصا من اجل قنص اثار الاضاءه دائمه التغير علي مدار اليوم من فصل الي فصل.

فمثلا، قضي الفرنسي مونيه ـ الذي ذكرته في ما سبق ـ كثيرا من الوقت في ابداع سلسله من اللوحات التي كان يرسم فيها الشيء نفسه في اوقات مختلفه من اليوم، قاصدا من ذلك تبيان تغير لون الشيء وشكله من ساعه الي التي تليها.

الق نظره علي هذه اللوحه لكومتي التبن التي ابدعها مونيه في ما بين 1890 و1891. لم يكن هدف مونيه ان يقدم صوره بسيطه لكومتي تبن، بل ان يبين لون كومتي التبن وشكلهما في يوم معين قرب نهايه الصيف. من وجهه نظر مونيه "وانا اتخيل هذا"، كانت اللوحه تدريبا اكثر مما كانت عملا فنيا.

في الوقت نفسه تقريبا، نشات بتاثير من الانطباعيه مدرسه فنيه جديده هي الانطباعيه الجديده. استعمل الانطباعيون الجدد كثيرا من النقاط الصغيره المتجاوره لاقامه اشكال والوان عديده. يمكنك ان تري هذا التكنيك. المعروف بالتنقيط pointillismـ في اللوحه التاليه وهي لوحه "عصر يوم احد في جزيره لا جراند جاتيه" التي ابدعها في ما بين 1884 و1886 جورج سيورات "فرنسي 1859 ـ 1891".

واخيرا، في ثمانينيات القرن الـ19 وتسعينياته، سعت جماعه متباينه الي تجاوز الانطباعيه وهوسها باثار الضوء المتغيره. ابدع هؤلاء الرسامون، المعرفون في مجموعهم بما بعد الانطباعيين، نطاقا عريضا من اللوحات المبتكره اللافته. كان من بين اهم ما بعد الانطباعيين بول سيزان "فرنسي، 1839 ـ 1906" الذي سبقت الاشاره اليه، وبول جوجان "فرنسي، 1848 ـ 1903" وفنسنت فان جوخ "هولندي، 1853 ـ 1890".

حينما تنظر الي لوحات الانطباعيين، ستلاحظ علي الرغم من تهدئتها جميعا للعين واراحتها للروح، انها اجمالا ممله. وليس هذا حال اعمال ما بعد الانطباعيين، كما يمكنك ان تري في اللوحتين التاليتين.

اليك اولا "من اين ناتي؟ وماذا نكون؟ والي اين نحن ذاهبون؟" التي رسمها جوجان سنه 1897.

واليك من بعد "السوسن" التي رسمها فان جوخ سنه 1889.

شهدت العقود الثلاثه الاخيره في القرن الـ9 انتقالين مهمين ومتمايزين. الاول هوـ كما ذكرت من قبل. تغير تدريجي من الفن التمثيلي الي التجريدي. ويمكنك ان تري هذا في اعمال الانطباعيين وما بعد الانطباعيين. اما التغير الثاني فكان اشد رهافه، لكنه اكثر اهميه بكثير. فباعمال ما بعد الانطباعيين، بدا غرض الفن نفسه يتغير.

ففي الشطر الاكبر من التاريخ، كان غرض الرسم الاساسي هو رسم الصور، بدلا من اثاره المشاعر والعواطف. غير ان التركيز بدا يتغير ابتداء من ما بعد الانطباعيين. فللمره الاولي، بدات مشاعر لاواعيه تجد طريقها الي متن الفن. والذي سمح بحدوث هذا هو ان الانطباعيين خفّفوا القيود، واتاحوا للانطباعيين الابتعاد عن جذورهم التمثيليه والاقتراب اكثر من التجريد.

من المؤكد ان ما بعد الانطباعيين كانوا لا يزالون اقرب الي الحرفيه في عملهم: فانت حينما تنظر الي اعمال سيزان او جوجان او فان جوخ، تعرف ما الذي انت ناظر اليه.

والحق انني في بدايه هذه المقاله استخدمت لوحه لسيزان هي "تفاح، وخوخ، وكمثري، وعنب" مثالا للفن التمثيلي. ومع ذلك فقد كان الانتقال التدريجي الي التجريد واقتناص المشاعر عميقه الغور حقيقيين وعارمين.

وسر الاهميه البالغه لهذا الامر يكمن في ان اغلب الحياه البشريه يجري في اللاوعي، تحت سطح الادراك وفي ما وراء قدرات اللغه والتفكير السببي. في هذا العالم السفلي، تكمن القوي البائسه الجامحه اللاعقلانيه التي تبث الحياه في وجودنا وتحدد معني ان نكون بشرا.

حتي القرن الـ20، كان علي الفنانين ان يقنعوا بما يصادفونه في مراعي سطح الوعي. وكانوا يحاولون بقدر ما يحاولون، فلا تكون لهم الا قدره وادوات محدوده لا تكاد تعينهم علي النفاذ الي قلب معني انسانيه الانسان. والمخ حينما يتعامل مع صوره يمكن التعرف عليها فان حاجزا ذهنيا يقوم حائلا دون دخول اللاوعي الي هذه العمليه.

وهكذا يفرض الفن التمثيلي بطبيعته حدودا علي مدي العمق الذي يستطيع ان يبلغه الفنان في دخوله علي عمليات اللاوعي لدي المشاهد.

ولكن مع ظهور التجريد، صارت للفنانين للمره الاولي اداه قويه تتيح لهم تفادي الادراك المباشر والوصول الي عالم الشعور غير الواعي الذي ما كان لهم ان ينفذوا اليه بغير هذا الاداه، ولقد تسني لهم ذلك لانه كلما ازداد العمل الفني تجريدا، قلّت التصورات المسبقه التي يستدعيها ذهن المشاهد.

والفن التجريدي قد يصبح اداه لانهائيه القوه في يد الممارس الماهر. ولكن هذه الاداهـ كما سابين حالاـ تستوجب ما يتجاوز مهاره الفنان، اذ هي تستوجب تعاونا من المشاهد. غير انني. قبل التطرق الي هذه النقطهـ اود المضي قليلا مع التاريخ.

بحلول مطلع القرن الـ20، كان الانتقال الي التجريد قد ولد قدره هائله. من قبل، كان الرسامون. المحصورون في اعراف الفن التمثيلي. قد الزموا انفسهم بحدود محاكاه الطبيعه او حكي القصص. ثم امكنهم. للمره الاولي. ان يلجوا عالما لم يكن الخيال اللامحدود متاحا فيه وحسب، بل ومرغوبا فيه ايضا. وهكذا ظهرت في اوربا وامريكا الشماليه في ما بين 1910 و1920 حركه جديده باتجاه التجريد في الفن والنحت علي السواء.

كان اول الفنانين التجريديين المهمين هو فاسيلي كاندينسكي "روسي، 1866 ـ 1944". ابدع كاندينسكي في الفتره من 1910 الي 1914 سلسله لوحات بعنوان "ارتجالات وتكوينات" لا تزال. بعد مضي قرابه القرن. صادمه في قدرتها علي اجتناب الوعي واثاره مشاعرنا الداخليه. وانظر مثلا الي لوحه "ارتجال 7" المفضله لدي والتي رسمها كاندينسكي سنه 1910.

كان عمل كاندينسكي شديد التاثير، فساعد في التبشير بعصر قام فيه عدد من الحركات التجريديه واحده تلو الاخري: التكعيبيه، المستقبليه، الدواميه Vorticism، النيوبلاستيه Neoplasticism، الداديه، السرياليه، الي اخر تلك الحركات. وبدلا من ان اصف كلا من هذه الحركات بالتفصيل، اود ان اقفز الي ما اعتبره النقطه الفارقه في فن القرن الـ20: اي التعبيريه التجريديه.

لقد ظهر ما نطلق عليه التعبيريه التجريديه في نيويورك في مطلع اربعينيات القرن الـ20. ولم تكن مدرسه فنيه محدده بقدر ما كانت طريقه تفكير. قام التعبيريون التجريديون بالانفصال الاخير عن اعراف الماضي الصارمه، بان اعادوا تعريف معني الفنان. فكان جوهر ما قاموا به هو التمرد علي عالم الفن المحكوم بالمقبول والمتفق عليه.

وبرغم ان فكره التجريد كانت حاضره منذ بعض الوقت، مضي التعبيريون التجريديون الي ما هو ابعد بكثير. فقد بداوا بالتاكيد، لا علي المنتج النهائي وحده، بل وعلي عمليه الرسم ذاتها. فشملت تجاربهم طريقه التفاعل مع الطلاء والقماش والادوات، واولوا اهتمامهم للسمات الماديه للطلاء نفسه، اي نسيجه ولونه وشكله.

اعرف ان ذلك يبدو غامضا ومفتعلا، لذلك ساوضح لك ما الذي يعنيه هذا كله. لكن دعنا نلق نظرهـ قبل ان افعل هذاـ علي لوحه تعبيريه تجريديه، فيتسني لك ان تكوّن احساسا عما اوشك ان اتكلم عنه.

اللوحه التاليه رسمها جاكسن بولوك "امريكي، 1912 ـ 1956" رائد ما عرف بـ"الرسم الحركي action painting". عرفت اللوحه في الاصل باسم "رقم 1، 1950"، لكن باقتراح من ناقد فني يعرف بكليمنت جرينبرج صار اسمها "ضباب الخزامي" "برغم انه ما من خزامي بالطبع".

صيغ مصطلح " الرسم الحركي" لوصف التقنيات التي كان يستخدمها بولوك. فقد كان يثبّت قطعه كبيره من القماش علي ارضيه مرسمه، ثم يقطّر الطلاء ويلقيه ويرشه عليها، مستعملا في الغالب طلاءات منزليه عاديه لتفضيله انسيابيتها.

والان، اعرف انك حينما تنظر الي لوحه كـ"ضباب الخزامي" للمره الاولي لن تري اكثر من فوضي مربكه من الخطوط والنقاط التلا لا يمكنك تمييزها. واسمعك تقول "ما الذلا يعنيه هذا؟ وكيف يعد مثل هذا الشيء البدائي الفج فنا رفيعا؟ هذا اشبه بما يمكن ان ينتجه طفل ضجر ان ترك بغير رقابه في مرسم".

وقبل ان ابين لك لماذا تعد "ضباب الخزامي" فنا رفيعا بالفعل، ساحكي لك حكايه. قبل سنوات قليله، قررت الذهاب الي واشنطن بنفسي، وكان ذلك في منتصف الشتاء وعاصفه جليديه تضرب المدينه. كنت وحدي تماما، فقررت ان اسير الي الجاليري الوطني للفن. كانت الشوارع موحشه وخاويه، وفيما كنت ادخل المتحف، رايت انه خاو هو الاخر.

سالت موظفه الاستعلامات ان كان لديهم اي شيء لجاكسن بولوك. فاجابت الموظفه بالايجاب، وارشدتني الي القاعه المخصصه للوحاته ورسوماته. كنت قد سمعت عن بولوك ورايت صورا فوتغرافيه لاعماله، ولكنني لم اكن رايت من قبل عملا له راي العين.

لا ازال اتذكر احساسي وانا انزل الدرج، واستدير وانظر الي الجدار. كنت وحدي تماما في قاعه ضخمه، وكانت هناك، علي جدار بعيد، لوحه "ضباب الخزامي". كان تاثيرها علي غير متوقع بالمره. كانت تلك هي المره الوحيده في حياتي التي تحبس لوحه فيها انفاسي حرفيا. اعرف ان كلامي هذا يبدو رخوا، ولكن رؤيتي هذه اللوحه غيرتني الي الابد.

كيف يكون هذا؟ لقد رايت انت صوره للوحه، ولا اعتقد انك شعرت انها غيرتك الي الابد. علي اولا ان اقول ان اللوحه الاصليه ضخمه، يوشك طولها ان يبلغ 3 امتار. وهي جليله بحق حين تراها مباشره، لا سيما في قاعه ضخمه، حيث تبدو اللوحه وكانها تهيمن عليك، وتشدك، وتاخذك اليها.

ثانيا، ما تراه في الصوره السابقه لا يشبه في شيء اللوحه الحقيقيه. ليس فقط لان الصوره علي شاشه الكمبيوتر لديك اصغر كثيرا من اللوحه الاصليه، بل لان الالوان علي شاشتك مصمته وغير دقيقه، واهم من ذلك انك لا تستشعر عبر الشاشه نسيج الطلاء والقماش.

وانا متاكده انك تفهم هذا كله. فلا احد يجهل ان مشاهده اللوحه الحقيقيه تختلف عن النظر الي صوره لها عبر شاشه كمبيوتر، او شاشه عرض كما في محاضرات الفن مثلا.

غير ان هناك سببا اخر لتاثري البالغ بـ"ضباب الخزامي"، وهو سبب شديد الارتباط بغرض الفن نفسه. ولكي نناقش هذا علينا ان ننظر في هذا السؤال: لماذا نبدع الفن؟

ثمه عدد من الاسباب المباشره لابداع البشر للفن: للديكور، لحكي القصص، للقبض علي صوره او الابقاء عليها، او للتعبير عن فكره. ولكن هناك سببا ادق واهم بكثير يبين اهميه الفن بالنسبه لنا.

ان الحاجه الي ولوج انفسنا والتلاعب بمشاعرنا غير الواعيه حاجه انسانيه عامه. وكلنا نشبع هذه الحاجه بدرجه ما وان كنا في اغلب الوقت نجهل ما نفعله.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل